من ذاكرة المام ـ رئيس :طالباني: البعثيون تذرعوا بالخوف من عبد الناصر.. لكنه كان صديقا للشعب الكردي وناصر قضيتنا

الرئيس طالباني يتحدث لـ الشرق الاوسط عن ذكرياته.. ويكشف خفايا المفاوضات الأولى مع بغداد (الحلقة 8)

جلال طالباني مرتديا الزي الكردي خلال اللقاء مع الرئيس جمال عبد الناصر عام 1963 («الشرق الأوسط»)
TT

بدا كل شيء متوترا في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، حتى الزمن توتر ولم يعد في صالح أحد، فما سمي بـ«ثورة تموز» 1958 لم يخلف سوى القتل والجراح والحزن والمآسي، وحتى اليوم يتحدث كبار السن من العراقيين فيقولون إن كل المآسي التي تحدث في البلد هي عقوبة للعراقيين الذين لم يتوانوا عن ذبح العائلة المالكة ورئيس الحكومة نوري السعيد مع نجله.

ومع مجيء قاسم (الزعيم الأوحد) و(الابن البار) وتعالي أصوات مؤيديه في محكمة المهداوي (محكمة الشعب) وهم يحملون الحبال ويصرخون «اعدم..عبد الكريم اعدم»، حتى تحول المشهد العراقي إلى ساحات من الاقتتال والتناحر في الموصل والجنوب والوسط، حتى الزعيم نفسه، العسكري القلق الذي لم تكن له تجربة في السياسة كان متوترا لا يعرف كيف يقود السفينة، فمرة يقرب الشيوعيين ومرة يبعد القوميين، ومرة يناصر الأكراد ويستقبل زعيم ثورتهم ملا مصطفى بارزاني، ومرة يرسل طائراته المقاتلة لتقصف مدنهم وقراهم وتقتل الأبرياء، ويسجل التاريخ العراقي أن أول حكومة جمهورية كان الأكراد ينتظرونها هي التي دشنت عصر حرب الحكومات العراقية ضد أكراد العراق، وسارت بقية الحكومات على النهج الدموي ذاته.

لم تحقق العمليات العسكرية التي شنها عبد الكريم قاسم ضد الأكراد أية نتائج، بل على العكس كان مقاتلو البيشمركة هم من ينتصر في المعارك وفي حرب العصابات التي كانوا يشنونها على مواقع الجيش العراقي، وغالبا ما كان الجنود يعودون بعد أسرهم من قبل المقاتلين الأكراد ليتحدثوا في بقية المدن العراقية عن أسرهم والتعامل الإنساني الذي أبداه الأكراد معهم حتى إعادتهم إلى عوائلهم، وكان العراقيون يطلقون على هذا القتال اسم (حرب الشمال)، بينما كانت التسمية الرسمية العراقية للأكراد هي المتمردين. وظهر اسم ملا مصطفى بارزاني باعتباره زعيما قوميا وأنه لا يريد مقاتلة أبناء شعبه من العراقيين.

في فبراير (شباط) اتفق البعثيون مع عبد السلام عارف، الذي شارك قاسم انقلاب 14 يوليو (تموز)، والذي اختلف مع رفيق سلاحه بسبب ادعائه بأنه هو من خطط وقاد الثورة بينما سرق قاسم جهوده، وعلى إثر خلافات طويلة عزله قاسم واعتقله ثم أبقاه تحت الإقامة الجبرية ولم يعدمه، لهذا اتفق، عارف، مع البعثيين على انقلاب أطاح بقاسم في فبراير (شباط) 1963، حيث أعدم قادة الانقلاب من البعثيين رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم في أحد استوديوهات الإذاعة العراقية في الصالحية.

كان النظام الجديد الذي ترأسه عارف، بينما ترأس الحكومة أحمد حسن البكر، بحاجة إلى أخذ نفس والاستقرار لتركيز حكمهم، وكانت عمليات الشمال أو مقاتلة الأكراد ستكلفهم الكثير لو قرروا الاستمرار فيها، لهذا لجأوا إلى هدنة مفاوضات، يتحدث عنها طالباني باعتباره كان رئيسا للوفد الكردي المفاوض مع الحكومة، فيقول «بعد مؤامرة شباط 1963 والتي سيطر فيها عبد السلام عارف والبعثيون على السلطة بعد إعدامهم لقاسم، جرت مفاوضات بيننا وبين حكومة عارف، أرسلت من قبل بارزاني والمكتب السياسي، وكان كلاهما يثق بي، إلى بغداد لإجراء مفاوضات مع النظام الجديد، وذهبنا إلى بغداد أنا وصالح اليوسفي، وخصصت لنا الحكومة السكن في فندق بغداد الذي كان من أشهر الفنادق العراقية وقتذاك، وفي الليل زارنا رئيس أركان الجيش الفريق طاهر يحيى، فسألني عن مطالبنا فقلت: نحن على نفس الاتفاق السابق، حيث كان هناك اتفاق قبل إسقاط قاسم عبر الرسائل بين قادة النظام الجديد وبين إبراهيم أحمد، ومفاده أن يعترفوا بالحكم الذاتي للأكراد بعد إسقاط النظام الديكتاتوري، فقال: هذا جيد. في اليوم التالي التقيت برئيس الجمهورية عبد السلام عارف ورئيس الوزراء أحمد حسن البكر، ووزير الدفاع صالح مهدي عماش ونائب رئيس الوزراء وزير الداخلية علي صالح السعدي، وحازم جواد الذي كان وقتذاك وزير الخارجية وكالة. أما الوفد الكردي فقد كان برئاستي وعضوية صالح اليوسفي والشيخ بابا الشيخ علي محمود (كان وزيرا)، وفؤاد عارف (كان وزيرا) ومحمد سعيد خطاب، وآخرين، وفي اللقاء الأول تحدثنا عن الحكم الذاتي وقال البعثيون: نحن نوافق من حيث المبدأ على الحكم الذاتي لكننا نريد مهلة من الوقت. كان عماش هو من طلب المهلة، لكن البكر قال: نحن نخاف من الرئيس جمال عبد الناصر (الرئيس المصري الأسبق) ربما يقول إننا سنجزئ العراق ونقسم الوطن العربي إذا أعطيناكم الحكم الذاتي. وكان الوفد العراقي متهيئا للسفر إلى القاهرة للمشاركة في احتفال الوحدة بين مصر وسورية في 22 فبراير (شباط)، فاقترحوا علينا السفر معهم حتى يكسبوا عبد الناصر إلى جانبهم، وقد لا يوافق على مطالبنا حول الحكم الذاتي، فسافرنا أنا وفؤاد عارف معهم».

ويدلي هنا طالباني بمعلومة مهمة عن البعثيين، فيقول «دعني أقل لك شيئا مهما، وقد يكون هذا الرأي الذي سأقوله غريبا عما تسمعه عن البعثيين، وهو أن حزب البعث لم يكن وقتذاك قد قرر محاربة الشعب الكردي، وكان مقررا من قبلهم أن يعطونا بعض الحقوق، وإذا لم نوافق عليها فإنهم سوف يحاربوننا، ولو رجعنا إلى كتاب عن (القضية الكردية في العراق) تأليف الدكتور جمال الأتاسي، يقول في مقدمته، أنه (عندما جاء علي صالح السعدي إلى دمشق سألناه عن الأكراد في العراق، وقال نعم صارت بيننا بعض اللقاءات ونحن أعطيناهم بعض الوعود، والآن سننفذ لهم بعض الوعود وإذا لم يستجيبوا فسوف نقضي عليهم بسرعة) حتى أني سمعت آراء مختلفة في بغداد عن القضية الكردية، ففي رحلتنا الجوية من بغداد إلى القاهرة كنت أجلس في الخلف وجاء السعدي ليجلس إلى جانبي، وسألني عن أوضاع الأكراد، ثم قال لي: نحن حزب البعث، حزب اشتراكي نؤمن بحقوق الشعوب والقوميات، بل نؤمن بحق الشعب الكردي حتى بحقه في تقرير مصيره، ولكن نريد أن نسلم هذا الحق إلى قوى تقدمية كردستانية، وأن يكون ذلك في الظرف المناسب. ثم عقب قائلا: أنتم الآن ترتكبون خطأ كبيرا بإيوائكم للشيوعيين وحمايتهم وكذلك الهاربين من وجه القانون وهذا موقف معاد من الثورة. فقلت له: نحن عندنا التزامات أخلاقية تجاه الشيوعيين، ومثلما كنا معكم في فترة المعارضة، فقال: لنتحدث عن هذا الموضوع فيما بعد. وقد أعطاني السعدي انطباعات بأنهم حتى ضد قتل الشيوعيين، حيث قال لي: عندنا عدد من القادة الشيوعيين المعتقلين. وأنا ما كنت أعرف هذا، مثل سلام عادل وغيره، وأضاف (السعدي) قائلا: ونحن الآن نجري معهم مفاوضات للوصول إلى نتائج. ولو قرأنا كتاب هاني الهندي (مؤلف كتاب حركة القوميين العرب) سنعرف كيف أن العسكر باغتوا السياسيين وقتلوا قادة الحزب الشيوعي العراقي من غير أن يسمحوا باستكمال المفاوضات».

ويستطرد الرئيس طالباني «أما حازم جواد، أطال الله في عمره، فقد كان رئيسا للوفد العراقي المفاوض، التقيناه في وزارة الخارجية، وقال لنا: نحن كاشتراكيين تقدميين نعترف بحق الشعب الكردي بتقرير مصيره وبما في ذلك حق الاستقلال، ونعتقد بأن الحل النهائي للقضية الكردية هو بوجود كردستان اشتراكية مستقلة، هذا هو رأينا، لكننا يجب أن نبحث في الظروف التي تساعدنا وإلى أي مدى ستساعدنا، هذا ما نريد أن نبحثه معكم، فأجبته: إننا راضون أن تمنحونا نصف ما تحدثتم به وهو الحكم الذاتي وليس الاستقلال. وكان إيجابيا كثيرا وترسخ في ذهني انطباع جيد عن هذا الرجل باعتباره إنسانا تقدميا وغير شوفيني ومنطقيا، حتى إننا ارتبطنا بصداقة استمرت حتى عندما استلم البعث السلطة ثانية (بعد 1968)، إذ كان غالبا ما يقول لي بأن نهتم بالحوار مع صدام حسين كونه أهم شخص في الدولة والحزب، وأن ما يقرره صدام هو الذي ينفذ. كما استمرت علاقتنا بعد خروجه من العراق وكنا نلتقي عندما كنا في المعارضة في لندن وكان متعاطفا معنا». ويتابع الرئيس طالباني «وسأكشف لك سرا عن حازم جواد، ففي إحدى المرات وبعد المرحلة الثانية من الثورة الكردية حيث كان وضعنا سيئا، التقيت به في منزل عمر مصطفى ببغداد فأخذني إلى المطبخ وكنا لوحدنا فأعطاني عشرة آلاف دولار، وقال: والله هذا من مالي الحلال وأنا لست بحاجة إليها مثلما أنتم في الثورة الكردية بحاجة لها فأرجوك خذها مني كدعم لثورتكم. وأنا منذ زمن أبحث عنه وأتمنى أن تنشروا ذلك في جريدتكم عسى أن نتوفق في لقائه وتحيته». كان الخطأ الكبير الذي وقعت فيه الحكومة الجديدة هو دعوة طالباني لمرافقتها للقاء الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إذ كان هذا المقترح يهدف إلى خلق عداء بين عبد الناصر وطالباني كون البعثيين اعتقدوا وقتذاك بأن الرئيس المصري، زعيم القومية العربية لن يسمح للأكراد بالحكم الذاتي وسيعتبر ذلك تفتيتا للأراضي العربية، وما إلى ذلك، لكن تأتي الرياح على عكس ما اشتهت سفن الحكومة العارفية ـ البعثية، ويقول طالباني «في القاهرة استقبلنا عبد الناصر كوفد عراقي لكننا، أنا وفؤاد عارف طلبنا أن نلتقي به بصورة خاصة ووافق واستقبلنا، وإذا تشاهد صورتي مع عبد الناصر سوف تجدني بالزي الكردي، وهذا ليس لأنني متشبث بالزي الكردي وانطلاقا من نظرة قومية، لا، وإنما عندما وصلت إلى بغداد ليلة 18 فبراير (شباط) كنت قد جئت من السليمانية بملابسي ولم يكن لدي ببغداد بدلة اعتيادية (ملابس مال أفندية)، ولم يتح لي الوقت في بغداد لأن أخيط بدلة اعتيادية لهذا سافرت بملابسي الكردية. وعندما قدمني عبد الرحمن البزاز إلى عبد الناصر قال له: سيادة الرئيس أرجو أن لا تنخدع بهذه الملابس، ذلك أن جلال طالباني محام وكان من تلامذتي في كلية الحقوق، فاستطردت أنا وقلت: نعم كنت تلميذه وهو من فصلني من الكلية عندما كان عميدا لها.

وأيضا، وعلى عكس ما كان يتوقع وفد الحكومة العراقية من أنهم سيسمعون مباركة عبد الناصر لمقتل قاسم بسبب الخلافات العقائدية التي كانت بين الاثنين، فإن ما سمعوه هو على العكس من هذا تماما، وحسب طالباني، تحدث عبد الرزاق شبيب عن الشيوعيين، فقال عبد الناصر «يا إخوان دعوني أقل لكم بأني تألمت لمقتل كل من قتل في العراق وفي مقدمتهم عبد الكريم قاسم، فهذا الرجل قاد ثورة وكان يجب أن ترسلوه إلينا هنا في القاهرة بدلا من قتله، لكنني لم أتألم لمقتل المهداوي (فاضل المهداوي رئيس محكمة الشعب في عهد قاسم)، أنا لم أفرح ولكني لم أتألم لمقتله لأنه شتم عرضنا وكان يشتمنا كل يوم. ثم طلبت منه أن نلتقيه أنا وفؤاد عارف الذي كان وزيرا في الحكومة الجديدة، فقال: أهلا وسهلا. وكنا سنذهب مع الوفد الحكومي العراقي إلى الجزائر، فاستقبلنا وتحدثنا عن القضية الكردية والأكراد، وأبلغناه تحيات ملا مصطفى بارزاني والمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وقلنا له إننا لا نريد الانفصال عن العراق، ولسنا ضد القومية العربية، بل نحن نؤيد حركة القومية العربية برئاستكم، وذكرناه بأننا لم نقف ضد الجمهورية العربية المتحدة (اسم جمهورية مصر آنذاك) في عهد قاسم على الرغم من أننا حزب علني، وأن كل ما كنا نتمناه هو تدخله للحصول على الحكم الذاتي ضمن العراق ولا نريد الانفصال ولا معاداة الأمة العربية. ويضيف طالباني أن عبد الناصر قال «نحن في القومية العربية ليس لدينا موقف مبدئي ثابت من القضية القومية، على العكس من الشيوعيين الذين لهم موقفهم في هذا الموضوع، ثم سحب كتابا من مكتبته وكان عن موضوع القوميات حسب الفكر الماركسي لـ(لينين)، واستطرد قائلا: الماركسية لها موقف من هذه القضية، ثم قال: أنا استمعت لكم وسأفكر بما قلتموه وعندما تعودون من الجزائر سيكون لنا لقاء، وشدد على عدم تجدد القتال وعلى أهمية الكفاح العربي الكردي المشترك».

ويجد طالباني ووفد الحكومة العراقية في الجزائر موقف الرئيس الجزائري آنذاك، أحمد بن بيلا، أكثر وضوحا ومساندة لهم، ويوضح طالباني قائلا «سافرنا إلى الجزائر، والتقينا الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا الذي كان موقفه أكثر وضوحا من القضية الكردية، وقال للوفد الحكومي العراقي بصراحة: يا إخوان ارضوا بالحكم الذاتي وأسرعوا بتطبيقه لأنه سيأتي يوم يطالبكم فيه الأكراد بأكثر من الحكم الذاتي، وأنا أتحدث لكم بهذا الوضوح اعتمادا على تجربتنا في الجزائر، إذ رفض الفرنسيون منحنا الحكم الذاتي عندما كنا نطالب به، فأصررنا على الاستقلال التام، ثم إن الشعب الكردي شعب مسلم وصديق». يعود وفد الحكومة العراقية ومعهم طالباني وعارف من الجزائر إلى القاهرة، وكان أشد المتحمسين لهذه العودة للقاء عبد الناصر هو طالباني لمعرفة رأي الرئيس المصري حول موضوع الحكم الذاتي حسبما وعدهم. يقول طالباني «عندما عدنا من الجزائر التقينا عبد الناصر، وقال إنه درس الموضوع وقال لي بأنه موافق على الحكم الذاتي وحسب الشرح الذي قدمته له، وقال في تصريحات صحافية فيما بعد: أنا وافقت على الحكم الذاتي للأكراد بناء على الشرح الذي قدمه لي جلال طالباني. وطلب منا عدم البدء في القتال وأن نعطي فرصة للحكومة الجديدة في العراق، ونبهنا إلى أن شاه إيران يستغل قضيتكم الكردية فلا تعطوه هذه الفرصة، وقلت له بأن البكر يقول: نحن نريد أن نوقع على الحكم الذاتي لكننا نخاف من عبد الناصر، فقال أخبروه بأن يوقع معكم الاتفاق وأن تأتوا إلى القاهرة لأعلنه أنا بنفسي هنا».

ويتابع الرئيس طالباني «عدنا إلى بغداد وأخبرتهم بما قاله عبد الناصر نصا، إذ لم تبق لهم أية حجة، لكن عماش أصر على تأجيل التوقيع، فعندما التقيناه بمكتبه في وزارة الدفاع، وكان يجلس وراء مكتبه كوزير للدفاع، قال لي: تفضل اجلس هنا في مكاني واكتب نص وثيقة الحكم الذاتي وسأذهب لآتي لكم بتواقيع مجلس قيادة الثورة، ولكننا نريدكم أن تصبروا علينا لستة أشهر. فأجبته بأني لا أملك صلاحية التأجيل وقلت: أنتم تعترفون بوجود اتفاق سابق بينكم وبيننا وأنتم موافقون عليه ونحن جئنا لتنفيذ هذا الاتفاق، أما موضوع التأجيل فيجب أن أذهب وأبلغ بارزاني ونبحث الأمر. لهذا عدنا إلى منطقة رانية بخفي حنين حيث كان ملا مصطفى بارزاني هناك ولم يتحقق أي شيء لأنه لم يوافق على التأجيل». ويعترف طالباني، قائلا: دعني أقل لك شيئا هو أننا أعضاء الوفد المفاوض، أنا والشيخ بابا الشيخ محمود ومحمد سعيد الخفاف وصالح يوسفي وفؤاد عارف، كنا مع هذا العرض وهو تأجيل التوقيع على أن يمنحونا وثيقة تقر بحقنا في الحكم الذاتي وموقعة من قبل مجلس قيادة الثورة ومؤجلة التنفيذ حتى ستة أشهر قادمة، فهذا يعتبر نصرا كبيرا واعترافا منهم بحقوق الشعب الكردي، وبأن الحكم الذاتي ليس جريمة أو انفصالا عن العراق ولا حتى مؤامرة ضد الأمة العربية. واعتبرنا أن فترة الستة أشهر قليلة جدا بينما هم في اتفاقية آذار أعطوا عامين للتوقيع على مذكرة الحكم الذاتي، لكن المشكلة هي أنهم لم يكونوا جادين في هذا العرض، بالإضافة إلى أن بارزاني رفض العرض».

ورغم مناورة الحكومة العراقية وقتذاك مع الأكراد فإنهم حافظوا على وعدهم للرئيس عبد الناصر بعدم بدء القتال، ويوضح طالباني قائلا «حسب وعدنا للرئيس عبد الناصر فنحن لم نتجه إلى القتال وقررنا البقاء في موقف الدفاع وكنا نعرف أن الحكومة العراقية هي التي ستباشر بقتالنا».

بعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات بين الحكومة العراقية والأكراد بسبب إصرار صالح مهدي عماش، وزير الدفاع على تأجيل توقع الاتفاق لمنح الأكراد حق الحكم الذاتي، لم تقطع القيادة الكردية الأمل في إمكانية المواصلة ومحاولة إرساء دعائم السلام في عموم العراق، ومن باب إصرارها على السلام وفي أن يعيش الشعب العراقي بكل قومياته وفئاته باستقرار ووئام فقد تم عقد مؤتمر شعبي وعشائري وسياسي في كويسنجق وحضره ملا مصطفى بارزاني الذي كلف مام جلال برئاسته، وتم اقتراح تشكيل وفد من الشخصيات العشائرية والحزبية ضم صالح اليوسفي وحبيب محمد كريم والعقيد الركن مصطفى عزيز وشخصيات معروفة مثل حسين خانقاه ومسعود محمد ورشيد عارف ومحمد سعيد خفاف والوزيرين الكرديين بابا علي وفؤاد عارف، وقد كلف بارزاني مام جلال رئاسة هذا الوفد، حيث يصف طالباني علاقته بالزعيم بارزاني قائلا «كانت علاقتي جيدة جدا مع الزعيم بارزاني وكنت مقربا منه حتى حدث الاختلاف في عام 1964، وكنت من أشد الموالين له وكان يكن الكثير من المحبة لي، وهو الذي رشحني وباقتراح منه لأترأس الوفد الكردي المفاوض مع الحكومة العراقية مرتين، مرة من قبل الحزب والثانية في مؤتمر كويسنجق كما ذكرت، وكنت غالبا ما أمزح معه ويتقبل هذا المزاح». يستطرد طالباني قائلا «ذهبنا إلى بغداد ثانية للتفاوض فقدمت لنا الحكومة مشروع المحافظات وهو مشروع فضفاض لا أهمية له يعطي صلاحيات أكثر للمحافظات، وليس مشروع الحكم الذاتي، ونحن رفضنا هذا المشروع. الحكومات العراقية للأسف كانت دائما تتخيل أننا سننفصل عن العراق مع أننا لم نرفع في أي يوم شعار الانفصال، فالعراق وطننا وبلدنا وهذا شعبنا، كل ما كنا نطمح إليه هو أن يكون في العراق نظام ديمقراطي تعددي نستطيع أن نعيش فيه إلى جانب بقية العراقيين ونحن نتمتع بحقوقنا، ولم نفكر باستقلال كردستان عن العراق وإقامة دولة كردية مستقلة لأن ذلك غير ممكن التحقيق. أنا دائما أتحدث مع شبابنا الكردي المتطرف الذين يطالبون اليوم بدولة مستقلة، فأقول تصوروا أننا اليوم أعلنا الاستقلال وعندنا حكومة وبرلمان، وتخيلوا أن الدول المجاورة لنا إذا لم تحاربنا، وهذا مستحيل لأنها ستحاربنا إذا أعلنا الاستقلال، فإنها على الأقل ستقطع علاقاتها معنا وتحاصرنا فكيف سنعيش، ماذا سنستورد وسنصدر؟ سيقطعون حتى المياه علينا ولا يتمكن أحد من الوصول إلى مناطقنا، إذن فكرة الاستقلال عبارة عن خيال، خيال جميل، نعم ولكن حزبا سياسيا مسؤولا عن جماهيره وشعبه لا يمكن أن يتصرف إلا بروح المسؤولية، لهذا أنا حتى ما كنت في السابق أتصور أن تكون عندنا حكومة مستقلة بل كنت أناضل من أجل عراق تحرري ديمقراطي تقدمي ونعيش ضمنه كحكم ذاتي أو اتحاد فيدرالي، وهذا ما كنا نطمح إليه في بداية تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني».