من ذاكرة المام ـ رئيس ـ طالباني: طالبنا أن نكون جزءا من الوحدة الثلاثية كي لا تضيع حقوقنا.. ولنفند كذبة البعث

الرئيس العراقي يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن ذكرياته.. ويؤكد: الخلاف مع بارزاني ما كان يجب أن يحدث وقد أضعف الثورة الكردية (الحلقة 9)

جلال طالباني وزوجته هيرو خان مع نجليهما بافل وقوباد في القاهرة عام 1974
TT

تتداخل حياة مام جلال بين ما هو شخصي وحزبي، بل يكون الحزب هو كل شيء، خاصة وهو (طالباني) في أوج شبابه، حيث يمضي إلى قمة الطريق غير مبالٍ بالصعاب التي تعترضه. وفي خضم ذلك يذكره رفاقه، أعضاء المكتب السياسي، بأنه لا يزال أعزب، وأن عليه أن يتزوج، بل هم من يختارون له شريكة حياته التي يوافق عليها لأنه يعرفها ابنة من، ومن تكون، ويفرح بهذا الاختيار.

في الجبل، صار عندهما، هو وزوجته، كوخ مبني من الطين على أطراف قرية تقع عند آخر حدود محافظة السليمانية، والسعادة تغمره طالما كان في الجبل وهو يكافح من أجل قضية يؤمن بها، وهذه ليست شعارات يرفعها في زمن الرخاء، بل هذا واقع عاشه في زمن الثورة الكردية. في حين تصف زوجته، هيرو خان، حياتهما في الجبل بأنها عبارة عن «حياة داخل حقيبة متنقلة».

وحتى عندما يصبح أبا لولدين فإن حياته، وحياة عائلته، تبقى، مثلما قالت زوجته، «حياة داخل حقيبة سفر»، فالولدان يترعرعان في أحضان جديهما والدي زوجته، إبراهيم أحمد، الأستاذ والرفيق الحميم، وزوجته بعيدا عنهما في لندن، وهيرو خان باعتبارها مراسلة حربية تمضي مع اللحظات الصعبة والحرجة، وما أكثرها في الجبل، لتقتنصها عبر عدسات كاميراتها لتتحول إلى وثيقة وتاريخ، والأب، أو مام جلال طالباني، يضع بصماته على صخور هذا الجبل، وذاك، من جبل «ماوت» مرورا بجبل «ازمر» وحتى أعماق جبل «بيرة مكرون»، فجبل «سارة» في دوكان، متقدما جحافل مقاتليه من البيشمركة ليؤسس تاريخا جديدا للأكراد ولكردستان وللعراق.

بعد فشل الجولة الأولى من المفاوضات بين الحكومة العراقية والأكراد بسبب إصرار صالح مهدي عماش، وزير الدفاع، على تأجيل توقع الاتفاق لمنح الأكراد حق الحكم الذاتي، لم تقطع القيادة الكردية الأمل في إمكانية المواصلة ومحاولة إرساء دعائم السلام في عموم العراق، ومن باب إصرارها على السلام، وفي أن يعيش الشعب العراقي، بكل قومياته وفئاته، في استقرار ووئام، فقد تم عقد مؤتمر شعبي وعشائري وسياسي في كويسنجق وحضره ملا مصطفى بارزاني الذي كلف مام جلال برئاسته، وتم اقتراح تشكيل وفد من الشخصيات العشائرية والحزبية ضم صالح اليوسفي، وحبيب محمد كريم، والعقيد الركن مصطفى عزيز، وشخصيات معروفة مثل حسين خانقاه، ومسعود محمد، ورشيد عارف، ومحمد سعيد خفاف، والوزيرين الكرديين بابا علي، وفؤاد عارف. وقد كلف بارزاني مام جلال لرئاسة هذا الوفد، حيث يصف طالباني علاقته بالزعيم بارزاني قائلا: «كانت علاقتي جيدة جدا بالزعيم بارزاني، وكنت مقربا منه حتى حدث الاختلاف في عام 1964، وكنت من أشد الموالين له، وكان يكن الكثير من المحبة لي، وهو الذي رشحني وباقتراح منه لأترأس الوفد الكردي المفاوض مع الحكومة العراقية، مرتين، مرة من قبل الحزب، والثانية في مؤتمر كويسنجق، كما ذكرت، وكنت غالبا ما أمزح معه ويتقبل هذا المزاح».

يستطرد طالباني قائلا: «ذهبنا إلى بغداد مرة ثانية للتفاوض، فقدمت لنا الحكومة مشروع المحافظات، وهو مشروع فضفاض لا أهمية له، يعطي صلاحيات أكثر للمحافظات، وليس مشروع الحكم الذاتي، ونحن رفضنا هذا المشروع، في ذلك الوقت كانت الحكومة مشغولة بالمحادثات مع مصر لتشكيل الوحدة الثلاثية المصرية السورية العراقية، وكي لا يضيع الأكراد حقوقهم بين ثلاث دول قوية وكبيرة، تعتزم قيام الوحدة فيما بينها، قاموا بتقديم مذكرة إلى مؤتمر القاهرة».

ويضيف طالباني: «قدمنا هذه المذكرة التي حملت توقيعي، قلنا فيها إن الوحدة المقترحة بين الدول الثلاث إذا صارت وحدة اندماجية فإننا نريد أن تكون كردستان قطرا مستقلا ضمن هذه الوحدة، أما إذا تم الاتفاق على مشروع وحدة فيدرالية فإننا نطالب بحكم ذاتي موسع ضمن الاتحاد العربي المقترح. هذا المقترح كان ردا على كذبة أطلقها (البعث) مفادها أن الأكراد يعارضون قيام وحدة عربية بين الأقطار الثلاثة (مصر والعراق وسورية) حتى يستعدي العرب علينا، لكننا قطعنا عليه الطريق وبرهنّا للعرب بأننا مع هذه الوحدة وضمنها، سواء كانت اندماجية أو فيدرالية، لكننا نريد الحفاظ على حقوقنا في كلا الحالتين».

وأضاف طالباني: «وحتى نوضح رأينا أكثر ذهبت بنفسي إلى القاهرة، وكان معي شوكت عقراوي، والتقينا هناك، أولا، بالمشير عبد الحكيم عامر، حيث كان الرئيس عبد الناصر في مؤتمر القمة العربي في الإسكندرية، والتقينا به بعد عودته، كان ذلك في أواخر شهر مايو (أيار)، وتحدثنا معه عن مطالبنا في حالة قيام الوحدة، ثم قلنا له إننا لن نبدأ القتال، وكان متفهما للغاية وقال: حسنا تفعلون، إذن لا تبدأوا أنتم القتال، وتعاملوا مع القضية سلميا وسياسيا، وهكذا تكسبون الرأي العربي والعالمي. وهنا كشف لنا الرئيس عبد الناصر معلومة مهمة، وقال: لكنهم (الحكومة العراقية) سيقاتلونكم على أي حال، وهم من سيبدأ. بعدها نصحني بعدم العودة إلى بغداد وقال: سوف يعتقلونكم إذا عدتم إلى بغداد. ونصحني بالذهاب إلى بيروت وعقد مؤتمر صحافي، وأن أعلن ما يلي، أولا: أن القومية الكردية هي قومية أصيلة وتعيش على أرضها منذ آلاف السنين جنبا إلى جنب مع العرب والتركمان وغيرهما من القوميات. ثانيا: أن القومية الكردية لا تعادي القومية العربية، بل تؤيدها، وتؤيد حركة القومية العربية وقيام وحدة عربية. ثالثا: نحن لا نريد القتال وإنما نريد حلولا سلمية وسياسية للقضية الكردية».

وبالفعل يتجه طالباني إلى بيروت، بينما تأتيه المعلومات من بغداد بأن الحكومة اعتقلت أعضاء الوفد الكردي المفاوض، يقول: «أنا لم أعد إلى العراق وتم اعتقال جميع أعضاء الوفد الكردي المفاوض الذي بقي هناك، بينما ذهبت أنا إلى بيروت، وبدعم ومساعدة الناصريين الذين كان لهم نفوذ كبير في لبنان، تم تنظيم مؤتمر صحافي كبير لي وقلت فيه ما اقترحه الرئيس عبد الناصر عليّ».يؤكد طالباني إعجابه بالرئيس عبد الناصر، حيث يقول: «أنا أعجبت بالرئيس عبد الناصر، وصارت بيننا عدة لقاءات منذ أن تشرفت بمعرفته، وصارت بيننا علاقة صداقة جيدة، ويبدو لي أنه أيضا رسم انطباعا جيدا عني، حتى أن طالب شبيب كتب عما أخبرهم الرئيس عبد الناصر عندما التقوا به في بداية قيام الحكومة التي قامت بين عارف والبعثيين، فقال إن: عبد الناصر اجتمع مع جلال طالباني وفؤاد عارف وأبلغنا بضرورة التعامل معهما ومع الملا مصطفى بارزاني بنَفَس طويل وحكمة وبُعد نظر، وقال أنا أرى فيكم أنتم الشباب العرب الثوار نفس ما أراه في جلال طالباني».

وقال طالباني: «استمرت علاقتي بالرئيس عبد الناصر حتى النهاية، فعندما كنت في أوروبا كنت أتصل به من خلال الكاتب محمد حسنين هيكل، وأعتقد أننا حققنا الكثير وكسبنا قائد القومية العربية وزعيم الأمة العربية إلى صف القضية الكردية، فهو عارض، وباستمرار، موضوع الحرب ضد الأكراد، ثم إنه قبل مندوبا كرديا في القاهرة، على الرغم من اعتراض الحكومة العراقية على فتح مكتب للأكراد في العاصمة المصرية، وطالبت بإغلاقه لكنه (عبد الناصر) رفض ذلك، وهو أيد علنا قيام حكم ذاتي للأكراد، وكان هذا تطورا كبيرا في مسار العلاقات العربية الكردية لذلك أنا أعتبره صديقا للشعب الكردي، وكذلك كان بن بيلا والملك حسين من القادة العرب المتعاطفين مع القضية الكردية، وموقفهما واضح وجيد منا».

الحكومة العراقية بدورها حاولت استدراج طالباني إلى بغداد لاعتقاله، وكان يعلم بذلك، لهذا استطاع أن يموّه عليهم ويؤجل عودته باستمرار، يقول: «عندما كنت في بيروت تلقيت عدة اتصالات من الحكومة العراقية التي أصرت على عودتي إلى بغداد لأستكمل المباحثات، وكنت دائما أقول لهم سآتي عما قريب، لكنني سافرت إلى أوروبا، بينما جدد البعثيون القتال في العاشر من يونيو (حزيران) حيث سمّت الحكومة هذه الحرب (نزهة صيفية في الشمال)، وفشلت أهدافهم، إذ شنوا قتالا في جميع المناطق، وقد قابلهم المقاتلون الأكراد بقوة، ثم تعاونوا مع إيران وتركيا في مقاتلتنا». وأضاف: «في غضون ذلك استطاعت أجهزتنا رصد برقية مشفرة مرسلة من وزارة الدفاع العراقية إلى القوات العراقية الموجودة في (كردستان) شمال العراق، تقول إن الحكومة سمحت للطائرات والقوات البرية التركية والإيرانية باختراق الأجواء والأراضي العراقية لتعقب المتمردين الأكراد، وتمكنا من حل هذه البرقية المشفرة، حيث كانت الشفرة في جيبي. بعد فترة التقيت مع محمد حسنين هيكل في أحد فنادق باريس، وكنت قد التقيته سابقا عندما ذهبت إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبد الناصر، فأخبرته بشأن البرقية المشفرة فاستغرب من أن تسمح الحكومة العراقية لقوات إيرانية وتركية باجتياح أراضي وأجواء العراق من أجل قتل الأكراد العراقيين، فأعطيته البرقية، وعندما قرأها علق متعجبا بقوله: هذا خطير جدا إذا كانت البرقية صحيحة، فقلت له: بإمكانكم أن تتأكدوا بأنفسكم من صحتها، وبعد أن تأكد كتب عنها في مقاله الشهير (بصراحة) ونشر نص البرقية». في خضم هذه الأحداث صار الانشقاق بين عبد السلام عارف والبعثيين، حيث سيطر عارف على السلطة وزج برفاقه البعثيين في السجون، ويسمي البعثيون في أدبياتهم هذا الانقلاب (ردة تشرين) عام 1963، ودفع الوضع الجديد، الحكومة إلى معاودة الاتصال بطالباني لغرض استكمال المفاوضات، فكلما شعرت الحكومة العراقية بضعفها، وبقوة الأكراد اتجهوا إليهم بحجة إجراء المفاوضات، وعندما تكون الحكومة قوية فإنها تلجأ إلى مقاتلة الأكراد، وقد استمرت هذه السياسة حتى في ظل نظام صدام حسين، يقول طالباني: «عندما اتصلوا بي لغرض مواصلة المفاوضات، كنت في منطقة جمي رازان (أطراف السليمانية)، وقلت لهم إن الوفد الكردي موجود لديكم رهن الاعتقال في بغداد، فأخرجوهم من المعتقل وتفاوضوا معهم، ولستم بحاجة إلى أن نبعث لكم بوفد آخر».

لكن جهود حكومة عارف استمرت من أجل التفاوض مع القيادة الكردية، وحسب الكاتب السياسي العراقي، صلاح خرسان، في كتابه «التيارات السياسية في كردستان العراق»، الصادر في بيروت عام 2001، فإن «عبد السلام عارف بعد إزاحته (البعث) عن السلطة دعا إلى سحب القوات السورية (لواء اليرموك) من شمال العراق وإعادتها إلى سورية، وإلى فتح قنوات اتصال مع قيادة الثورة الكردية منذ ديسمبر (كانون الأول) 1963، أعقبتها مفاوضات مثل الجانب الحكومي، فيها العقيد عبد الرزاق محمود، محافظ السليمانية، وعن قياديي الثورة الكردية كل من الملا مصطفى بارزاني، وشقيقه الأكبر الشيخ أحمد بارزاني، وجلال طالباني، ونوري شاويس، عضوي المكتب السياسي للبارتي (الديمقراطي الكردستاني) انتهت بالتوصل إلى اتفاق وقع عليه الملا مصطفى بارزاني باعتباره قائدا للثورة الكردية». وفي 10 فبراير (شباط) 1964، طلب رئيس الجمهورية، عبد السلام عارف، اجتماعا بمجلس قيادة الثورة وعقد الاجتماع عصرا، وحضره العقيد عبد الرزاق محمود أيضا، الذي أعلن موافقة الملا مصطفى بارزاني على إيقاف القتال، وأبرز ورقة صغيرة بخط يد الملا تؤيد ذلك».

ويواصل خرسان ذاكرا في كتابه: «بعد أن انفض الاجتماع صدر بيان باسم المشير الركن عبد السلام عارف، رئيس الجمهورية، يعلن فيه عن التوصل إلى اتفاق مع الملا مصطفى بارزاني الذي نُشرت له رسالة بنفس المضمون».

وهناك من يؤكد أن هذا الاتفاق هو الذي أدى إلى الانشقاق التاريخي بين رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، الملا مصطفى بارزاني، وبين رئيس المكتب السياسي للحزب، إبراهيم أحمد، فحسب خرسان، فإنه «بعد أن أصبح وقف إطلاق النار ساري المفعول سارع إبراهيم أحمد، ومعه كل من عزيز شمزيني، وعمر مصطفى (دبابة)، أعضاء المكتب السياسي، إلى قطع جولة كانوا يقومون بها في أوروبا، والعودة إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الثورة الكردية عن طريق إيران، حيث شرعوا في تنظيم حملة واسعة ضد الاتفاق الموقع بين رئيس الحزب ورئيس الجمهورية، وكانت حجتهم في ذلك أنه لا يلبي الحد الأدنى من مطالب الثورة الكردية».

وسبب ذلك الموقف حدوث شرخ في الحزب الديمقراطي الكردستاني وانقسامه إلى جناحين، الأول جناح بارزاني، والثاني جناح إبراهيم أحمد، وسمي الجناح الأول (الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ المكتب العسكري) برئاسة ملا مصطفى بارزاني، والثاني (الحزب الديمقراطي الكردستاني ـ المكتب السياسي) الذي ترأسه إبراهيم أحمد، ومعه جلال طالباني.

عندما سألنا الرئيس طالباني أن يتحدث إلينا عن هذا الانشقاق وأسبابه الحقيقية وبعد مرور 45 عاما، قال: «كتبت في أكثر من 14 دفتر ملاحظات كبيرا كل مذكراتي، ولم أنشرها بسبب هذا الخلاف الذي يثير المشكلات الآن، وأرى أن نؤجل ذلك اليوم، ولكن كل ما أستطيع قوله هو أن هذا الخلاف ما كان يجب أن يحدث، وكان من واجبي أن أعمل على التوافق التام بين المكتب السياسي والزعيم بارزاني، وقد أضعف هذا الخلاف الثورة الكردية كثيرا، كما أثر على الحزب الديمقراطي الكردستاني»، مشيرا إلى أنه كان قد التقى فيها الزعيم بارزاني للمرة الأخيرة عام 1971.

بعض الأوساط الكردية ترجع سبب انحياز طالباني إلى جانب أحمد هو تأثره به، ومام جلال لا يخفي هذا الموضوع، فيقول: «كان غالبية من الشباب الكرد معجبين بإبراهيم أحمد، فهو شخصية سياسية ثقافية فكرية أدبية كردية معروفة، وفي شبابه برز في كلية الحقوق كمثقف كردي يجيد اللغة الإنجليزية، إلى جانب الكردية والعربية، وهو شاعر، وكاتب قصة قصيرة، وأول روائي كردي، وما بين 1939 و1949 أصدر أول مجلة ثقافية كردية وطنية سماها (كلاويش) النجمة، هذه المجلة خدمت لعقد كامل الثقافة والأدب الكرديين، وله الفضل الكبير في تطوير اللغة وأسلوب الكتابة، وتنقية اللغة الكردية من الحروف الأجنبية، واللغة الكردية الحديثة بدأت معه، وهو يساري الأفكار، ومحبوب من قبل المثقفين وعامة الناس، ومعروف حتى بين الأوساط العربية العراقية، وفي عام 1954 منح من قبل اليساريين العراقيين (أنصار السلام) جائزة السلام العراقية (النجمة الذهبية). وفي فترة من الفترات عندما كنا نقرأ مجلته كنا نتمنى بالفعل أن نلتقي به».وعلى ذكر القراءة، قلت للرئيس طالباني: «كلما التقيتك لوحدك لاحظت ثمة كتابا في يدك، فهل يتوفر لديكم الوقت للقراءة؟»، أجاب قائلا: «كنت ولا زلت أقرأ، وأحب القراءة منذ طفولتي، عندما سجلت مرة في مكتبة كويسنجق وأخرى في مكتبة الكووي، وتطورت هذه الرغبة في الدراسة المتوسطة والثانوية فالجامعة، وحتى في كلية الاحتياط، ومن ثم تسريحي من الخدمة، إذ عملت بعدها محررا في الجريدة، الكتاب كان ولا يزال يلازمني، كنت أقرأ عادة الكتب الماركسية واليسارية وما يكتبه العراقيون من كتب ومقالات. اليوم مثلا أنا عندي ست مكتبات، منها مكتبة ضخمة في بيتي في السليمانية، وأخرى في مسكني ببغداد، وثالثة في مكتبي في رئاسة الجمهورية، ومكتبة صغيرة فيها الكتب المهمة التي أحتاجها باستمرار في المكتب الصغير الذي ألتقي فيه الضيوف والصحافيين في مكتب الرئاسة، ومكتبة في دار استراحتي في منتجع دوكان، هناك كتب تنتقل معي بين بغداد والسليمانية، وأخرى موزعة حسب خارطة تنقلاتي، توجد في هذه المكتبات عناوين مختلفة، ومن اللغات الكردية والعربية والإنجليزية، وموضوعاتها تتوزع ما بين التاريخية والسياسية والسير الحياتية ودواوين الجواهري طبعا، إلى جانب الكثير من دواوين الشعراء العرب والكرد، ولا أستطيع النوم على الإطلاق، ومهما كنت متعبا إلا إذا قرأت لساعة أو أقل، وأنتهز أي فرصة من وقتي للقراءة». انشغل طالباني في العمل الحزبي، حتى أنه نسي نفسه وترتيب حياته ولم ينتبه إلى موضوع الزواج، فمن نبهه إلى هذه النقطة هم رفاقه، أعضاء المكتب السياسي، يتحدث مبتسما عن هذا الموضوع، قائلا: «زواجي تم في المدينة وليس في الجبل، لكننا أمضينا سنوات طويلة من حياتنا في الجبل وبقرار سياسي حيث رأوا أنني لا أزال أعزب، فاقترحوا علي أن يخطبوا لي ابنة إبراهيم أحمد (هيرو خان)، وخان لقب احترام للمرأة مستمد من المفردة التركية والفارسية (خانم)، إذ يفضل عدم مناداة المرأة باسمها مباشرة، وهي (هيرو خان) شابة مثقفة وعاقلة، وكانت وقت ذاك طالبة في الجامعة المستنصرية ببغداد، فذهب وفد من المكتب السياسي لخطبتها من والدها لي، وكنت طبعا أنا أعرفها، إذ كنا غالبا ما نزور بيت إبراهيم أحمد باعتباره رئيس المكتب السياسي وأستاذنا، وأعرفهم منذ 1958، وبالفعل تمت الخطوبة بموافقة والدها، وتم عقد القران، وبقينا في انتظار تخرجها في الجامعة، ثم تزوجنا، وذهبنا إلى الجبل، وطوال عمرنا ونحن معا في الجبل».

تقول هيرو خان: «كنا في الجبل نعيش في مخيمات المقاتلين منذ 1979 وحتى 1991، وكانت حياتي صعبة للغاية، حيث كنا نعيش في حقيبة سفر متحركة، إذ لا نعلم أين ومتى سنتوقف ومتى سنسير». بينما يتحدث طالباني عن حياته في الجبل، قائلا: «ما كانت الحياة في الجبل صعبة بالنسبة لي، فالكفاح والقتال من أجل قضية مقدسة نؤمن بها يمنح الكثير من الانتعاش والفرح وراحة الضمير، حيث صار عندنا كوخ من الطين عشنا فيه في منطقة اسمها (ناوزك) قرب قرية (شيريه) في آخر حدود السليمانية، وصار عندنا ولدان هما هافل وقوباد، تركناهما لدى زوجة إبراهيم أحمد، والدة زوجتي هيرو، التي تكلفت بتربيتهما في لن، وكانت هيرو خان في الجبل تقوم بواجب إعلامي، وتمارس دور المراسل الحربي، حيث تلتقط الصور الفوتوغرافية، وتصور بواسطة كاميرا الفيديو، وتكتب موثقة المعارك وحياة المقاتلين في الجبل».

وأضاف طالباني: «عندما عدنا إلى العراق لم نستطع الخروج والسفر إلى الخارج إلا بعد أن سقط نظام الشاه، وجاءت الثورة الإسلامية في إيران حيث تمكنا من السفر، فعندما تركت بيروت، عائدا إلى الوطن، كانت زوجتي هيرو في المستشفى، وفي انتظار ولادة ابننا الثاني، واتفقنا إذا كان ولدا يسمى قوباد وإذا كان بنتا فهي، زوجتي، تسميها ما تشاء، ولم أعرف بأننا رزقنا بولد إلا بعد فترة، ولم أر قوباد إلا بعد رحيل الشاه من إيران، وهنا أذكر حادثة طريفة، فبعد مرور عام على قيام الثورة الإسلامية في إيران سافرت إلى لندن عن طريق طهران لزيارة الرفاق وإبراهيم أحمد ولقاء ابني الذي لم أره منذ ولادته، فنصحتني زوجتي هيرو بأن آخذ معي هدية له، فقلت حسنا، وبسبب المشاغل والاجتماعات لم يتسنَ لي شراء هدية لقوباد، فقلت عندما أصل إلى لندن سآخذه إلى السوق ليشتري هو ما يريد، وبالفعل وصلت إلى لندن وأخذت سيارة أجرة إلى بيت إبراهيم أحمد، حيث كان قوباد يعيش في كنف جديه، طرقت الباب ففتح قوباد الباب، ثم ركض وقال لهم: هناك رجل في الباب، دخلت ورحبوا بي وتحدثنا وقوباد يجلس أمامي، فقالت له جدته وشقيقه الأكبر هافل، هذا أبوك اذهب وسلم عليه، فتأملني ثم سألني عن هديته، فقلت له سنذهب إلى السوق وأنت تختار الهدية، فقال: ما هذا.. رجل يأتي ويقول أنا والدك وليس معه أي هدية؟! ثم صرنا أصدقاء ولا زلنا، إذ إن علاقتي بولدي جيدة للغاية ونحن نتعامل كأصدقاء».