البوسنة على شفا العودة إلى قلائقها العرقية

بعد 14 عاماً على الحرب.. دعوات للغرب بالتدخل مجدداً وإعادة كتابة اتفاقية دايتون

TT

بعد 14 عاما من تدخل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لوقف الحرب في البوسنة، عادت الانقسامات والضغائن مجدداً في هذه الدولة البلقانية. ففي يونيو (حزيران)، فرض المبعوث الدولي الذي كان مخولا بالإشراف على إعادة بناء البوسنة سلطات الطوارئ التي قال إنها ضرورية لحماية الدولة من الانقسام. ورغم أن المسؤولين الأميركيين والأوروبيين كانوا يحاولون مساعدة البوسنة على الوقوف على قدميها منذ سنوات، يقول قادة البوسنة إن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحل أزمة الحكومة الحالية هو أن تتدخل واشنطن، مرة أخرى، وتعيد كتابة المعاهدة التي أنهت بها الحرب في 1995.

فالوضع الاقتصادي متدهور؛ حيث تجاوزت معدلات البطالة نسبة 40%، ويتحدث الصرب بشكل علني عن الانفصال، بينما يهجر الكروات البلاد في حشود كبيرة. كذلك، يزداد الشقاق الديني؛ ففي ديسمبر (كانون الأول) خرج المتظاهرون للشوارع بعدما حاول المسؤولون بمدرسة إسلامية بوسنية في سراييفو منع «بابا نويل» من توزيع الهدايا على الطلبة الصغار. وتخضع الحكومة الوطنية لثلاثة رؤساء لا يتفقون إلا على أمر واحد: الفساد، والعراك السياسي والمشاكل البيروقراطية يشلون الدولة.

وقال الكرواتي زليكو كومسك، رئيس مجلس الرئاسة البوسنية إن البلاد أصبحت أكثر تشددا فيما يتعلق بالمواضيع الإثنية. فبالرغم من أن البوسنة تسعى للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي فإنها أصبحت أكثر عزلة عن ذي قبل.

وذكر كومسك أن العديد من المسلمين البوسنة والطلاب الكروات يذهبون إلى المدارس معا، لكن يفصل بينهم في الفصول المدرسية حتى يدرسوا مناهج مختلفة في التاريخ، والجغرافيا، والدين، واللغة وفقا للعرق الذي ينتمون إليه. ويضيف كومسك: «ما نوع الرسالة التي نحاول إيصالها للأطفال؟ أنت لا تنتمي إلى المجتمع كفرد. أنت مجرد عضو في مجموعة عرقية محددة».

وقد أنفق الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرهما من الجهات المانحة المليارات من الدولارات في محاولة لإعادة بناء البوسنة منذ توقيع اتفاقية دايتون للسلام في 1995. وقد قتل ما يقدر بنحو 100 ألف شخص في هذه الحرب والتي اندلعت في عام 1992 بعدما أعلنت البوسنة استقلالها عن يوغوسلافيا السابقة. وهاجر نحو نصف سكان البوسنة قبل الحرب والذين كان يبلغ عددهم 4.3 مليون نسمة البلاد أو أجبروا على ترك منازلهم.

ظاهريا، يبدو أن الجروح التي خلفتها البوسنة قد شفيت؛ حيث تعج مدينة سراييفو العتيقة ـ والتي أمطرتها قوات الصرب لثلاث سنوات بوابل من القنابل ـ بالعائلات التي تجلس مبتسمة لتناول وجبات «السيفابيتشي» وهو نوع من كباب اللحم والذي يعتبر الطبق القومي للبلاد. وقد تم إعادة بناء المنازل المتهدمة والكنائس والمساجد في الريف كثير التلال بالمساعدات الأجنبية، ولا يوجد هناك أثر للعنف العرقي. ولكن الحملة القومية لتحويل البوسنة إلى ديمقراطية تعددية ما زالت تترنح في طريق لا يبدو أن له نهاية. ويبدو ذلك الصراع كمثال منذر بالنسبة للجهود التي تتزعمها الولايات المتحدة لإعادة بناء دول كبرى تتنازعها الفصائل الدينية والإثنية مثل العراق وأفغانستان.

وما زال يشرف على البوسنة مبعوث دولي يعرف باسم المندوب الأعلى والذي يتمتع بصلاحيات مطلقة لفصل المسؤولين المحليين ووضع السياسة إذا بدا ذلك ضروريا وفي صالح الدولة. وكان مجلس تنفيذ السلام المكون من 55 دولة ووكالة والذي يشرف على اتفاقية دايتون وعلى تعيين النائب لسنوات لطويلة، يحاول إلغاء ذلك المنصب وإعادة السيادة الكاملة للبوسنة، ولكن الدبلوماسيين الأجانب قالوا إنهم ليسوا واثقين من أن البوسنة مستعدة لأن تحكم نفسها. ويقول فالنتاين إنزكو المسؤول النمساوي الذي يعمل كمندوب أعلى إن البوسنة تعاني من «متلازمة الاستقلال» والتي تعود بداياتها إلى قرون ماضية عندما كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية.

واستشهد إنزكو بالعراك السياسي الذي ترك مدينة موستار منقسمة بين المسلمين البوسنة والكروات من دون ميزانية تسمح للحكومة بممارسة وظيفتها. وقد زار وفد من رجال الإطفاء والعمال المحليين إنزكو في سراييفو مؤخرا ليطلبوا منه أنه يفعل شيئا حيال عدم تلقيهم رواتبهم لعدة شهور.

ويقول إنزكو: «يمكنني أن أتدخل ببساطة. ويمكنني أن أخصص ميزانية لأنهم يائسون وجائعون. من السهل فعل ذلك ولكنه سوف يساهم في متلازمة الاستقلال تلك».

ووفقا لاتفاقية دايتون، تنقسم البوسنة إلى منطقتين كبيرتين لكل منهما برلمان محلي. إحدى هاتين المنطقتين هي جمهورية الصرب والأخرى معروفة باسم الاتحاد والتي تتألف من المسلمين البوسنة والكروات. ويمثل المسلمون حوالي نصف سكان البوسنة بينما يمثل الصرب حوالي الثلث وتتألف البقية من الكروات. ولا توجد أرقام محددة لأن ذلك التعداد تم إجراؤه في عام 1991.

وفي يونيو (حزيران) الماضي، نزع إنزكو فتيل أزمة أكثر خطرا، عندما وافق المشرعون بالجمهورية الصربية على تشريع يتحدى سلطة الحكومة القومية في العديد من المناحي مثل العادات، وفرض القانون. وأبطل إنزكو ذلك التشريع حيث حكم بأنه يتعارض مع اتفاقية دايتون وهي الإطار القانوني الذي يبقي الدولة كوحدة واحدة.

وقد حاول المشرعون من جمهورية الصرب وضع عراقيل على طريقة وحدة الحكومة القومية بينما استطاعوا فصل الدولة عن منطقة استقلالهم. وألمح ملوراد دوديك رئيس وزارة جمهورية الصرب إلى أنها ربما تحاول الانسحاب، مؤكدا خلافه مع رجال الادعاء والدبلوماسيين الذين عملوا تحت قيادة المندوب الأعلى والذين قالوا إنهم منحازون ضد الصرب. وقال رافي غريغوريان الأميركي الذي يعمل كنائب للمندوب الأعلى إن المناخ السياسي في البوسنة قد ساء منذ ثلاثة أعوام بعدما استولى حزب دوديك على السلطة في جمهورية الصرب. ومنذ ذلك الوقت حاول العديد من السياسيين أن يفوزوا بالأصوات من خلال إثارة المخاوف والشكوك الإثنية. ويضيف: «الحمد لله أنه لم تقع أي حوادث عنف جسدي حتى الآن. ولكن الخطاب السياسي وفقا لأشخاص كانوا هنا هو خطاب سيىء منذ عام 1991».

وفي لقاء صحافي، قال مسؤولون ببانيا لوكا المدينة التي تقوم مقام عاصمة جمهورية الصرب إنهم لا ينوون الانسحاب، كما دافعوا عن جهودهم لمنع الحكومة القومية من دمج السلطات. ويقول غوردان ميلوسيفيك المستشار السياسي في دوديك: «إن فرض نموذج للفيدرالية المركزية على هذه الدولة لا يعني سوى شيء واحد: سيطرة مجموعة واحدة فقط. ولا يشعر الناس بالراحة على الأرض التي يعيشون فيها كأقلية ما لم يكن هناك رقابة».

ويقول إغور رادوجيكيك رئيس مجلس نواب جمهورية الصرب إن الوقت قد حان لإنهاء الإشراف الدولي على البوسنة وإجبار الفصائل السياسية المختلفة في البلاد على أن تحل مشكلاتها بنفسها. ويضيف: «المجتمع الدولي يفقد صبره. بل إن محاولة شرح مشكلات البوسنة والهرسك بالنسبة لهم أصبحت أمرا يدفع إلى الملل. فهي قصة قديمة بالنسبة لهم وقد سئموها».

وفي نفس الوقت، أصبحت البوسنة أكثر استقطابا حيث يهاجر الصرب والكروات والمسلمون إلى أماكن تمثل فيها مجموعاتهم العرقية الأغلبية. ويقول فرانجو كوماريكا أسقف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في بانيا لوكا إن السكان الكروات فقدوا حوالي 90% من أفرادهم. ويضيف كوماريكا أنه عدد الجنازات التي يترأسها في اليوم تزيد على 50 جنازة مقابل كل تعميد يقوم به. ويضيف: «ليس لطيفا أن أقول ذلك ولكنني أعتقد أننا سنصبح كمجموعة من الحيوانات الغريبة في حديقة الحيوان».

وقال سليمان تيهيش رئيس حزب العمل الديمقراطي وهي الكتلة السياسية المسلمة إن خوفنا الأساسي هو تحول الخطاب الساخن الذي ظهر مؤخرا إلى حالة من العنف. وأضاف: «إذا تأملنا تاريخ هذا البلد، يكون لزاما علينا أن نحافظ على سيطرتنا ولا ندع الأمور تفلت منا. فقد مررت على خمسة معسكرات للصرب خلال الحرب. ولا أريد أن أرى تلك الفترة تتكرر مرة أخرى».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»)