العراقيون لا يكترثون بسماع قصص «الخارج».. وبعضهم مصاب بفوبيا الميليشيات

صحافي كندي من اصل عراقي يروي حكاية عودته الى بغداد بعد سنوات

الصحافي الكندي من اصل عراقي هديل الشالجي وهو يعرض صور اسرته عبر جهاز اللابتوب لاقاربه لدى عودته الى بغداد (أ.ب)
TT

كانت آخر مرة رأتني فيها خالتي وأنا في عمر السادسة، أجلس على السرير وأشاهدها بفضول وهي تغير لابنها الحفاض، وبعد ذلك بـ 23 عاما كنا نحتضن بعضنا بعضا في الصالة العتيقة لفندق فلسطين ببغداد.

لقد أصبح جسدها بدينا متراخيا، وتهدل وجهها وكانت عيونها تقول أشياء لا أستطيع فهمها. وعندما كانت تحتضني كانت تنشج بصوت خافت على كتفي، وقد مال خالي – أخوها ـ عليّ لكي يقبلني. لقد كانت آخر مرة أراه فيها وأنا في العاشرة من عمري؛ وما زال هيكله الطويل، وقبعته التي تغطي شعره الخفيف كما أتذكره، ولكن وجهه أصبح يحمل آثارا لسنوات طوال قد مرت.

كانت أول مرة أذهب فيها إلى العراق خلال العام الجاري، كصحافي كندي من أصل عراقي أعمل لصالح وكالة «الأسوشييتد برس» وأنا في الثامنة والعشرين من عمري. فقد كان أبي يعتقد أن العراق لن يحظى بمستقبل مشرق في حياتنا، ولذلك قد اختار الرحيل. ثم ولدت في الكويت، وانتقلت بعد ذلك إلى «أوتاوا» لكي أصبح المواطن الكندي رقم 11 ألفا الذي ينحدر من أصل عراقي.

نشأت في كندا وأنا أعاني من الصراع بين هويتي كمسلم وهويتي كغربي، نشأت ولي اسم له وقع غريب على الأذن الكندية. كما أنني لا أعرف شيئا عن بلد والدي سوى اللغة العربية ذات اللهجة العراقية التي نتحدثها في المنزل، والقصص الشاحبة والصور الملتقطة في الإضاءة الليلية للحرب والتي تبث على شاشة التلفزيون.

وكنت أعي أن لي أقارب يعيشون على مقربة من تلك الحرب ولكن ذلك كان يبدو بالنسبة لي بعيدا للغاية؛ فأنا لم أر عائلة أمي منذ زيارات الطفولة إلى الكويت حيث كانوا يقيمون. ثم أجبرت عائلتها بعد حرب الخليج الأولى على العودة إلى العراق ومن ثم توقفت زيارتنا لهم. ولم تكن أمي تتواصل معهم إلا من خلال المكالمات الهاتفية، أتذكر أنني كنت أستيقظ أحيانا في منتصف الليل على صوت أمي وهي تتحدث بصوت عال «مرحبا؟ هل هناك أحد؟».

والآن أشعر أنه عليّ التعامل مع الشعور بالذنب تجاه كوني من الأسر «المحظوظة» التي نجت من ثلاث حروب غير العقوبات. ففي الوقت الذي كنت أتلقى فيه التعليم الغربي وأقيم في ضواحي كندا الخضراء وأتعلم أن ذلك العالم هو محارتي، كان أولاد عمومتي يصارعون ضد الغضب والاكتئاب المتعلقين بالحرب والمستقبل الغائم.

لقد كانت تلك الأفكار تدور برأسي عندما أسمع لفظ «العراق» في النشرات الإخبارية ـ سواء في حرب الثماني سنوات مع العراق أو في حرب الخليج 1991، أو الغزو الذي قادته أميركا على العراق في 2003 ـ أو عندما كنا نحاول أن نجري واحدة من هذه المكالمات الهاتفية المرتعشة عبر خطوط الهاتف المتداعية مع أقاربنا.

والآن أجلس وأنا أشرب البيبسي وأهش الذباب في الوقت الذي يحكي فيه خالي القصص. لقد سمعتها قبل ذلك – في تقارير المراسلين الإخبارية ومن الناس الذي كانوا يتحدثون إلى وسائل الإعلام، ولكنني أسمعها هذه المرة من شخص كان يساعدني على التسلل لتناول الآيس كريم قبل العشاء، ويجعلني أصرخ من الابتهاج وهو يقذفني في الهواء متظاهرا أنه قد نسي التقاطي.

يشير خالي إلى جانب وجهه في المكان الذي ضربه فيه الرجال الذين اختطفوه في عام 2006، حيث اقتادوه معصوب العينين ومترنحا من الألم وألقوا به في مؤخرة سيارة نقل واصطحبوه إلى مكان غير معروف. وبعدما قضى ليلة أرقة على أرض وصفها بأنها تبدو كالحمامات، أزالوا العصابة من على عينيه، واستطاع رؤية البراز ودماء جافة على الأرض من حوله. ثم استنتج لاحقا أن هذه ربما تكون أحد المليشيات التابعة للشيعة نظرا للأدعية التي تنطلق من هواتفهم الجوالة والتي كانت تثني على قديسي الشيعة مثل الإمامين الحسين وعلي.

وقد سألوا خالي السني عن سبب تردده على الجامع، فأجاب متعجبا «إنه المكان الوحيد الذي يحتوي على مكيف للهواء في الحي». ثم ارتأت الميليشيا بعد ذلك أنه لا يستحق عناء المشكلات ـ فهو رجل في بداية الستينيات ومن الواضح أنه لا يشكل خطرا. فألقوا به وتركوه يكتشف طريق عودته إلى المنزل.

وتحول الرجل، الذي كان في أحد الأيام رياضيا ومستقلا، إلى رجل قابع في المنزل، «أليس الأوروبيون يعانون من فوبيا الإسلام». ينحني إليّ مضيفا: «أنا لديّ فوبيا الميليشيا»! ثم ينفجر ضاحكا. نضحك بعدم ارتياح.

لقد كان خالي أحد المحظوظين، فقد اختطف عدد غير معروف من السنة والشيعة في إطار الحرب العراقية الطائفية الوحشية أو سعيا وراء الفدية خاصة في عامي 2006، أو 2007 عندما اكتشفوا جثث الآلاف من الأشخاص.

وما زالت القصص تتوالى. فقد تم إطلاق النار بشكل عشوائي في أحد الأسواق الشيعية فأصيبت إحدى خالاتي. كما انفجر مخ أحد أصدقاء الأسرة عندما كان جالسا لاحتساء الشاي خارج متجره في إحدى الأمسيات. وقد تطايرت الرصاصات في حجرة المعيشة بمنزل عمي بأحد الصباحات، مما تسبب في مقتل طائره القابع في القفص.

ولم يوجه إليّ أقاربي العديد من الأسئلة حول حياتي في كندا؛ فهم لا يرغبون سوى في سرد حكاياتهم إلى أشخاص جدد، يرغبون في أن يخبروني كيف كان الأمر، حتى أنقل تلك القصص إلى أسرتي في الضواحي.

ولكنني لم أستشعر الأسى منهم، وساعدني ذلك على أن أصبح أكثر هدوءا. فتحت حاسبي المحمول وأريتهم صور أمي وأخواتي وبناتهم. تأملوهم في صمت. ثم تعجبت خالتي من أن ابنة أختي تبدو نشيطة مثل أمها في تلك السن. ثم أمسكت بمنديلها وجففت دموعها بهدوء. تنهدوا بهدوء عندما ظهرت صورة لأمي ـ أختهم ـ، وذكرتهم السن التي استطاعوا قراءتها على ملامحها بالسنوات التي فرقت بينهم ـ حيث يضطر الإخوة إلى أن يعيشوا حيوات مختلفة نظرا للقدر والحرب.

يتحدثون حول اعتيادهم للموقف، ولكن من الواضح أن الحياة هنا ما زالت أمرا صعبا. فباستثناء الذكريات، لا يوجد أثر للرعاية الصحية الجيدة في العراق، كما أن الكهرباء تأتي وتذهب وما زال الأمن يمثل إشكالية كبرى.

لا يريدون أن يتحدثوا مطولا عن أقاربهم الذين يعيشون «بالخارج»، كما أنهم لن يخبروا أصدقاءهم بأنهم قد جاءوا ليقابلوا صحافيا غربيا يعمل لوكالة أميركية. طلبنا المزيد من الشاي، وشيئا لنأكله، ولكن خالي أصبح متوترا ويرغب في الرحيل.

كانت تحيات الوداع أكثر دفئا من تحيات اللقاء، فقد ذاب بعض الثلج الذي تكون على مدار ما يدنو من الثلاثين عاما؛ فما زالت المسافة بالأميال (الكيلومترات) والخبرات الحياتية تفصل بيننا؛ وقد عززت الحرب تلك المسافة.

تجفف خالتي دموعها مرة أخرى عند رحيلنا. وأدرك أن هناك شيئا واحدا فقط لم تستطع الحرب والعقوبات أن تحرمنا إياه وهو استمرار محبتهم لي كطفل، والذي سوف ينتقل من جيل إلى جيل معي ومع أبناء إخوتي هناك في كندا.