والد المقرحي لـ«الشرق الأوسط»: لو كان يوجد دليل واحد على قيامه بتفجير الطائرة لقتلته بيدي

25 ألف ليبي زاروا بيت عبد الباسط في طرابلس خلال 5 أيام.. وأسرته تأمل في شفائه

جانب من إحدى خيام الاستقبال التي خصصت للوافدين على منزل عبد الباسط المقرحي (تصوير: محمد مصطفى) وفي الاطار علي المقرحي والد عبد الباسط المقرحي
TT

رغم صحته المتدهورة فإنه ما زالت لديه القدرة على النزول من الطابق العلوي في بيته المكون من طابقين، والكائن في حي دمشق الجديد قرب مصرف الجمهورية بطرابلس الغرب.

ويمضي عبد الباسط المقرحي، المدان في قضية لوكيربي، نهار كل يوم راقدا على سرير في الطابق الثاني، تحت تأثير الأدوية. ويجد ذووه صعوبة في إقناع الآلاف الذين يفدون إلى بيته نهارا لرؤيته، بأن يعودوا لزيارته مع موعد الإفطار الرمضاني مساء. وبعد أن يتناول الجميع طعام الإفطار في الخيام التي جهزتها أسرته لذلك، يتكئ عبد الباسط على السلم الداخلي لبيته، وينزل إلى غرفة الضيافة المعروفة باسم «المربوعة».

ويمر الزوار على ثلاث محطات قبل الوصول إليه. المحطة الأولى هي استقبال ذوي عبد الباسط للزوار، وإدخالهم لقاعة انتظار مبنية من القماش ومفروشة بالسجاد والمقاعد، أعدت خصيصا لهذا الغرض بمدخل منزله، وتتسع لحوالي 150 فردا. وبعد ذلك يبدأ عدد آخر من أقارب عبد الباسط في اصطحاب عدد لا يزيد على خمسة أفراد لاجتياز الباب الداخلي المؤدي لبهو المنزل، وبالتالي الغرفة التي يوجد بها عبد الباسط.

لكن على عتبة الباب تتسلم مجموعة أخرى من ذويه، الأفراد الخمسة الذين جاء دورهم للدخول على عبد الباسط. ويوجهون تعليمات سريعة لهم هي عبارة عن رجاء بأن يلتزموا بعدم تبادل أي حديث معه نظرا لظروفه الصحية، وأن يكتفوا بالسلام عليه، والخروج لإفساح المجال لآخرين ممن ينتظرون في قاعة الانتظار الداخلية، وغيرهم من المئات المنتظرين في خيمتين كبيرتين منتصبتين خارج أسوار البيت.

كان عبد الباسط حين زارته «الشرق الأوسط» الليلة قبل الماضية، يرقد مائلا بجسده إلى الخلف، مرتديا الزى الليبي الشعبي: ثوبا أبيض، وصدرية مطرزة بعُقَدٍ من الخيوط تسمى في ليبيا «المَلْف» ذات لون أصفر فاتح كأنه أبيض. وهو نفس لون القبعة (الطاقية) الليبية الشهيرة المسماة «الشَّنة». كان وجه المقرحي شديد البياض ربما بسبب عدم تعرض وجهه للشمس فترة طويلة، لا يكف عن توزيع ابتسامته لزواره، وهو يرد بشكل آلي وبصوت خفيض على كل يد تمتد للسلام عليه، قائلا: «الله يسلمك».

وبعد صلاة العشاء، أي في حوالي الساعة التاسعة والنصف مساء، يزداد عدد الوافدين على بيت عبد الباسط، وتظل أكواب الشاي والقهوة وزجاجات المياه رهن إشارة الضيوف حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، حيث يبدأ إعداد وجبة العشاء من المكرونة أو الأرز واللحم والخضار والمشروبات الغازية. ويبدأ الناس في الانصراف مع قرب موعد صلاة الفجر.

لا يكف الزوار عن القدوم لزيارته، ففي كل ساعة يصل وفد من الرجال من مختلف مناطق ليبيا، ومعهم زوجاتهم وبناتهم، جئن بدورهن لتهنئة زوجة عبد الباسط بعودة زوجها.

تقول الزوجة: «عبد الباسط كان رهينة سياسية، ودفع 10 سنوات من عمره لنصرة بلاده، ومن حق الليبيات أن يفرحن برجوعه لأهله. الله ينتقم من كل ظالم». ويعتقد علي المقرحي، والد عبد الباسط، أن الدولة التي تتحمل مسؤولية احتجاز ابنه وتوجيه الاتهامات الباطلة له هي الولايات المتحدة، وليست بريطانيا فقط. وقال إن إخلاء سبيل الأمين خليفة فحيمة، المتهم الذي كان برفقة عبد الباسط المقرحي، كان من المفترض أن يقترن به أيضا إخلاء سبيل ابنه، لكن الولايات المتحدة تدخلت بنفوذها للإبقاء على عبد الباسط رهن الاحتجاز والتحقيق لإصدار عقوبة الحبس مدى الحياة بحقه.

وبشأن الأسباب التي يرى أنها كانت وراء دخول ابنه السجن، قال المقرحي الأب، إن كل ذلك حدث لابتزاز ليبيا لأن لديها نفطا. وزاد قائلا «كان يمكن أن يحدث ما حدث لابني مع أي مواطن تابع لأي دولة لديها نفط مثل الكويت أو السعودية». وأضاف: «بعد ما جرى لم أعد أثق لا في حكومة بريطانيا ولا في حكومة اسكتلندا».

وقال المقرحي الأب: «أنا ربيت ابني أحسن تربية، وحين وافقت على تسليمه للمحاكمة كنت أثق في أنه بريء، وسيعود لبيته وأسرته وأطفاله. لو كان يوجد دليل واحد على أنه هو من قام بتفجير الطائرة، لكنت قتلته بيدي. كل سكان الحي يشهدون على أخلاقه منذ صغره، بل إن العديد من الجيران كانوا يسمون مواليدهم على اسم ابني عبد الباسط لشهرته بين قبيلته وذويه بأدبه الجم، وحبه للناس والتزامه الأخلاق والاستقامة وعدم الاعتداء على الآخرين». بجوار سرير عبد الباسط في الطابق الأول من بيته توجد علب كثيرة من الأدوية. ويسهر على علاجه أطباء ليبيون كبار ضمنهم طبيب خاص بالزعيم الليبي العقيد معمر القذافي.

وقال المقرحي الأب إن المرض الذي أصاب ابنه ليس بتلك الدرجة من الخطورة التي صورتها بعض وسائل الإعلام، «هو أصيب بالسرطان قبل أقل من سنة، وكنا نأتي له بأعشاب طبية من سوق للأعشاب الصينية في بريطانيا، إضافة إلى أنه كان يُعالج بأدوية أخرى في سجنه باسكتلندا»، قبل أن يضيف «أحد أقربائنا أصيب بمرض مماثل (سرطان البروستاتا)، وعولج وشفي منه تماما، ونأمل أن يشفى عبد الباسط أيضا، ويسترد عافيته وصحته». وزاد قائلا: «أرى أنه يتحسن يوما بعد يوم، وهو أفضل بكثير من اليوم الأول الذي عاد فيه لوطنه. أعتقد أن المريض لا يشفى بالأدوية فقط، بل بالمعنويات المرتفعة، والإحساس بالحرية، وهذا لم يكن متوافرا لعبد الباسط في السجن».

وعما إذا كان تحدث مع ابنه حول القضية، وما إن كان سيكتب مذكراته عن فترة سجنه في اسكتلندا، ورواية حقيقة ما جرى، وغيرها من التفاصيل المتعلقة بمستقبله، قال المقرحي الأب: «هذه كلها أمور سابقة لأوانها. نحن هذه الأيام غير قادرين على التقاط أنفاسنا من كثرة الزوار الذين يفدون إلى بيت عبد الباسط لتقديم التهنئة له بالعودة. من الممكن أن تستمر هذه الحشود في التوافد على البيت مدة أسبوعين آخرين. سننتظر ونرى». إخْوَة عبد الباسط، وهم عبد الحليم وعبد الناصر ومحمد وصلاح، كانوا يقفون مع أقربائهم لاستقبال دفعات من الضيوف والزوار.

وقال محمد علي المقرحي، أكبر أشقاء عبد الباسط، تعليقا على آلاف الليبيين الذي قدموا من مختلف أنحاء البلاد للتهنئة بعودة أخيه، إن ردة الفعل الجماهيرية هذه لا علاقة لها بالسياسة. بقدر ما هي ردة فعل شعبية من أجل عبد الباسط المقرحي «الذي ضحى بعشر سنوات من عمره من أجل رفع الحصار الاقتصادي عن بلده ليبيا». وذكر أن شقيقه أمضى عقدا من الزمان في سجون اسكتلندا لكي يثبت براءته، وواجه هناك ظروفا صعبة ومعقدة، قبل أن يضيف قائلا إن «خروج عبد الباسط يعتبر خطوة إلى الأمام للوصول إلى حقيقة من قام بتفجير طائرة بان أميركان فوق بلدة لوكيربي. شقيقي كان في هذه القضية، هو البريء المدان».

وقال محمد، الذي رافق عبد الباسط أثناء تسليمه للسلطات البريطانية قبل عشر سنوات: «نحن نتعاطف مع أسر القتلى الإنجليز والأميركيين وغيرهم من ضحايا الطائرة المنكوبة، لكننا نؤكد أن ابننا بريء من دماء ذويهم. ونحن حريصون على حسن العلاقات بين الشعوب لأن الشعوب دائمة بينما الحكومات متغيرة».

وأردف قائلا: «نحن كَلِيبيين نسعى لمستقبل تتلاقى فيه الثقافات خاصة الثقافتين الغربية والشرقية، بعيدا عن الأحقاد والكراهية».

وأضاف: «منذ سلمتُ عبد الباسط للبريطانيين يوم السادس من أبريل (نيسان) 1999، وأنا أعيش على أمل أنه سيعود معي، لكن الأيام تحولت لسنوات، وأدركت حينها أن أخي وقع في فخ قضية سياسية وليست جنائية. ولم يحظ بمحاكمة عادلة».

وبدأت أزمة لوكيربي عام 1988، عندما انفجرت طائرة من طراز «بوينغ 747»، تابعة لشركة «PANAM» الأميركية، المتجهة من فرانكفورت إلى نيويورك، عبر لندن، فوق بلدة لوكيربي في اسكتلندا، وبلغ مجموع ضحايا الانفجار 270 فردا ينتمون لـ 21 دولة.

وعلى أثر ذلك صدرت عدة بيانات، من مختلف الدول تدين الإرهاب. ووعدت الولايات المتحدة أنها ستتولى التحقيق ومتابعة المتهمين. واستمر التحقيق ثلاث سنوات، وشاركت فيه أكثر من دولة، لتحديد الجهة المسؤولة عن الانفجار. وفي عام 1991، وجهت وزارة الخارجية الأميركية الاتهام لمواطنين ليبيين هما عبد الباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة، قالت إنهما من رجال المخابرات الليبية، وإنهما يقفان وراء الحادث. منذ ذلك الوقت تفاقمت مشاكل ليبيا مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، لكن في السنوات الأخيرة انتهجت طرابلس سياسة مختلفة، غلب عليها طابع التصالح مع الدول الغربية، وإنهاء الملفات العالقة بينهما للدخول في مرحلة جديدة من التعاون المشترك، حيث ينظر إلى ليبيا على أنها تمتلك مخزونا كبيرا من النفط في العالم.

ولعبد الباسط المقرحي خمسة أبناء، هم بنت متزوجة، وأربعة أولاد في مراحل التعليم المختلفة: خالد 22 سنة، ومحمد 17 سنة، وعلي 15 سنة، والمعتصم 10 سنوات. وأمضت أسرته سنوات غيابه عنها في تدبر نفقات المعيشة بمجهودها الخاص، فبالإضافة إلى راتب عبد الباسط من وظيفته التي حرم منها خلف قضبان السجن، كانت الزوجة تسعى وتكد في العمل كمعلمة في مدرسة بطرابلس. ويقول عبد الحميد المقرحي، ابن أخ عبد الباسط المقرحي، إن أسرة عمه كانت تنفق من راتب الزوج وراتب الزوجة، ولم تمد يدها لأحد. وأردف قائلا إن غياب عمه أثر تأثيرا سيئا على أسرته. مشيرا إلى أنه كان يرى أولاده وقد اشتاقوا لنطق كلمة بابا، مثلما كان يرى مرارة الانتظار في أعينهم خاصة في المناسبات والأعياد التي يلتئم فيها شمل العائلات.

وتحدث عبد الحميد عن المرض الذي أثر بشكل كبير على عمه، وقال «زرته عام 2001 في السجن بهولندا، وكانت صحته جيدة جيدا. لقد أثر المرض عليه، ولو لم يكن المرض قد أصابه، لاستمر في إجراءات استئناف القضية، ولربحها، وأثبت براءته. لم تكن هناك أدلة يعتد بها في إدانته».

وعبر عبد الحميد عن أمانيه في تعافي عمه، وقال «أتمنى أن يعود مثلما كان، يمارس حياته الطبيعية»، مشيرا إلى أن عمه اجتماعي بطبعه، ويحرص على زيارة الأهل والأقارب والمشاركة في مناسبات الأفراح والأعياد.

وبلغ عدد الوافدين على بيت عبد الباسط منذ عودته إليه يوم الخميس الماضي، ما لا يقل عن 25 ألف ليبي، حسب تقديرات أسرته. ضمنهم مندوبون من مدن وقرى حول طرابلس العاصمة، وقوافل من مدن بعيدة مثل بنغازي وطبرق وكمبوت وسرت وسبها والبيضا. ووجهاء من المجتمع الليبي من قبائل كبيرة وصغيرة.

وزار عبد الباسط أيضا الأمين خليفة فحيمة، الموظف السابق في الخطوط الجوية الليبية، والذي كان متهما مع عبد الباسط في تفجير طائرة «البانام» قبل أن تبرئ المحكمة الاسكتلندية ساحته.

وتردد «فحيمة» على بيت عبد الباسط أمس وأول من أمس، مبديا سعادة غامرة بعودة زميله، لكنه أرجأ التحدث مع «الشرق الأوسط» إلى وقت لاحق، لانشغاله بالمشاركة في الإعداد لترتيب زيارة وفد من العاملين بالنقل الجوي الليبي، باعتبار أن عبد الباسط كان موظفا في شركة الخطوط الليبية.

وتقول عائلة المقرحي إن احتفاء القيادات الليبية بابنها، خاصة استقبال العقيد معمر القذافي له، لا يرجع إلى مواقعهم الرسمية في الدولة، ولكن لكون تلك القيادات، هي في نهاية المطاف، مجموعة من المواطنين الليبيين الحريصين على العادات والتقاليد الليبية التي تلزم العائلات والقبائل بتهنئة بعضها بعضا في المناسبات السعيدة. ولا يخفي الليبيون الذين يفدون على بيت عبد الباسط غضبهم من الموقف الأميركي الذي انتقد بريطانيا واسكتلندا لإطلاقهما سراح المقرحي. ويسخر غالبية الليبيين من الانتقادات الغربية بشأن استقبال ليبيا لعبد الباسط استقبال الأبطال. وقال المهندس محمد أحمد المقرحي، ابن عم عبد الباسط: «استقبالنا لعبد الباسط في ليبيا كان عفويا منذ أول يوم. إذ لم يتم أي تخطيط رسمي لحشد الناس. ولو كانت الدولة الليبية مهدت لاستقباله لاحتشد في المطار ما لا يقل عن مليوني ليبي من مختلف مناطق البلاد».

وذكر قائلا «نحن نرى أن عودته انتصار للحق. وقضية لوكيربي معركة انتصر فيها الليبيون بحكمة القيادة الليبية في إدارة المعركة».

ويتابع الليبيون عبر شاشات التلفزيون مواقف الدول العربية والأجنبية من قضية الإفراج عن عبد الباسط المقرحي، لتحديد مواقف كل دولة وجهة وشخصية على حدة. وهم يعتقدون أنه توجد وراء الموضوع كله رغبة لدى الدول الغربية في نفط ليبيا الغزير.

ويقول عبد العالي الزاوي، من ضيوف عائلة المقرحي: «الكل يريد أن يضغط على ليبيا من أجل النفط. نعم،نحن نعلم ذلك، أخذوا عبد الباسط رهينة لهذا السبب». وفي سياق ذلك، حظي سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي، على خلفية الإفراج عن عبد الباسط المقرحي، بشعبية متزايدة في أوساط الليبيين.. وقال مصطفى ناجي من طرابلس المركز: «كل الشكر للأخ قائد الثورة (العقيد القذافي)، وعظيم الشكر للأخ سيف الإسلام القذافي (رئيس مؤسسة القذافي للتنمية) لقد وعد سيف الإسلام عبد الباسط بأنه لن يزوره إلا خارج القضبان، وهو ما حدث بالفعل».

لكن يبقى السؤال هو: «من أين تنفق أسرة عبد الباسط المقرحي على استقبال كل هذه الوفود، على مدار أيام وأيام، وتقديم الطعام والمشروبات لهم، حسب العادات العربية، منذ ساعة الإفطار حتى موعد السحور؟» ويرد المهندس محمد أحمد المقرحي، قائلا: «إن عائلة عبد الباسط تتشارك في التكفل بالنفقات. ومع ذلك رأت الدولة أن تساهم بنسبة من النسب في هذه المصروفات، لكن ما هو قدر هذه النسبة؟ هذا سؤال سابق لأوانه، والمهم هو أن نكون مستورين أمام ضيوفنا، وأن نستقبلهم بشكل جيد. فالناس يتسابقون للمساهمة معنا، لكننا ما زلنا قادرين على الوفاء بمراسم فرحة عودة عبد الباسط لأيام قادمة».