مفتي أفغانستان: فتاوى طالبان ضيقت على الناس وابتعدت عن جوهر الإسلام

الشيخ حجت الله نجيح لـ«الشرق الأوسط» : نتلقى استفسارات دينية عدة بعضها جديد على المجتمع الأفغاني

مفتي أفغانستان الشيخ حجت الله نجيح («الشرق الأوسط»)
TT

«الموسيقى إثم عظيم والتلفزيون من الكبائر، والسجن ثلاثة شهور للمدخنين، والسجن شهران لمستمعي الموسيقى، وفتاوى تتعلق بإطلاق اللحية وطولها، وأخرى تطالب بحث المسؤولين على الانتظام في صلاة الجماعة أثناء ساعات العمل كقدوة حسنة لمرؤوسيهم، وأخرى تحدد شروط التوظيف الحكومي وأولها أن يكون الباحث عن العمل ملتحيا، ومن أصحاب العمائم». هكذا كانت الفتاوى في عهد حكم طالبان. وعندما التقيت مفتي تلك الحركة المتشددة، مولوي السيد رحيم، عام 2000 في المحكمة العليا «ستور محكمة» في وسط العاصمة الأفغانية، كان يبلغ من العمر 60 عاما، وبدا جامد الوجه ومتجهما. عندما أخرجت الكاميرا لالتقط صورة له اكفهر وجهه وهددني بتوقيع الجزاء علي، ولم ينس أن يذكرني أن «اشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون». طالبني بنظرات حادة بوضع الكاميرا في حقيبتي وعدم المغامرة بمحاولة أخذ أي صور للموظفين داخل المحكمة العليا. وقال مولوي رحيم: «نحن في ديوان الجزاء المسؤول عن إقامة الحدود الشرعية»، وسمح لي بتصوير سوط معلق خلف مكاتب المسؤولين، لأنه جماد ليس به روح.

أما اليوم في كابل، فقد تغير المزاج العام، إذ صارت الموسيقى وثقافة بوليوود منتشرة، وهناك نحو 20 محطة تلفزيونية لا تتوقف عن بث الموسيقى والبرامج التي يقبل عليها الشباب مثل «أفغان ستار أكاديمي» الذي تبثه محطة «تولو» للعام السادس على التوالي، وتجد حليقي الذقون من الشباب في شوارع وسط البلد أكثر من الملتحين، بل إنهم يتبعون الموضات العالمية في قصات الشعر، وفي محلات الحلاقين تجد صور ترافولتا والباتشينو وهيو جرانت. وفي شارع شهرانو وسط كابل، واسمه يعني البلدة الجديدة، دخلت إلى متجر يبيع أقراص الموسيقى الهندية والباكستانية المدمجة، ووجدت قرصا واحداً لأغاني وموسيقى نانسي عجرم، وقال لي حشمت خان البائع إن الأفغان يقبلون على موسيقاها.

ذهبت إلى مكتب مفتي الأفغان السيد حجت الله نجيح، وهو شيخ طاجيكي يبلغ من العمر 35 عاما ويتحدث العربية بطلاقة إذ كان تعلمها في العاصمة الباكستانية إسلام آباد أثناء دراساته العليا في الفقه والشريعة، وهو أيضا خطيب مفوه وله مسجد في كابل يخطب فيه الجمعة ويؤم فيه المصلين كل ليلة في صلاة التراويح، وهو من مواليد قرية شاه اب بمديرية تاخار، وأنهى دراساته الابتدائية والثانوية في مديرية تاخار قبل أن يرحل إلى بيشاور الباكستانية ومنها إلى كراتشي، وهو رجل بشوش يستنبط فتاويه من الكتاب والسنة والأثر الصحيح، ولم يمانع أبداً في مكتبه بإدارة الحج والزيارة بوسط كابل أن التقط له عشرات الصور، بل استأذن في أن يضبط «الباكول» وهو غطاء الشعر الطاجيكي ويهذب لحيته قبل أن ابدأ في التقاط الصور، وأصر أن التقط له صوراً بجانب مزهرية بها ورود بجانب مكتبه، وفي مكتبه كومبيوتر وطابعة، أما في مكتب مفتي طالبان فلم يكن هناك سوى السوط المعلق على الجدار.

والشيخ نجيح هو الوحيد الذي تعرفت عليه لديه طفلة واحدة فقط اسمها صفوة. وعلى مكتبه يوجد عشرات التفاسير للقرآن وأمهات الكتب الشرعية مثل «الرد المختار»، و«فتاوى ابن عابدين»، و«فقه الإسلام وأدلته» للدكتور وهبة الزحيلي، و«بدائع الصنائع» للكاساني.

وطوال الفترة التي حكمت فيها طالبان بين عامي 1996 و2001، كان الشيخ حجت الله نجيح في كراتشي الباكستانية يعمل في التدريس، وكان له مسجد يخطب فيه صلاة الجمعة، وكان يصدر فتاوى وله مريدون وأهل وأصدقاء. وعاد إلى أفغانستان بعد سقوط طالبان. وجاء الحوار معه على النحو التالي:

* ما نوع الفتاوى التي تصدرونها هذه الأيام؟

ـ هناك فتاوى تتعلق بالأمور الحياتية والمسائل الشخصية والاجتماعية التي تهم المواطن العادي مثل مشاكل الزواج والطلاق والميراث والخلاف بين الأفراد مع الدولة أو الإدارات الحكومية التي سيطرت على أراضي المواطنين، أو نبش القبور القديمة لإقامة مساكن عليها، وفي المذهب الحنفي لا يجوز البناء فوق القبور الجديدة. ونحن نتبع المذهب الحنفي في عموم الأراضي الأفغانية.

الفتاوى تأتي إلينا عبر الهاتف وعبر الجوال وعبر رسائل شخصية من الإدارات في المديريات المختلفة ونرد عليهم في خطابات ممهرة بتوقيعي وأحيانا بتوقيع وزير الحج والأوقاف الشيخ محمد صديق تشكري. قبل أيام جاءتنا أسئلة مهمة بخصوص أراضي الوقف، وكانت المشكلة قائمة بين وزارة الدفاع المدني وسكان منطقة باغمان بعد أن بسطت وزارة الدفاع سيطرتها على أراضي هؤلاء الناس دون وجه حق.

هناك فتاوى أخرى حديثة لم نتعود عليها من قبل في المجتمع الأفغاني مثل «الإلقاء المصنوعي» أو ما يعرف في العربية «زراعة أطفال الأنابيب»، وأخرى عن زراعة الأعضاء. الفتاوى تتماشى مع هموم الحياة اليومية في المجتمع الأفغاني. هناك أيضاً فتاوى عن البنوك الإسلامية والحسابات الجارية والفوائد، وهي أمور حديثة جاءت إلينا بعد سقوط طالبان. نصدر في العموم فتاوانا بالقياس مع الكتب الفقهية المعتبرة مثل فتاوى عاشور ابن عابدين، وكذلك بالنظر في كتاب «الرد المختار» المشهور بفتاوى شامي، و«الفقه الإسلامي وأدلته» للدكتور الزحيلي.

* في عهد حركة طالبان أصدر الملا محمد عمر فتوى واحدة تمنع زراعة المواد المخدرة، واختفى الهيروين من أفغانستان عام 2000، هل أصدرتم فتاوى مماثلة؟ ـ أصدرت العشرات من الفتاوى التي تحرم زراعة المخدرات، ولكن دون مجيب من الفلاحين، وربما يكون السبب أن الفلاحين في هلمند وارزوجان ولشكرجاه لا يملك أغلبهم أجهزة راديو أو تلفزيون لان الكهرباء في أفغانستان قليلة جدا، وربما يقصرون لأنهم يبحثون عن المكسب السريع والأكبر من زراعاتهم، أو لأن الحكومة ضعيفة، وهذا النوع من الفتوى يحتاج إلى تطبيق سلطة الحكومة المركزية، ويجب أن تفكر أيضا الحكومة في استنباط زراعات بديلة لهؤلاء الفلاحين ومساعدتهم، ولا يكفى فقط إصدار الفتاوى التشريعية.

* هل تحتاجون إلى جهة عليا لتثبيت فتاواكم مثل القصر الرئاسي أو وزير الحج والأوقاف والإرشاد؟ ـ لا نحتاج إلى جهة عليا لتثبيت فتاوانا. أحيانا يوقع على الفتاوى إلى جانبي الشيخ تشكري وزير الحج والإرشاد.

* ما هو أغرب طلب فتوى جاءكم منذ توليكم منصبكم؟ ـ فتوى «الإلقاء المصنوعي» التي كانت غريبة على مجتمعنا ولم نعرفها من قبل. أثارت جدلا في أجهزة الإذاعة والتلفزيون، وهو ما تقولون عنه في البلاد العربية وأوروبا زراعة أطفال الأنابيب. لم نتعود على هذا ولم نسمع به من قبل.

* ما هو عدد طلبات الفتاوى التي تتلقونها شهريا؟ ـ أكثر من عشر فتاوى مكتوبة رسمية، وعشرات الأسئلة عبر الهاتف والجوال.

* ما رأيكم في الفتاوى التي صدرت أيام طالبان مثل منع الموسيقى ومنع تعليم البنات ووجوب إطلاق اللحية بطول قبضتين؟

ـ الفتاوى التي صدرت تلك الأيام ضيقت على الناس حياتهم ولم تكن على هوى عموم الأفغان. كانت بعيدة عن جوهر الإسلام، ولكن بعضها يتماشى مع الشرع مثل تحريم الموسيقى. حتى في هذه الأيام إذا سألتني عن الموسيقى فإنني أرى أنها تشغل الإنسان عن عبادة ربه أو التفكر في خلق الله. أما بخصوص اللحية فهي في السنة قبضة وليست قبضتين كما تقول طالبان. وبشأن التلفزيون، لم يكن من رأينا تحريمه إلا البرامج الخليعة والرقص والأغاني التي تثير الغرائز، فهي محرمة. لكن التلفزيون مهم أيضا لإذاعة الأخبار والبرامج الإسلامية وبث القرآن الكريم وتعريف الناس بدينهم الحنيف.

أما التصوير الفوتوغرافي الذي حرمته طالبان فهو أمر مختلف عليه بين العلماء. أنا شخصيا لا أوافق عليه بالمرة، لأن العالم يتقدم إلى الأمام وليس إلى الخلف، وطالبان جاءوا بفتوى تحريم التصوير الفوتوغرافي من العلماء الهنود الذين يسمحون به فقط ضمن فقه الضرورات أي عند استخراج جوازات السفر أو بطاقات الهوية. طالبان بصفة عامة كانوا متطرفين وأفكارهم شاذة، والمتطرفون في هذه الدنيا ليسوا قليلين بل كثر.

* إذا أخذنا الحالة الاقتصادية الصعبة في أفغانستان، ما هو الحكم مثلاً على شخص سرق بسبب الحاجة؟ ـ إذا كان بسبب الحاجة أو بسبب الجوع، فإنه يجوز للإنسان أن يأكل من ميتة مع انه حرام، فلو سرق بسبب الفقر يكون النظر إلى هذا النوع من الأمور بطريقة مختلفة ليس بها تشدد.

* ما هو موقفكم مما تبثه محطات التلفزيون مثل برنامج «أفغان ستار أكاديمي»؟

ـ لا شك أن كل جديد لذيذ، يقبل عليه العوام، ولكن بعد أن يتذوق الشباب مرارة تلك الجرعات سيعرفون حقيقة الأمر. كثيرا ما أرسلنا خطابات إلى محطات التلفزيون نطلب منهم تقليل جرعة التعري والبرامج التى تدعو إلى التسيب والانحلال لأنها لا تتماشى مع ثقافة مجتمعنا الأفغاني الإسلامية، وكتبنا كذلك إلى وزارة «اطلاعات فرهند» أو كما تقولون وزارة الإعلام. انتقدنا فيها الغزو الفكري لبلادنا، وننبه خطباء المساجد إلى هذه المسألة التي باتت تعرف بين الأفغان باسم «تهاجم فرهنجي» أي «الغزو الثقافي» وهي حديث أهل الصفوة في عاصمة الأفغان وهم يتخوفون منها على مستقبل شبابنا. أرسلنا الفتاوى إلى التلفزيون الرسمي بحق رفضنا لهذا النوع من الغزو الفكري، الذي بات واضحا للعيان انه يهدد شبابنا وبيوتنا.

* هل هناك توحيد في خطب الجمعة والأذان في مساجد الأفغان؟ ـ يوجد في أفغانستان نحو 160 ألف مسجد، لكن المساجد الرسمية التي تتبع وزارة الحج والأوقاف تعد بنحو 3500. في هذه المساجد يتلقى الإمام والخطيب والمؤذن رواتبهم الشهرية من الوزارة، وفيها الأذان والخطب موحدان.

* كيف يقضي الأفغان أيامهم في رمضان؟ ـ مثل معظم أبناء الدول العربية والإسلامية ولكن ربما بعض العادات والتقاليد تختلف هنا في أفغانستان، لأننا نجتهد في الشهر الكريم من اجل الصيام والصلوات والتراويح والتصدق وقيام الليل. فهذا شهر التقرب إلى الله عز وجل. حتى الأولاد الصغار قبل بلوغهم يصومون الشهر الكريم بالكامل.

بعد الإفطار نتوجه إلى المساجد لأداء صلوات التراويح، وبعض المساجد تختم القرآن الكريم أكثر من مرة خلال الشهر الفضيل، والبعض يختم في العشر الأوائل من الشهر وآخرون يختمون في العشرة أيام الثانية، كل حسب مقدرته. البعض من المقتدرين مالياً يسافرون لأداء العمرة. أنا خطيب في مسجد جامع بهترين عالم، في العاصمة كابل، وكل ليلة اقرأ جزءين من القرآن الكريم في صلوات التراويح.