رحيل أسد الكونغرس.. وآخر أعمدة أشهر أسرة في أميركا

«تيد» مرر أكثر من 300 قانون.. وأوباما وعد بإكمال حلمه: ضمان العلاج لكل أميركي

TT

قبل وفاته مساء أول من أمس عن 77 سنة، كان السناتور الأميركي الديمقراطي ادوارد «تيد» كيندي، ثاني أكبر أعضاء مجلس الشيوخ سنا بعد روبرت بيرد (ديمقراطي) الذي يبلغ من العمر 92 سنة. وقضى ادوارد ثاني أكبر عدد من الدورات (9) في الكونغرس، بعد السناتور ستروم ثيرموند (جمهوري) الذي قضى عشر دورات. وقضى أيضاً ثالث أطول فترة في الكونغرس (47 سنة) بعد السناتور بيرد والسناتور هايدن (56 سنة لكل منهما). وربما يعد هو الأول بين المشرعين من حيث التوجه الليبرالي والاهتمام بمشاكل الفقر والجهل والتفرقة وسط الأميركيين، رغم انه ولد في عائلة شبه ارستقراطية. وبرحيله تكون أشهر أسرة أميركية قد فقدت آخر أعمدتها السياسية. ولد ادوارد في بوسطن (ولاية ماساتشوستس) سنة 1932، وهو الابن الرابع للدبلوماسي جوزيف كيندي الذي صار ثريا من استثمارات وتجارات منها تجارة الويسكي (بعد سنة 1932، عندما عدل الدستور الذي كان منع إنتاج وبيع وشراء وشرب الخمور). استفاد رب العائلة من خلفيته الايرلندية في استيراد الويسكي، ومن الازدهار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية. وجمع بين التجارة والسياسة، وتعمد تعليم أبنائه وبناته التسعة تعليما عاليا وتشجيعهم للعمل الاجتماعي والسياسي. لكن، قتل ابنه الأول، جوزيف، في عمليات عسكرية في المحيط الهادئ خلال الحرب العالمية الثانية. وكان والده يريده قائدا لبقية الإخوان والأخوات (كان قطع دراسته في جامعة هارفارد للتطوع في العمل العسكري).

وانتقلت الراية إلى الابن الثاني، جون، الذي تخرج من جامعة هارفارد ثم صار محاميا، وجعل السياسة والعمل العام مهنة يفتخر بها. ترشح وفاز في دوائر محلية في ولاية العائلة (ماساتشوستس). ثم دخل الكونغرس، وفي سنة 1960، ترشح وفاز برئاسة الجمهورية. ولم يكن سرا أن والده صرف عليه كثيرا ليفوز (مع اتهامات بأنه اشترى أصواتا في شيكاغو). ألهب الرئيس الشاب حماس الأميركيين بسبب صغر سنة وجمال زوجته، جاكلين، وبسبب وعوده للجيل الجديد بنقل أميركا إلى «نيو فرنتيرز» (حدود جديدة) سواء على الأرض أو في الفضاء، وذلك لأنه بدأ برنامج إرسال أول إنسان إلى القمر ولاكتشاف الفضاء البعيد، لكنه اغتيل سنة 1963. وانتقلت الراية إلى الشقيق الثالث، روبرت، الذي كان هو الآخر محاميا وسياسيا وناشطا في المجالات الاجتماعية والإنسانية. كما كان وزيرا للعدل في حكومة شقيقه. وفي سنة 1968، ترشح لرئاسة الجمهورية، لكنه قتل خلال الحملة الانتخابية. وبعدها، انتقلت الراية إلى الشقيق الرابع، ادوارد.

مثل أشقائه الثلاثة، درس ادوارد في جامعة هارفارد، وفي سنة 1960، كان مدير الحملة الانتخابية لشقيقه الرئيس. وفي سنة 1962، ترشح وفاز في دائرة شقيقه، وصار اصغر سناتور عمرا (30 سنة)، وظل في منصبه لسبع وأربعين سنة، حتى وفاته مساء أول من أمس. لكنه في البداية، لسوء الحظ، وعندما كان في جامعة هارفارد، طرد لفترة من الزمن بسبب استعانته بشخص ليحل مكانه في امتحان. وبعد سنوات من دخوله الكونغرس، اعتقل لفترة من الزمن ثم أطلق سراحه بعد اتهامه بقتل ماري كوبيكني، التي كان تزوجها قبل 11 سنة من الوفاة، وكان عمره وقت الزواج 26 سنة. توفيت ماري عن عمر 29 سنة، ويقال إن علاقة غرامية ربطت بينهما. لكن نفى تهمة القتل. وكان هو الشاهد الوحيد في الحادث لان الشابة غرقت داخل سيارته عندما أخطأ وأسقط سيارته من جسر في منطقة نائية في منتصف الليل. وبقيت جثة الشابة في السيارة حتى اليوم التالي لأنه هرب من مكان الحادث.

بعد إعلان وفاة ادوارد الليلة قبل الماضية، نقلت قناة تلفزيونية أميركية كلام أميركية يبدو أنها لا تحبه، قالت: «كالعادة، وزع والده رشوات لإنقاذ ابنه. هذا رجل مجرم». ويوضح هذا أن ما حدث قبل خمسين سنة لا يزال نقطة سوداء في تاريخ كيندي، وربما في تاريخ العائلة.

وفي وقت لاحق لحادثة الوفاة، اعترف كيندي بأنه هرب من مكان الحادث خوفا من أن يؤذي سمعة العائلة. لكن صار واضحا أن سمعة العائلة تأذت لأنها استغلت علاقاتها وثروتها، للدفاع عن ابنها. وحكمت المحكمة بان ما حدث لم يكن جريمة متعمدة أو اشتراكا في جريمة متعمدة. وحكمت عليه بالسجن عشرة سنوات مع وقف التنفيذ.

بعد الحادث بعشر سنوات، عندما ترشح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات التمهيدية، ظهر كابوس الشابة الغارقة، وكان عاملا رئيسيا في فشله في الانتخابات التمهيدية أمام جيمي كارتر، حاكم ولاية جورجيا. (من أسباب فوز كارتر في مؤتمر الحزب الديمقراطي خوف قادة الحزب بان مرشح الحزب الجمهوري، الرئيس فورد، سيستغل فضيحة الشابة الغارقة في هجومه على كيندي، ويثير غضب الشعب الأميركي ويهزمه، وكان ذلك مؤكدا).

خلال السنوات التالية، اقتنع كيندي أنه لن يصير رئيسا للجمهورية، وركز على الكونغرس. واشتهر بالتطرق إلى المشاكل الاجتماعية، وقيادة التيار الليبرالي في الكونغرس، بل في كل أميركا.

يسمى «أسد الكونغرس» بسبب هذا السجل، وبسبب صوته الجهور لأنه كان يخطب وكأنه أسد يزأر، وبسبب تعمده الإشارة في كثير من خطبه إلى سجل العائلة في المجالات الليبرالية، مثل خطابه يوم تأبين شقيقه السناتور روبرت في كنيسة سانت باتريك التاريخية في نيويورك. في الحقيقة، كان أهم جزء في الخطاب فقرة من خطاب ألقاه شقيقه في جنوب أفريقيا (خلال سنوات حكم الأغلبية البيضاء)، قال فيه: «توجد في هذا العالم، وأنا أتحدث إليكم في النصف الثاني من القرن العشرين، تفرقة عنصرية، وتجارة رقيق، وقتل وجوع. وتوجد حكومات تضطهد شعوبها، ويوجد ملايين يموتون من الجوع بينما تكدس دول ثرواتها وتسلح أنفسها. يوضح هذا أن عدالة الناس ليست مثالية، وان عطف الناس ليس كافيا، وان الشر من فعل الناس، لكننا يجب أن نتذكر أن غيرنا إخوان وأخوات لنا، وأنهم يشاركوننا حياة قصيرة عابرة، ويشاركوننا البحث عن السلام والأمن والسعادة».

منذ نصف قرن، صارت كلمات تأبين شقيق لشقيقه من أحسن ما قال الليبراليون الأميركيون عن ليبراليتهم. لكن، لم يكتف كيندي بالخطب والشعارات. وخلال نصف قرن تقريبا في الكونغرس قدم ونجح في تمرير أكثر من ثلاثمائة قانون، منها:

أولا: قانون سنة 1965 للهجرة والتجنس (فتح الباب أمام هجرات من دول العالم الثالث، بعد أن كانت شبه مقصورة على الأوروبيين. وغير، كما يشاهد اليوم، التركيبة العرقية والإثنية للشعب الأميركي).

ثانيا: قانون سنة 1971 لعلاج السرطان (أسس اكبر مؤسسة لعلاج السرطان في العالم، واليوم تساهم أبحاثها واختراعاتها في مواجهة هذا المرض الخبيث).

ثالثا: قانون سنة 1974 للانتخابات الفيدرالية (عدل قانونا قديما لضمان تصويت السود لأن قوانين انتخابات ولايات في الجنوب كانت تعرقل تصويتهم).

رابعا: قانون سنة 1986 لمحاربة التفرقة العنصرية (كان أساس معارضة الحكومة الأميركية للتفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، وبداية سقوط نظام الحكم العنصري هناك).

خامسا: قانون سنة 1996 للعلاج الصحي العقلي (اعتبر الأمراض العقلية متساوية مع غيرها).

سادسا: قانون سنة 1996 لإصلاح التأمين الصحي (اقتصر على ضمان نقل التأمين الصحي من شركة إلى أخرى، وكان خطوة أخرى من خطوات كيندي لتحقيق هدفه الأكبر: ضمان علاج كل أميركي).

منذ بداية السنة الحالية، بدأ الرئيس باراك اوباما حملة لتحقيق نفس هذا الهدف الصحي. وأمس، عندما ألقى اوباما خطابا بمناسبة وفاة كيندي، قال انه حريص على تحقيق هدف كيندي الأكبر هذا. وجاءت الأقدار أن يموت كيندي بعد أن اقترب الكونغرس من تمرير حلم حياته.