قصر الحكم في الرياض.. شاهد المعجزة وراصد التحول

الرويشد يستحضر تاريخ القصر ويسجل برنامج الملك المؤسس اليومي داخله

صورة ساحة الصفاة في لقطتين الأولى قبل 67 عاماً والثانية التقطت حديثاً
TT

خلال الـ 111 عامًا الماضية بدءًا من المغامرة الناجحة التي قام بها الشاب عبد العزيز بن عبد الرحمن لاستعادة ملك آبائه وأجداده باقتحامه «حصن المصمك» وبين واقعنا اليوم هناك قصة كفاح ووحدة وتطور ونمو كان قصر الحكم شاهدًا عليها، لقد تحول هذا المكان إلى أشبه بالمعجزة، وتحولت الرياض إلى واحدة من أكبر الحواضر في العالم، لقد أصبحت الشام مقارنة بالرياض باهتة، وتبدو ايطاليا رتيبة مملة كما وصف ذلك الرحالة وليم بلجريف عندما زار الرياض في أواخر عام 1279هـ، واستحضر المؤرخ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد تاريخ قصر الحكم كما استحضر صورة رائعة للملك المؤسس وهو يجلس في قصر الحكم (قصر الديرة) وحوله الزوار والعاملون معه من السعوديين ومن المستشارين العرب يستمعون إلى دروس في السيرة النبوية أو التفسير أو الحديث أو التاريخ ويتحاورون فيما كتبه ابن هشام أو السيوطي والطرطوشي في كتاب سراج الملوك أو ابن خلدون في مقدمته أو القرطبي في تفسيره.

ظل قصر الحكم في الرياض في أول عهد الملك عبد العزيز، وبالتحديد منذ استرداد الرياض وحتى دخول جدة وتسليمها سنة 1344هـ مصدر السلطة بواسطة الديوان الملكي وما فيه من شعب وإدارات، هو وحده الذي يتولى أعمال الدولة والمرجع المباشر لجميع الشؤون، ورئيسه الأعلى الملك عبد العزيز.

ظل الأمر على هذا الوضع مدة النصف الأول من الخمسين عامًا التي حكم فيها الملك عبد العزيز، كما ظلت وزارته الخارجية ـ وحتى بعد إنشاء الوزارات ـ ووزارة المالية والدفاع تستمد سلطتها مباشرة منه، وكل وزير يتصل به شخصيًا.

أما الوزارات والمصالح الأخرى، فقد وضعت تنظيمات وتشكيلات لها على القواعد والأساليب الحديثة بعد تسلم مكة وجدة والمدينة.

واستقر أمر مملكته إلى عهد قريب من وفاته على ثلاث وزارات فقط، ثم أضيف إليها وزارتان أخريان في أيامه.

وكان الملك عبد العزيز أقوى حاكم ظهر في الأمة العربية خلال المائة عام الماضية. وربما كانت تلك القوة مستمدة مما كان يؤمن به ويتحدث عنه دائمًا وهو أن الفرد وحده لا يبني دولة، ولا يقرر مصير أمة، وكان يعرف أن الممالك والدول المهمة لم تقم نتيجة جهود زعيم بمفرده، بل قامت بمجموعة رجال أكفاء وهذا ما جعله يحرص على كسب كل الكفاءات وضمها إلى دولته. وقد قال يومًا لـ (كلايثون) ـ الجنرال البريطاني: إن الإمبراطورية البريطانية بلغت ما بلغت برجال أكفاء أمثال (كلايثون) فرد كلايثون ليجامل عبد العزيز: نعم ما ذكرته صحيح، ولكن ملك بريطانيا الواسع لم يؤسس إلا في مئات من السنين، ونحن معجبون بك يا عبد العزيز، فأنت في ثلاثين سنة قد أسست ملكًا واسعًا، وإذا استمر لك هذا التقدم فأظن أنه في نصف المدة التي أسسنا فيها ملكنا تؤسس أنت إمبراطورية مثل أو أكبر من بريطانيا، وهذا ليس ببعيد فأسلافكم العرب قد شيدوا إمبراطورية عظيمة في مدة قصيرة. فرد عليه الملك عبد العزيز مرة ثانية في حذر وقال: هذه وإن كانت أمنية العرب ولكنني لا أعتقد في نفسي القدرة على تحقيق ذلك، وكل ما أتمناه أن يجعل الله من رجالنا من يماثلكم في الإخلاص والتضحية لبلادهم.

يتكون قصر الحكم في عهد الملك عبد العزيز من طابقين وأربعة أجنحة تمتد من وسط القصر إلى الجهات الأربع، وكل جناح من هذه الأجنحة يتكون من غرف واسعة وقاعات وسلالم وباحات.

وأوسع هذه الأجنحة وأهمها: الجناح الشمالي ... ففي الطابق الأرضي منه مخازن كبيرة مملوءة بالأطعمة المختلفة اللازمة للتموين، ويوجد عند نهاية هذه المخازن مطبخ سلطاني كبير يتم فيه إعداد الطعام لمن في القصر ولجمهور الزائرين من الضيوف، وكانت قدور هذا المطبخ كبيرة يصل علو الواحد منها إلى ثمانية عشر قدمًا، وتتسع لطبخ بعير كامل، وكان الطباخون يعدون كل يوم الوجبات التقليدية من الأرز واللحم، ويقدم الطعام للضيوف على دكة واسعة فوق المطبخ.

أما الجناحان الجنوبي والشرقي من القصر فكان فيهما مكاتب ومستلزمات الشؤون الداخلية للخاصة الملكية، وإدارة جيش المجاهدين، ومساكن الحراس وخدم القصر. وكانت أعمال الديوان الملكي تتم في الطابق الأول من الجناح الشمالي الذي كان يحتوي على غرفة بلاط الملك ومجلسه الخاص والعام.

وكان في داخل القصر وفي خارجه العدد الكافي من (الدكك) المبنية من الطين يجلس عليها جمهور غفير من رجال القبائل والزوار وغيرهم ممن لهم حاجة.

وفي الطابق الأرضي رواق يؤدي إلى مسجد القصر الواقع في الجناح الغربي، وكان فوقه قاعة يصلي فيها الملك وحاشيته مؤتمًا بإمام المسجد. وفي جناح هذا القصر من الناحية الغربية غرف الملك الخاصة وأماكن عاملات القصر، وزوجات الخدم.

وكانت فترة عمل الملك الصباحية في القصر تنتهي بنهاية مجلسه العام، ثم يتناول غداءه ويستريح عند أهله حتى يؤذن لصلاة الظهر. وبعد الصلاة يجتمع جلالته بالشعبة السياسية التي كانت وظيفتها آنذاك إبداء المشورة لجلالته دون أن يكون لها أي سلطة تنفيذية.

وكان يحضر هذه الشعبة بعض المترجمين، وكانت طريقته كما نقل لنا أنه يطرح الموضوع الذي يود أن يستشير الأعضاء فيه، فيناقشه مناقشة عامة، ويترك للمستشارين أن يبدي كل عضو رأيه الحقيقي بحرية، ويقدم ما يراه من مقترحات. ثم ينهي الملك بعد ذلك المناقشة حين يترجح عنده أن الموضوع نال ما يستحق من نقاش، وبعد ذلك يتخذ الملك قراره الخاص تجاهه.

وبعد أن ينهي الملك اجتماعاته بمستشاريه في الشعبة السياسية في القصر يقوم هو وعدد من حاشيته بجولة... وكان يذهب إلى مسافات قصيرة في الصحراء أو خارج البلد في أحد البساتين حيث يؤدي صلاة المغرب قبل أن يعود إلى القصر ليتناول طعام العشاء.

وكان الملك عبد العزيز يجلس في القصر بعد صلاة العشاء جلسة غير رسمية مفتوحة لكل الوجهاء والزوار وكبار الموظفين، تبدأ تلك الجلسة عادة بقراءة قارئ خاص للقصر جزءًا من الكتب المطولة في التفسير أو السيرة النبوية أو التاريخ... وبعد نصف ساعة تقريبًا يفتح المجال لمن يريد أن يفتح موضوعًا للمناقشة، ثم يدار على الحضور بأوان مملوءة بحليب النوق.. ثم يقوم جلالته بجولة في الديوان تنتهي غالبًا عند الشعبة السياسية حيث ينتظره المستشارون لمناقشة بعض الأمور المهمة، وقبل أن يذهب إلى سكنه الخاص يقوم بزيارة أخيرة لمكتب ديوانه إن كان هناك ما يتطلب العناية وكان مستعدًا للاستماع دائمًا عن أي مشكلة.

عقد في عام 1347هـ اجتماع في قصر الحكم حضره العلماء والزعماء، ورؤساء الحواضر والبوادي ومن انضم إليهم من كبار رجاله، وتخلف رؤساء الفتنة عن حضور ذلك المؤتمر وأناب بعضهم عنه في الحضور، وسمي ذلك المؤتمر الجمعية العمومية، وبعد افتتاح المؤتمر خطب الملك عبد العزيز خطبة ضافية ارتجلها وعرف فيها الحاضرين بنعم الله عليهم، وذكرهم بذلك، وأشار إلى أنه يريد أن يعرف رأيهم فيه شخصيًا وفي أمرائه ليخرج بمعذرة أمام الله وليؤدي ما عليه من واجب، ثم أشار إلى ما هم فيه قبل أن يحكم من فرقة، وقتل، ونهب، وضعف، وأشار إلى أنهم يعرفون هذا جيدًا وأنه لم يجمعهم خوفًا أو رهبة، ولكنه جمعهم لشيء واحد وهو النظر فيمن يتولى الأمر غيره ليختاروا واحدًا يتفقون عليه، وأنه لم يقل ذلك امتحانًا لهم، ولم يترك هذا الأمر عن ضعف، ولكنه يحب أن يرتاح من ناحية، ولأنه يستعيذ بالله من أن يتولى قومًا وهم له كارهون.

وعند ذلك ارتفع صياح الحضور يقولون: (لا والله لا نريد عنك بديلاً، ولن نرضى بغيرك)... فاستمر في خطابه معرضًا عنهم، ثم أشار رحمه الله إلى موضوع الخلافات التي بينهم وبينه، وتعهد بأن ينفذ ما يجمع عليه العلماء في مسائل الخلاف ويقبل ما كان أقرب إلى الدليل... ثم التفت إلى العلماء يقول لهم:

(إياكم أيها العلماء أن تكتموا شيئًا من الحق، تبتغون بذلك مرضاة وجهي، فمن كتم أمرًا يعتقد أنه يخالف الشرع فعليه اللعنة، وأظهروا الحق وبينوه وتكلموا بما عندكم).

ويذكر من حضر الاجتماع ودون ما دار فيه أن العلماء أجابوا بأنهم يبرأون إلى الله من كتمان ما يظهر من الحق، وأعلنوا أنهم ما نصحوه إلا انتصح ولو رأوا في عمله ما يخالف الشرع لما سكتوا عنه، وهم ما رأوا منه إلا الحرص على إقامة شعائر الدين واتباع ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ونهض أحد الحضور فقال: إننا لا نعرف ما ينتقد به على عبد العزيز إلا (الأتيال) ـ يريد اللاسلكي ـ فيقال: إنه سحر، ولا يخفى حكم السحر والسحرة في الإسلام، الثاني (القصور) يعني المخافر التي تبنيها حكومة العراق على الحدود وهذا ضرر على أرواحنا وعلى أوطاننا.

فأجاب عبد العزيز ليقل العلماء رأي الإسلام في الأتيال.

فأفتى العلماء بأنهم لم يجدوا في القرآن أو السنة أو قول أحد العلماء ولا من العارفين دليلاً على تحريم الأتيال وأن من يقول بالتحريم يفتري على الله الكذب ونبرأ إلى الله منه.

وأجاب عبد العزيز عن موضوع المخافر قائلاً:

(إن القوم يدعون أنكم أنتم الذين بدأتموه بالعدوان وذلك بقتل السرية العراقية في «بصيه» ـ وأنتم ما حميتم ذمة ولي أمركم، والعراقيون يزعمون أن تلك المخافر ما بنيت إلا مخافة الخطر منكم).

وانتهى هذا المؤتمر بتصايح الإخوان: إننا نبايعك على السمع والطاعة ونقاتل من تشاء على يمينك وشمالك إننا نبايعك على مقاتلة من ينازلك ومعاداة من عاداك ما أقمت فينا شريعة الله.