تأبين الشاعر محمود درويش في الرباط يتحول إلى لقاء يبحث في علاقة الشعر بالسياسة

حشد من السياسيين المغاربة حضر الأمسية

TT

تحول حفل لتأبين الشاعر الفلسطيني محمود درويش في الرباط، إلى «أمسية سياسية». وحضر حشد من السياسيين المغاربة الأمسية التي نظمها «بيت الشعر المغربي» مع سفارة فلسطين في الرباط بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة الشاعر الفلسطيني. وركز الباحث عبد الله ساعف، وهو وزير مغربي سابق، كلمته على علاقة الشعر والسياسة في مسار محمود درويش، وقال في هذا الصدد «لم أقصر اهتمامي به شاعرا وحسب، بل بما يصل الشعر بالسياسة»، مشددا على أن حياة الشاعر الراحل ارتبطت بالسياسة منذ طفولته، ورافقته في منفاه، بعد هدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي لمنزل أسرته.

وقال ساعف إن درويش كان من بين المثقفين الذين قدموا منذ البداية إلى السياسة، وذلك في سن السادسة من عمره، بعد قيام إسرائيل، فقد ولد على نحو ما داخلها، فالسياسة اقتحمته في عز صغر سنه، وظل دائما في قلبها، وما ميز تلك الفترة من عمره هو حرمانه من طفولته، وظل دائما منخرطا في السياسة على نحو يحول دون تخلصه منها. وأصبح الشعر هو وطنه البديل الذي يعبر فيه عن جروحه. واستعرض ساعف لمحات مما أسماه «الظاهرة الدرويشية كظاهرة سياسية»، متوقفا عند ثلاثة مستويات حكمت مسار علاقة شعر درويش بالسياسة، عبر المراحل التي مر منها، والتي همت على الخصوص مستوى الرفض الذي أبانت عنه دواوينه الأولى، ومستوى بزوغ شعر المقاومة، ومستوى ما بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، حيث جسدت النكسة منعطفا في تجربته الشعرية.

واستخلص ساعف أن درويش في السنوات الأخيرة من عمره بدا وقع شعره قويا أكثر في النفوس، ولذلك كان يستقطب جمهورا واسعا يتفاعل ويتأثر بإبداعه بوصفة تجربة سياسية، وكلما زار المغرب كان يحج إليه عشاقه بالآلاف. وتخللت الأمسية قراءات شعرية مختارة من شعر درويش، بصوت الشاعرة عائشة البصري، والممثلة مجيدة بنكيران، فيما تولى الشاعر عبد الدين حمروش إنشاد قصيدة، قال إن فيها شيئا من درويش، وأوضح الشاعر نبيل منصر في شهادته أن هذا الشاعر الراحل يستعصي على الموت، «وهو يذكرنا بأن الشعراء لا يموتون»، وقرأ يوسف النوري شهادة بعنوان «هبة شاعر»، مشيرا إلى أن درويش «أتقن صنع هديته لنا في أكثر من مناسبة، وهديته مدعاة فرح لنا»، وقدم رشيد برومي معزوفات موسيقية على العود ختمها بغنائه لقصيدة من تلحينه لشعر درويش.

وأجمعت شهادات كل المتدخلين على القيمة الإبداعية للشاعر المحتفى به، وعلى المكانة التي يحظى بها درويش في قلوب جميع أبناء الشعب المغربي، متوقفين بالخصوص عند العلاقة التي كانت تربطه بالمغرب، إذ كان دائم التردد عليه، ويرتبط بعلاقات وثيقة نسجها مع مثقفيه ومبدعيه. وقال نجيب خداري، رئيس بيت الشعر، إن درويش «كان صديقا كبيرا للمغرب والمغاربة، منحنا كثيرا من محبته وانتباهه الإنساني والإبداعي الرائع، وكان يعتبر مسرح محمد الخامس مختبرا أولا لقصائده الجديدة، وهو الذي كان مهووسا بالبحث عن العلاقة بين الصوت والقلب، بين الإلقاء والشعر، بين الشعر والنشيد، كما كان درويش عضو هيئة الشرف في بيت الشعر المغربي، رافق تأسيسه، وتابع تجربته بتعاطف وتعاون ودعم».

وذكر خداري في كلمته، التي اختار لها عنوان «بهاء يهزم كل أشكال الغياب»، أن درويش حين فاز بجائزة «الأركانة» التي يمنحها بيت الشعر لكبار شعراء العالم، أبدى فرحا بها وتقديرا كبيرا لها، وحدد موعدا لتسلمها في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر الماضي، «لكن المنية سبقتنا إليه».. يضيف خداري «وكانت الاحتفالية التي أقمناها بمسرح محمد الخامس، في الموعد ذاته، حيث ناب عن الشاعر الفقيد في تسلم الجائزة شقيقه أحمد درويش.. كانت الاحتفالية حدثا ثقافيا عربيا بكل المقاييس، بحجم جماهيري حاشد، فاق ألفين من الحاضرين، وبرمزية مشاركة شقيق الراحل وعدد من أقرب أصدقائه إليه، وفي طليعتهم الفنان الكبير مارسيل خليفة».

واستعرض الكاتب والروائي عبد الكريم غلاب في كلمة مرتجلة، وبصوت مؤثر، لمحة من ذكرياته مع درويش، وقال مناجيا إياه «أيها الراحل الحبيب»، مشيرا إلى أنه يشعر اليوم نحوه بأنه «أكثر قربا منه مما كان معنا حيا، شاعرا منشدا». وبعد أن ذكر غلاب أن درويش في قلب كل مغربي، استحضر أول أمسية شعرية قدمها الشاعر الراحل بمقر اتحاد كتاب المغرب بالرباط سنة 1972، «يوم كان للمغرب اتحاد للكتاب» حسب تعبير غلاب، في تلميح إلى المشاكل الداخلية التي يعرفها هذا التنظيم الثقافي، وهو ما نتجت عنه همهمة وسط الحاضرين. واستطرد غلاب قائلا إنه «في ذلك اليوم، عرفنا أن فلسطين ولدت شاعرا عظيما، كما ولدت أبطالا عظاما يكافحون من أجل الكرامة والحرية والاستقلال، فقد كان هو الناطق بكل المعاني والمبادئ والقيم، شعرا ونثرا، وكان شاعر الأرض، ولذلك فمن حق كل أبناء الأرض العربية أن يكرموا روح هذا الشاعر الكبير».

ووصف غلاب درويش بأنه «كان عامرا بكل مفاهيم وقيم الحياة الوطنية والنضالية، كان يناضل بقلبه وقلمه، ولذلك أصبح شعره مثالا لشعراء النضال في العالم كله، ولم يكن (درويشا) بل كان معطاء، وسخيا بالشعر واللغة والأدب، واستنباط مفاهيم جديدة للشعر، ما جعله على قمة الحداثة الشعرية، وفي مقدمة الحداثيين، وشاعر ما بعد الحداثة». وبدوره تحدث أحمد صبح، سفير دولة فلسطين بالرباط، عن درويش، فقال إنه يكاد يراه الآن ينحني بحيائه المعهود، ليشكر بكلمات مقتضبة، هذا التكريم، بعد سنة من رحيله، مذكرا بالأمسية الشعرية التي كان قد أحياها درويش بقصر الثقافة في رام الله، قبل رحلته إلى أميركا، حيث أنشد ما لديه من قصائد في حب فلسطين، وكانت آخر كلماته: «على هذه الأرض، سيدة الأرض، أم البدايات، وأم النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين».

وأكد صبح، وهو يتطرق لمختلف المحطات في التجربة الحياتية والنضالية والإبداعية لدرويش، وفي تنقلاته عبر المنافي، أنه «كان حاضرا دائما بيننا، بدءا بصرخته المشهورة: (سجل أنا عربي).. وكان يحمل معه فلسطين حيثما ذهب، وهو الذي انطلق ليكتب إعلان استقلالنا، وهو الذي قال: (لا تعتذر عما فعلت) كما كتب عن الانشقاق الفلسطيني». وقال صبح «إن درويش كان يعود دائما إلى خبز أمه، وهي التي جاءت بأعوامها التسعين، على سرير، لتحضر تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، كما ودعه شعب فلسطين بكامله، ولم تخرج فلسطين عن بكرة أبيها إلا لتوديع ياسر عرفات ودرويش».

وأشاد صبح بروح المقاومة لدى درويش، وقال: «عندما تشتد الصعاب حولنا، نعود إلى نفسه، لنستمد منه أملا جديدا، إذ لم يكن اليأس يعرف طريقا إلى قلبه». وخاطب روحه: «أنت حاضر فينا دائما، أنت تمثل روح التحدي، أنت شاعر في شعب، وشعب في شاعر».