رحيل فاطمة آخر ملكات ليبيا عن عمر يناهز 99 عاما

تدفن في المدينة المنورة بناء على وصيتها

TT

عن عمر يقارب الـ99 عاما، توفيت ظهر أمس في القاهرة، الملكة فاطمة، أرملة آخر ملوك ليبيا، الراحل إدريس السنوسي، بعدما أمضت الأسابيع الثلاثة الماضية في غيبوبة بأحد مستشفيات العاصمة المصرية.

وسينقل جثمان الملكة الراحلة برفقة بعض أفراد عائلتها فجر اليوم إلى المدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية حيث ستدفن هناك بناء على وصيتها، علما بأنها اعتادت في السابق قضاء أسبوعين من كل سنة في الأراضي المقدسة في ضيافة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله) في تقليد لم يتخل عنه من بعده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.

وسيغيب عن تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير، أي تمثيل رسمي أو حكومي ليبي بالنظر إلى أن الملكة أمضت السنوات الأربعين الأخيرة من عمرها، مقيمة بشكل اختياري في مصر ولم تطأ قدماها مطلقا الأراضي الليبية منذ تولى العقيد القذافي السلطة.

وكانت آخر ملكات ليبيا تعالج على نفقتها المالية الخاصة، من إغماءة تعرضت لها الشهر الماضي، قبل أن تفارق الحياة أمس في الساعة الواحدة وعشر دقائق من بعد ظهر أمس.

ونعى الدكتور نافع العربي السنوسي ابن أخيها والمشرف على شؤونها، عمّته الملكة فاطمة. وأعلن أنه بناء على توصيتها التي كانت تلحّ في التأكيد عليها كلما أحسّت بدنوّ الأجل، بألاّ يُقام لها مأتم أو مجلس عزاء من أي نوع في أي مكان، وأن التعازي فيها تقبل عن طريق البريد أو الفاكس أو البريد الإلكتروني.

وقبل مرضها الأخير اعتادت الملكة أن تطالع الصحف اليومية بانتظام ومتابعة نشرات الأخبار في القنوات الفضائية المختلفة خاصة المصرية المفضلة لديها، وتقريبا لا يمر يوم بدون مرورها عدة مرات على القناة الفضائية الليبية بحثا عن اللقطات الفولكلورية للفن الشعبي الليبي.

وعرف عن الملكة الراحلة أنها منظمة جدا وحريصة على نظامها الغذائي طوال حياتها كماً ونوعاً، وهو الأمر الذي أبعد عنها البدانة والأمراض الناجمة عنها، كما أسهم في حفاظها على صحتها، ومواظبتها حتى الآونة الأخيرة على صوم أيام الاثنين والخميس من كل أسبوع على مدار العام. ويجمع الكثيرون ممن التقوا الملكة قبل مرضها الأخير، أنها تُعدّ حقا مثلا يحتذى للمرأة العربية المسلمة، فقد جمعت بين نقيضين يصعب جدا التوفيق بينهما على مدى كل هذه العقود من الزمان، وفي ظل متغيرات الدهر التي مرت بها في أطوار حياتها. وظلت الملكة فاطمة متمسكة بكرامتها وعزة نفسها في غربتها، بمراحلها المتعددة وظروفها المتغيرة، بنفس الدرجة التي كانت تتمتع بها وقت أن كانت ملكة. وخلال فترة إقامتها الأساسية في مصر لم تدخل الملكة في أي تراشق إعلامي مع أية جهة كانت، وقضت سنواتها في المهجر عازفة عن التعليق على الشأن الليبي.

وكانت المرة الوحيدة التي كسرت فيها هذا المبدأ عندما قالت لـ «الشرق الأوسط» قبل نحو عامين، عبر أحد المقربين منها «حسبي الله ونعم الوكيل»، ردا على سؤال بشأن موقفها من اعتزام السلطات الليبية إعادة جميع أملاكها المغتصبة إليها، لا سيما منزلها الكائن في طرابلس الذي يعتبر المقر الحالي للسفارة البريطانية في ليبيا.

والملكة فاطمة ابنة نائب الخليفة العثماني على قارّة أفريقيا، أحمد الشريف السنوسي، أحد أشهر أبطال عرب الشمال الأفريقي، وشيخ وكبير الحركة والعائلة السنوسية بعد وفاة عمّه محمد المهدي السنوسي. ولدت فاطمة بواحة «الكُفرَة» في الصحراء الليبية الكُبرى سنة 1911، وعاشت بها حتى سن السابعة عشرة، ثم غادرتها مع أطفال ونساء العائلة السنوسية قبيل دخول القوات الاستعمارية للواحة بأيام قليلة، إلى مصر على ظهر الإبل في رحلة شاقة استغرقت 17 يوما.

واقترنت في عام 1930 في مصر بابن عمها إدريس السنوسي أمير برقة آنذاك، وسكنا في منطقة حمام مريوط بالصحراء الغربية بمصر. إلى أن رجعت إلى برقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتلعب دورها كأميرة بجانب زوجها أمير برقة بكل ثقة وكفاءة حتى عام 1951. وعندما تُوّج إدريس ملكا على ليبيا المستقلة، أصبحت فاطمة طبقا لبنود الدستور الليبي في ذلك الوقت، الملكة فاطمة. ولم تُرزق الملكة بأطفال، رغم ولعها بهم، فتبنّت عمر ابن شقيقها السيد العربي، كما تبنّت الطفلة الجزائرية سُليمة التي فقدت أهلها في الحرب الجزائرية الفرنسية.

وصفها صديق العائلة المستر إيريك ديكاندُل مفوّض الحكومة البريطانية في برقة (1949 ـ 1952) في كتابه «الملك إدريس عاهل ليبيا.. حياته وعصره» الذي نشره ووزعه الشيخ محمد بن غلبون سنة 1989 باللغتين الإنجليزية والعربية، بأنها «سيدة لطيفة مفعمة بالحيوية والنشاط وربة بيت مثالية تمتاز باللباقة والذوق السليم. وهي ليبية صميمة، كانت دائما نعم الزوجة للملك إدريس».

وغادرت الملكة فاطمة ليبيا للمرة الأخيرة في أغسطس (آب) 1969 برفقة الملك إدريس إلى تركيا في رحلة للعلاج، وكانا بها عند قيام الانقلاب في أول سبتمبر (أيلول). وبعد ذلك بأيام عادت إلى مصر كلاجئة للمرة الثانية بلا زاد ولا مال.

ومرّت الملكة فاطمة في الأسابيع الأولى للانقلاب بفترة عصيبة من التوتّر والعذاب الشديد بسبب فراق ابنتها بالتبني سُليمة، التي احتجزها نظام الحكم الجديد لفترة من الزمن حتى تدخل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لإطلاق سراحها والتصريح لها بالسفر واللحاق بها في مصر.

وخصص لهما عبد الناصر فيلا لسكناهما بمنطقة الدُقّي بالقاهرة، وكذلك مصيفا بالإسكندرية، وأجرى لهما مرتبا سنويا قدره عشرة آلاف جنيه مصري، وقد عاشا في عزلة تامّة تزايدت مع مرور الأيام، قبل أن يتفرّغ ابن أخيها الدكتور نافع العربي السنوسي متطوعا لخدمة ومؤانسة الملك والملكة في غربتهما. وكان دخل الملكة الوحيد هو نصيبها في ريع أوقاف الزاوية السنوسية بمكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، والذي يوزّع على مئات الأفراد من العائلة السنوسية.

ورغم تقدمها في العمر فإن الملكة فاطمة ظلت مواظبة على قضاء أسبوعين من كل سنة بالصحراء المصرية الغربية في منطقة حمام مريوط، بنفس البيت الذي سكنته مع زوجها الملك إدريس سنة 1930، الذي احتفظت به على حالته تلك، حيث تستقبل أهالي النجع وتواصلهم وتتفقد أحوالهم، وهم بدورهم يتطلعون سنويا لتلك الزيارة.

كما كانت تواظب على تلاوة القرآن الكريم، وكان من هواياتها الاستماع إلى سيمفونيات بيتهوفن.

ويقول المقربون منها إن من أعزّ ذكرياتها، حُسن ضيافة الرئيس الراحل المصري جمال عبد الناصر لها ولزوجها، والعناية الخاصة التي لقيتها من السيدة جيهان قرينة سلفه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، علما بأن رئاسة الجمهورية المصرية كانت حتى يوم وفاتها تزودها بسائق رسمي وحرس خاص.