زعماء عشائر تحالفوا مع الأميركيين في الأنبار: رحلوا بدون وداع.. ونخشى على حياتنا

قالوا إنهم جمعوا أعداء أكثر من الأصدقاء.. وإن البريطانيين أكثر صبرا

الشيخ رافع الجميلي وشيوخ عشائر آخرون قبيل اجتماع عقدوه أخيرا في الكرمة بمحافظة الأنبار («واشنطن بوست»)
TT

في وقت من الأوقات، اعتاد رائد صباح، أحد المقاتلين ضد المتمردين السير تيها وخيلاء. كان يعرف بالشيخ رائد بين متملقيه، وكذلك بين أبناء القبائل الذين اعتمدوا على هباته السخية، والمقاتلين العاملين تحت إمرته والذين انضموا إلى صف الأميركيين وساعدوا في سحق حركة التمرد داخل محافظة الأنبار. لكن الأميركيين انسحبوا من غرب العراق، وفقد صباح خيلاءه. بل وأصبح يتعرض حاليا لسخرية جيرانه باعتباره ألعوبة الأميركيين، وباتوا يطلقون على الشارع الذي يقطنه «شارع الخانعين». في هذا السياق، علق صباح من داخل فيلته في الرمادي، عاصمة الأنبار، التي شكلت في وقت مضى مهد حركة التمرد العراقية، بقوله: «رحل الأميركيون من دون حتى وداع. لم يودعنا ولا واحد منهم. حتى عندما اتصلنا بهم، تلقينا رسالة تفيد بأن الخط تم فصله». الملاحظ أن إجراءات الانسحاب الأميركية من العراق تتجلى في أقوى صورة لها داخل الأنبار، حيث تقلصت أعداد قواعد ومراكز القوات العسكرية الأميركية من 27 منذ أقل من عام مضى إلى ثلاثة اليوم. كما تضاءل حجم الأموال التي يجري إنفاقها بدرجة كبيرة. منذ نوفمبر (تشرين الثاني)، رحل عن المنطقة أكثر من ثلثي القوات المقاتلة. وخلف رحيلهم مزيجا من مشاعر السخرية والمرارة وخيبة الأمل والخوف بين الزعماء القبليين الذين حاربوا جنبا إلى جنب مع القوات الأميركية ضد المتمردين.

ومع انسحاب القوات الأميركية عن المحافظة، اعترف كولونيل ماثيو لوبيز، قائد قوات مشاة البحرية (المارينز) هنا بأنه «سيثير هذا الأمر سخط البعض». ويعترف صباح بأنه واحد من هؤلاء. وقال بصوت متثاقل وأمامه مجموعة من شهادات التقدير من قوات مشاة البحرية والجيش الأميركيين يغطيها الغبار: «لقد وقفنا بجانبهم، ونفذنا طلباتهم، ولم نسمح لأحد بإيذائهم. لم يكن ينبغي أن يتخلوا عنا». أثناء جلوسه مع زعماء القبائل الآخرين الذين انضموا للقتال الذي قادته واشنطن عامي 2006 و2007، أبدى صباح تحفظا واضحا في حديثه وقلقا من القدر، وهيمن عليه شعور بأن أعداءه يفوقون في كثرتهم أصدقاءه. وقال: «أتوقع الموت في أي وقت. اليوم أو الغد أو ربما بعد غد». نظرا لما تتميز به من تقاليد راسخة تقوم على مفاهيم الكرامة والعزة والشرف، ما من أحد داخل الأنبار، ربما أكثر الأقاليم العربية في العراق تمسكا بالطابع العربي، يجرؤ على الإعلان بأن الاحتلال كان أمرا جيدا، ولا يزال الأميركيون مفتقرون بشدة إلى التأييد الشعبي داخل بعض المناطق هنا. بيد أنه بغض النظر عن صحته، يسود اعتقاد داخل هذه المنطقة القاحلة الواسعة، التي يقطعها نهر الفرات، بأنه فيما يخص الاحتلال، يتميز البريطانيون بقدرة أفضل على إدارته عن الأميركيين. الملاحظ أنه لا تزال المحافظة جسورا يطلق عليها «الجسور البريطانية»، بنيت في أعقاب انتصار البريطانيين على الإمبراطورية العثمانية واحتلالهم العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى. يمتد أحد هذه الجسور عبر نهر الفرات في الرمادي. ويحرص أحفاد بعض الشيوخ على الاحتفاظ بصور لجدودهم مع حكام بريطانيين. وتباهى أحدهم بأن غيرترود بيل، الدبلوماسية والمغامرة البريطانية، كتبت عن جده، علي سليمان، أحد الشيوخ البارزين. كانت غيرترود قد أشارت إليه في إحدى رسائلها لوالدها باعتباره «أحد أكثر الرجال البارزين في العراق». في هذا السياق، أعرب علي حاتم سليمان، حفيد علي سليمان، عن اعتقاده بأن «البريطانيين تميزوا ببعد النظر. ولا يمكننا القول بأنهم تمتعوا بالمصداقية، لكنهم أبدوا قدرا أكبر من الصبر عن الأميركيين. لقد تفهموا كيفية الانتظار بعض الوقت حتى يكسبوا شخصا ما إلى جانبهم. أما الأميركيون، فلم يعوا ذلك. وإنما اتبعوا سياسة تقوم على إما إطلاق النار أو تقديم الأموال، وإما أن يستعينوا بخدمات شخص ما أو يوسعونه ضربا». ووصف ما جرى بأن الأميركيين استخدموا آلة لثقب الصخور في صنع ألماسة. كي نكون منصفين، لا ينطبق هذا الوصف على لوبيز، الكولونيل العامل في رمادي. بدأت فترة عمل لوبيز في العراق عام 2003، في كربلاء، ومن المقرر أن ينهي مهمته الأخيرة، التي تتركز في أحد معاقل السنة بالعراق هذه المرة، هذا الشهر. وقد أبدى رفضه فكرة أن الحلفاء تخلوا عن أصدقائهم أو أبدوا بأي صورة عدم احترام تجاههم. يذكر أنه في اليوم التالي لتوليه القيادة، أصدر لوبيز أوامره بإنشاء ديوانية، أشبه بقاعة استقبال توجد حتما في أي منازل الشيوخ المحليين. وبعد 48 ساعة، تم الانتهاء من العمل في الديوانية بالفعل وزودت بثمانية بسط فارسية والكثير من الأثاث، بل وزهور بلاستيكية في الزوايا. وعلى الجدار، علقت ساعة تحمل أسماء الله الحسنى باللغة العربية. ووصف لوبيز الديوانية بالتأكيد أنه حرص على مراعاة «جميع التفاصيل الدقيقة والحساسيات الثقافية كافة». وتعمد قوات مشاة البحرية العاملة تحت إمرته إلى تدريب من يخلفونهم من قوات الجيش على آداب تقديم القهوة التركية لضيوف الديوانية، وضرورة تقديم أقداح الشاي المحلاة بشدة بمجرد جلوس الشيوخ في ديوانية لوبيز. إلا أنه حتى الجهود التي بذلها لوبيز ليس بمقدورها إعادة صياغة الأوضاع الأساسية في عراق ما بعد الحرب، حيث اعترف بأن الانسحاب في حد ذاته يعني أن مستوى التعاون سيتراجع بين الضباط الأميركيين وبعض الشيوخ الذين انضموا إليهم في قتال المتمردين، معارك يجري النظر إليها على نطاق واسع باعتبارها أحد النقاط المحورية في التجربة الأميركية بالعراق. وأضاف أن المؤسسة العسكرية عززت قدراتها على استهداف الشيوخ الذين ترغب في التقرب إليهم، الذين يبلغ عددهم نحو 20 شيخا تعتبرهم واشنطن الشيوخ الأهم هنا. وقال لوبيز: «أعتقد أن هذا أحد الدروس المؤسساتية التي تعلمناها». وأوضح لوبيز أن الهدف من الإجراءات التي وصفها بأنها تقليص مسؤول لأعداد القوات يتمثل في «استعادة الحياة الطبيعية». وأكد لوبيز أثناء جلوسه بمكتبه في «رمادي كامب» أنه: «من غير العادي ضخ وجود قوات التحالف في النظام الثقافي العراقي ونظام الشيوخ. من دون إخراجنا لأنفسنا من هذه المعادلة، لن تعود الحياة إلى طبيعتها». وتمكنت المؤسسة العسكرية الأميركية ـ مثلما كان الحال مع البريطانيين من قبل ـ من إعادة رسم المشهد العام لمحافظة الأنبار على نحو يتعذر تبديله. على سبيل المثال، يتحرك أحد حلفاء واشنطن، أحمد أبو ريشة، الذي لم تكن عشيرته تحظى بشهرة كبيرة قبل الاحتلال، في طريقه نحو التحول إلى الشخصية الأقوى على مستوى الأنبار. علاوة على ذلك، تمكن حلفاء آخرون من حصد ثروات هائلة. إلا أن آخرين يعتبرون أنفسهم أمواتا يمشون على الأرض، نظرا لاجتذابهم عددا ضئيلا للغاية من الأصدقاء خلال فترة تسلط الأضواء الأميركية عليهم. من ناحيته، قال عفان العيسوي، قائد إحدى الميليشيات المتحالفة مع واشنطن بالقرب من الفلوجة والذي وصفه لوبيز بأنه «صديق عزيز لدي»: «لقد فعلوا الأمر ذاته في فيتنام. أنا أعرف تاريخهم. في ليلة واحدة فحسب، رحلوا. وتركوا وراءهم جميع عملائهم وأصدقائهم. كنت أعلم أنهم سيرحلون ذات يوم». يذكر أن العيسوي يزين فيلته بصور له برفقة الرئيس السابق جورج دبليو بوش وعدد من القادة العسكريين الأميركيين السابقين والرئيس أوباما. واعترف بالمساعدات التي قدمتها القوات الأميركية له في قتاله ضد المتمردين، وتضمنت بنادق وأسلحة آلية ثقيلة وذخائر صادرتها من «الأشرار»، علاوة على عقود بقيمة 1.5 مليون دولار لبناء مدارس ومحطة مياه. وتباهى العيسوي، الذي يرتدي في معصمه ساعة «رولكس» مرصعة بالألماس قيمتها 25.000 دولار، بتمكنه من الحصول لنفسه على 300.000 دولار من وراء عقد لبناء مدرسة بقيمة 450.000 دولار. في الواقع، ربما يأتي العيسوي على رأس الشخصيات البارزة بالمنطقة، فهو حليف لأبو ريشة، الذي يتوقع البعض أنه ربما يصبح الرئيس القادم للعراق بعد الانتخابات القادمة. يشغل العيسوي مقعدا في المجلس الإقليمي، ما يكفل له التمتع بحماية الشرطة. وقال العيسوي، الذي سيبلغ 35 عاما في نوفمبر (تشرين الثاني): «لم أبن حياتي اعتمادا على أجر أميركي. لقد أدركت أنهم سيرحلون ذات يوم، بل وسيرحلون سريعا». وجدير بالذكر أن جاسم السويداوي، حليف آخر لواشنطن، بلغت فاتورة هاتف أمدته به واشنطن لاستخدامه في الاتصال بالمؤسسة العسكرية 30.000 دولار في أحد الشهور. تم تعويضه عن هذا المبلغ. من ناحية أخرى، يتباهى حميد الهايس بإصبع أيمن مبتور جزئيا وجرحين أصيب بهما في ساقه اليمنى خلال قتال خاضه ضد المتمردين عام 2007. وقد التقى هؤلاء الشيوخ أوباما عندما كان مرشحا رئاسيا. وقال بعضهم إنهم توقعوا نيل المواطنة الأميركية. وخوفا على حياتهم في خضم اتهامات الخيانة التي تحاصرهم، أمل آخرون في تلقي مساعدة في العثور على محل إقامة في الأردن أو سورية المجاورتين. ومن الواضح أن آخرين يتحركون بدافع المال فحسب، الذي توافر أمامهم بغزارة في فترة من الفترات، ويرغبون في استمرار تدفق الأموال على المحافظة، التي تعاني أكثر من أي منطقة أخرى في العراق من تفشي الفساد والسرقة. وقال الهايس أثناء جلوسه في ديوانيته التي يحمل أحد جدرانها لوحة مهداة من المؤسسة العسكرية الأميركية منقوشا عليها عبارة «حلفاء في المعركة، أصدقاء في السلام»: «لم يتفهم الأميركيون قط المجتمع العراقي. كل ما فعلوه هو تدوين في مفكراتهم ما يفترض منهم تعلمه». ويهزأ صباح والشيوخ الآخرون المتحالفون مع الولايات المتحدة بمرارة من الاتهامات الموجهة إليهم بكونهم جواسيس ودمى في يد الأميركيين. ويطلق البعض عليهم «شيوخ الدولمة»، الطعام الذي يعدونه في الولائم المقامة على شرف ضباط أميركيين. ويواجه البعض الشيوخ بالقول إنكم خدمتم الأميركيين، لكنهم لم يخدموكم قط. في إطار مقابلة أجريت معه، قال لوبيز إنه على ثقة من أن الولايات المتحدة ستفخر بأصدقائها في الأنبار لخمس سنوات قادمة. أما صباح فأبدى تشككه في الأمر، قائلا: «ربما يضطرون إلى العودة يوما ما، ولن يبقى أصدقاؤهم هنا. من سيقف إلى جانبهم مجددا بعد ذلك؟ لن يقبل أحد الوقوف إلى صفهم».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»