اغتيال أبو ماضي في عين الرمانة يثير تساؤلات عمن يبحث عن شرارة بشرية لحرب أهلية جديدة

زفافه كان مقررا بعد 20 يوما وذووه رفضوا مرور موكب الجنازة في المحلة تفاديا لأي حساسية

TT

في محيط منزل الشاب اللبناني جورج أبو ماضي (31 سنة) في محلة صنين في منطقة عين الرمانة، لا شيء يوحي بأن موتا خطفه قبل ساعات بطعنة سكين لا يزال صاحبها مجهولا، سوى أوراق النعي التي علقت على الجدران والأعمدة وإلى جانبها صوره التي ذيلت بعبارة «يا عريس.. يا شيخ الشباب». فلا بكاء ولا عويل، بل هدوء مريب وسواد كسا أوجه من صودف مروره في المكان.

فذوو جورج، إيلي والده وكلير والدته وجوسلين شقيقته الوحيدة، شاءوا أن ينقلوه مباشرة من أحد مستشفيات المنطقة إلى مسقط رأسه في قرية الفريديس الشوفية، من دون أن تمرر الجثة قرب المنزل كما يتم في العادة لنثر الأرز وإطلاق الزغاريد، وذلك تفاديا لأي حساسية يمكن أن تحصل في ظل أجواء مشحونة وقلوب مسيجة بـ«خطوط تماس» و«جدران فصل» يبدو من الصعب هدمها وإزالتها، كما بدا في جولة ميدانية قامت بها أمس «الشرق الأوسط» في أحياء المنطقة التي انطلقت منها شرارة حرب عام 1975 وشهدت ليل أول من أمس فصلا جديدا من فصول التوتر الطائفي.

فلدى الدخول إلى حي «مار مارون» قرب منزل أبو ماضي، يقف شاب يافع وعيناه دامعتان يتأبط عمودا ويصر أسنانه: «لن نسمح لمتوالي (شيعي) بالمرور من هنا بعد الآن». ويضيف من دون أن يشيح بنظره: «لقد قتلوا جورج، واثنان من رفاقي وضعهما حرج في المستشفى».

يكتفي آخر بالقول إنه سيشارك في اعتصام عند الرابعة من بعد ظهر أمس لإضاءة الشموع للصلاة من أجل أبو ماضي الذي «كان سينتقل للإقامة في منطقة أخرى بعد عشرين يوما على التمام، وهو موعد زفافه». ويسأل بغصة: «من كان يخال أنه سيزف بهذه الطريقة؟ الموت بات رخيصا في زمننا. اليوم يستثمره بضعة سياسيين وغدا ينسونه».

لدى التوجه إلى عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية المتاخمة لمنطقة الشياح ذات الغالبية المسلمة، كثير من العلامات والشواهد تشير إلى أنها كانت ولا تزال تعتبر خط تماس رئيسيا. وواضح، في جولة متقطعة بين الصباح الباكر وحتى ساعات ما بعد الظهر، أن «سكون» النهار ليس إلا من ذيول «عاصفة الليل». فالمحال أوصدت أبوابها حدادا والتزاما لقرار لجنة تجار عين الرمانة، والطرق شبه خالية، وندر أن صودف مرور الأهالي في الشوارع التي تزدحم عادة بالمارة.

فمساء الثلاثاء، كل شيء كان طبيعيا. لا شيء كان يوحي بأن اضطرابات أمنية ستحصل في محلة صنين. وحين اقتربت عقارب الساعة من الحادية عشرة، استفاقت نوال التي تقطن في المحلة مذعورة لسماعها صفارات الإسعاف وصراخ الناس وزحمتهم وتدافعهم، هرولت إلى الشرفة لتسأل عن «الحكاية»، فأتاها «النبأ»: «المشكلة تفاقمت وهناك قتيل». ومع تقدم الليل ووصول الخبر إلى وسائل الإعلام «تأكدنا أن خمسة شبان نقلوا إلى مستشفيين قريبين».

تسأل الجميع عما حصل، وكالعادة تأتي الروايات متباينة ومستنسخة مع تعديل في التفاصيل، لكن نقاط التقاطع تؤكد أن حادث الثلاثاء «ليس عابرا» بل كان «مخططا له» و«مدروسا»، هذا ما يقوله الأهالي رافعين صراخهم إلى قائد الجيش العماد جان قهوجي وقيادة الجيش ليناشدوهما «استحداث مراكز ثابتة للجيش في المكان». وعن إحدى الشرفات الملاصقة لمنزل أبو ماضي، تصرخ سيدة: «أيجب انتظار وقوع قتلى وجرحى حتى يقيم الجيش نقاطا ثابتة؟ من يحمينا؟». ويسأل جاك وهو صاحب أحد المحال: «فليقرروا من يريدون أن يحمي المنطقة ويدافع عنها. إذا أراد الجيش القيام بهذه المهمة، فليقم بواجباته. وإذا لم يشأ فليتولاها شبابنا. إنما نريد أن ننام مطمئنين إلى أن أحدا لن يهاجمنا بسكاكين». وفي حي آخر، يرتجف رجل بعصبية وينفخ سيجارته وكسائر الأهالي رفض كشف اسمه: «إنهم الفلسطينيون، أحملهم مسؤولية ما حصل». ويضيف آخر: «هذه المنطقة بركان. مطلوب من قوى الجيش والأجهزة الأمنية أن تعزز انتشارها. أيعقل أنه على مسافة 100 متر كان هناك ثلاثة عسكريين، لم يتحركوا ليساعدوا من يتعرضون للاعتداء رغم صراخ الأهالي؟ تذرعوا بأن لا أوامر لديهم! هذا غير مقبول».

يؤكد هادي أن «وصول الجيش إلى المكان استغرق نصف ساعة، في ما لم يكن يحتاج إلا إلى بضع دقائق للحضور. وحين حضر أخذ يضربنا بدل أن يلقي القبض على الجناة». ويسأل: «لماذا، عند وقوع مشكلة، ينتشر الجيش في جهة واحدة ولا يجرؤ على الانتشار في الشياح؟ أعتقد أن الله هو من يحمينا والجيش كان يحمينا حين كان متمركزا بشكل دائم، لكن فليعلموا (شباب الشياح) أننا لا نهابهم ولا نخشى سكاكينهم ولا إيرانهم».

ماذا عن الرواية؟ عدد من شبان المنطقة يقولون إن مجموعة من «شبان الجهة الأخرى» (أي الشياح) أتوا إلى حيث كان عدد من شبابنا (عين الرمانة) يأكلون في أحد مطاعم المنطقة، وقع تلاسن وشجار لكنه انتهى. وبعد ساعات، حضرت تسع دراجات أو عشر ومع أصحابها سكاكين، بدأوا يوجهون الطعنات يمينا ويسارا. وصودف مرور جورج في المكان بعدما ركن سيارته وكان متوجها إلى منزله. وهنا تروي جارة جورج: «لقد نال طعنته الأولى، فرجاهم أن يتوقفوا لأنه لا علاقة له ولا علم له بما يحصل. وركض باتجاه زقاق ترابي فلحقوا به بسكاكينهم المصوبة إلى قلبه حيث طعنوه ثلاث مرات ومرة في أمعائه». وتضيف وعيناها دامعتان: «يا ليتني عرفت أنه هناك، لكنت انتشلته. كم كان شابا طيبا ومحترما، لا يفتعل المشكلات ولا يشارك فيها. كان موظفا في أحد المصارف وطيب السمعة».

وبمرارة تتابع: «ما كل هذا الحقد علينا نحن المسيحيين؟ لماذا يشتمون مقدساتنا مرارا ويرمون بزجاجات الخمر قرب مزاراتنا؟ أيعقل أنهم بعدما قتلوا جورج وطعنوا عددا من الشباب، تجمهروا في الجهة المقابلة وأطلقوا الهتافات والألعاب النارية ورقصوا وهللوا؟ لقد رأيتهم بعيني!».

في الزقاق، نثر تراب فوق بقعة دماء. هنا نزف جورج.. حتى الموت.