جنود أميركيون ينشطون لمساعدة مترجمين عراقيين في الوصول إلى الولايات المتحدة

يقودون حملات لمنحهم تأشيرات دخول خوفا عليهم من مصير مجهول

TT

أثناء الحرب، توطدت عرى الصداقة بين الجندي الأميركي الشاب ومترجمه العراقي، وهو شاب هادئ كان باستطاعته استشعار الأخطار وراء الظلال وتهدئة الأعصاب المتوترة في الشوارع. وبحسب تقرير لوكالة الأسوشييتد برس فإنه عندما حان وقت العودة إلى الوطن، حرص جوي كون، الذي عمل آنذاك برتبة سيرجنت في قوات الحرس الوطني التابعة للجيش، على إنشاء حساب في البريد الالكتروني لصديقه المترجم العراقي، بندر حسان. وأعطى صديقه دروسا سريعة حول كيفية استخدامه كي يبقيا على التواصل بينهما. لم يتوقع جوي الكثير من وراء ذلك، بالنظر إلى جهل بندر بأجهزة الحاسب الآلي. لكن جوي أجرى اتصالات هاتفية ببندر من وقت لآخر، واعتادا المزاح حول إمكانية إقدام الأخير على زيارة الولايات المتحدة في يوم من الأيام، فكرة بدت حينها بعيدة المنال. بيد أن هذا الوضع برمته تبدل عندما اتصل بندر بجوي صباح أحد الأيام، وبدا صوته متوترا ومتعجلا. ونقل رسالة مفادها أنه لم يعمل مترجما، وأصبح متخفيا الآن ويخشى على حياته. وصف جوي المكالمة بقوله: «كان خائفا وقلقا للغاية وكان لديه اعتقاد بأنه يواجه خطرا محدقا. لم تكن المكالمة كسابقاتها التي سادها المرح، وكنت أمازحه خلالهما متسائلا: ألن يكون من الممتع قدومك إلى الولايات المتحدة يا صديقي وكان يمازحني قائلا: جوي، إنني بحاجة للخروج من هنا!». كان جوي مدركا لأن بندر خاطر بحياته من أجله ومن أجل الجنود الأميركيين الآخرين. والآن، بات عاقدا العزم على فعل ما بوسعه لإنقاذ صديقه العراقي. من بين آلاف العراقيين الذين عملوا مع الأميركيين أثناء الحرب، ربما كان المترجمون المجموعة التي جابهت الخطر الأكبر، حيث جرى التنديد بهم كجواسيس وخونة. وتعرض بعضهم للقتل، بينما عانى آخرون من التعذيب أو التهديد. رغم تمرير قانون عام 2007 زاد من سهولة سفر المترجمين إلى الولايات المتحدة، راود بعض الأميركيين ـ غالبيتهم من الجنود ـ الشعور بأنه لا يزال في استطاعتهم تقديم المزيد. وبالفعل، عمدوا إلى جمع الأموال والاستعانة بمحامين لصالح المترجمين، بل رحبوا بالعراقيين كضيوف مؤقتين في منازلهم. في هذا السياق، قال جيسون فالر، كابتن بقوات الحرس الوطني أنشأ مؤسسة لمساعدة المترجمين العراقيين، بعدما نجح في نقل ثلاثة مترجمين ممن تعاونوا معه إلى الولايات المتحدة: «ربما كان الأمر أشبه بعقدة الذنب التي تراود الناجين من الكوارث. لقد ساورني القلق من أن أصدقاء أعزاء لدي ربما لا يبقون على قيد الحياة. لقد قدموا تضحيات جساما... وأردت تقديم بعض العون لهم». ووصل جوي كون العراق في يناير (كانون الثاني) 2005 في قاعدة بمدينة بلد، على بعد قرابة 40 ميلا (64 كيلو مترا) إلى الشمال من بغداد. عند منتصف رحلته تقريبا، التقى بندر حسن. كان بندر قد أنهى لتوه دراسته بالمدرسة الثانوية، حيث درس اللغة الإنجليزية. وكانت والدته الأرملة ـ حيث توفي والده قبل أن يرى بندر النور ـ رافضة عمله مترجما، بسبب ما يحمله ذلك من أخطار بالغة.

مثلما الحال مع الكثير من المترجمين الآخرين، عمد بندر إلى إخفاء هويته، من خلال الحرص على ارتداء نظارات شمسية وارتداء كوفية تغطي وجهه أسفل العينين. واختار لنفسه اسما شفريا، داش. وفي بعض الأحيان، كان يتحدث بلكنة لبنانية. انضم بندر إلى الأميركيين أثناء قيامهم بدوريات وغارات، وركب معهم مركبات «همفي» وتناول الطعام معهم. تميز بندر بقوام رشيق وحمل وجهه شاربا مشذبا وابتسامة ودودة، علاوة على حبه للضحك والمرح، لكنه كان مدركا للحظات التي تستدعي الجدية أيضا. قال جوي عنه: «كانت لديه القدرة على إضفاء قدر من الهدوء على جميع المواقف وكان يتوقف ليشرح لنا ما يجري وإخطار السكان المحليين بما يدور حولهم... كان شخصا يمكنك الوثوق به في المواقف التي تكون في أمس الحاجة خلالها إلى من تثق بهم». إلا أن الارتباط بالأميركيين كان مميتا ـ مثلما أدرك الصديقان. بعد رحيل جوي، بدأ بندر في العمل بمستشفى تتبع القاعدة العسكرية، وهي مكان أدنى خطورة. الواضح أن مشاحنة اندلعت بينه وبين عراقي آخر ـ تفاصيل الأمر غير واضحة بعد ـ وفجأة وجد نفسه بلا عمل ولا حماية. في ربيع 2007، أجرى اتصالا هاتفيا بجوي. وبدوره، اتصل جوي بوالده، جيم، الذي يعمل وكيل عقارات. ويذكر جيم أن صوت ولده خلال المكالمة بدا مفعما بالعاطفة، وقال له: «أبي، لا بد أن أخرجه من هناك». ولم يكن جيم كون بحاجة لمن يقنعه بضرورة العمل على تحقيق ذلك. في الوقت الذي كان نجله لا يزال في العراق، نظم كون الأب حملة في أوساط الأصدقاء والأقارب، وتمكن من جمع 2.000 زوج من الأحذية، بجانب ملابس وألعاب أطفال. وشحن ما جمعه إلى جوي، الذي سلمهم بدوره إلى قرى ومدارس. بيد أن هذا الأمر كان مختلفا في العديد من جوانبه، ذلك أنه على خلاف أغلبية العراقيين الذين يعتمدون على وكالات للمساعدة في إعادة الاستيطان أو أقارب لهم من أجل الوصول إلى الولايات المتحدة، اعتمد بندر على جوي وبرنامج خاص معد لمساعدة المترجمين. لم يكن الأمر باليسير، حيث اضطر جوي إلى شق طريقه عبر كثير من الوثائق، في محاولة لتفهم قوانين الهجرة المعقدة والحصول على خطاب من أحد الجنرالات لاستصدار تأشيرة دخول خاصة لبندر. إلى جانب ذلك، أرسل جوي لبندر ببعض المال بحيث يتمكن مؤقتا من الانتقال إلى كردستان. لكن بندر لم يكن أمامه عمل هناك. لذا في غضون فترة قصيرة، توجه إلى بغداد، حيث اختفى. تجلت مشاعر الإحباط والوحدة التي سيطرت عليه في رسالة بريد الكتروني بعث بها في فبراير (شباط) 2008، حيث قال: «جوي... ليس لدي مكان في وطني. ولا يمكنني الاستمرار على هذا الوضع... إنني محروم من حريتي الآن، وليس بمقدوري التنقل... آمل أن تتمكن من فعل شيء حيال ذلك... لا تنسني فأنا أخوك». تحولت مهمة إنقاذ بندر إلى مشروع جماعي، حيث شرعت تيريزا ستاتلر، المحامية المعنية بقضايا الهجرة في بورتلاند، والتي ساعدت بالفعل اثنين من المترجمين العراقيين على الانتقال إلى الولايات المتحدة، في العمل على مساعدة بندر. إلا أن الوصول إليه لم يكن دوما سهلا، علاوة على أنه كان مترددا إزاء فتح وثائق أميركية داخل مقهى الانترنت الذي كان يرتاده في بغداد لقراءة رسائل البريد الالكتروني الخاصة به. من ناحية أخرى، أجرى جيسون فالر، كابتن بقوات حرس أوريغون الوطني، والذي أنشأ مؤسسة «ذي تشيك بوينت وان فاونديشن» بهدف مساعدة المترجمين العراقيين، اتصالا بجنرال سبقت له الخدمة في أفغانستان من أجل الحصول على خطاب توصية بإصدار الفيزا المطلوبة. في ربيع 2008، التقى فالر، الذي كان موجودا في واشنطن في رحلة عمل، جوي، الذي انتقل إلى العاصمة للعمل مديرا لبرامج الطلاب بـ«معهد كاتو»، وهو منظمة فكرية تدعم فكر حرية الإرادة. وقدم فالر إلى جوي بعض النصيحة. وعن ذلك قال فالر: «قلت له «جوي، الأمر لن ينتهي بقدوم صديقك المترجم إلى الولايات المتحدة. في الواقع، إنها ستبدأ من تلك اللحظة». في صيف ذلك العام، عقد جوي وأسرته حفل شواء لجمع تبرعات. وعرض جوي شريطا مصورا لبندر أثناء عمله وهو يناشد مساعدته، بينما حملت وجهه ابتسامة. وأوضح جوي أنه عندما انتهى الشريط، «لم تكن هناك عين خالية من الدموع في المنزل بأكمله، بما في ذلك أنا». أما خبر الإعلان عن صدور فيزا لصالح بندر فقد تم الإعلان عنه في رسالة بريد الكتروني في مارس (آذار)، حيث كتب جوي: «بندر يا أخي!!!... أنا سعيد للغاية من أجلك». وأجاب بندر: «لقد بكيت لدى رؤيتي الرسالة»، وشكر جوي وذكره بأنه «لا تزال شقيقي الكبير». يذكر أن بندر يبلغ حاليا من العمر 24 عاما، بينما جوي في الـ28. بعد أيام قلائل، ودع بندر والدته بدموع غزيرة. وأشار إلى أنه أخبرها: «هذا هو مستقبلي، إنها حياتي. أود العيش آمنا». وبالفعل، استقل بندر الطائرة للمرة الأولى في حياته وشاهد بحسرة بغداد وهي تتلاشى وراءه. وقال: «ليست لدي ذكريات جيدة عن العراق. لقد ساورني الخوف دوما، وتعرضت دائما لمواقف سيئة». وكان في استقبال بندر في المطار في واشنطن العشرات من أصدقاء جوي، بينهم صديقته بروك أوبرويتر. في اليوم التالي، زاروا مركز واشنطن التجاري وتنزهوا ببعض الأماكن السياحية، بينما حرص بندر على التقاط الصور. وبرر ذلك بقوله: «في يوم من الأيام، سأريها لأطفالي». ومثلما سبق التوقع، لم تكن تلك نهاية الجزء الأصعب من فصول القصة. ووصف جوي صديقه العراقي بقوله: «إن لديه شعورا قويا بعزة النفس، ولا يريد أن يكون عبئا على أحد». لم يكن بندر قد فر من أهوال الحرب، حيث علم في بداية وجوده في الولايات المتحدة أن صديقا عراقيا له يعمل مقاولا كان قد استأمنه بندر على الاهتمام بأمر والدته قد قتل. ثم نما إليه خبر مقتل صبي عراقي كان صديقا له. وقال جوي إنه كانت تأتي بعض الأيام يجلس فيها بندر محدقا في الفراغ بينما تنساب الدموع من عينيه. إلا أن هذه اللحظات لم تقض على فرح بندر، الذي أكد أنه «أصبحت ملكا على حياتي الآن. يمكنني السير بأي مكان. ويمكنني العودة إلى المنزل في الثالثة والنصف فجرا. أشعر أنني حر. هذا أمر بالغ الأهمية لي».