في قبضة طالبان (الحلقة 4) : هجمات الطائرات من دون طيار مصدر رعب في الشريط القبلي

من إيصال متجر محلي أكد أننا في منطقة ماكين معقل زعيم بيت الله محسود * الأشرطة الأكثر شعبية عند الحراس كانت تسجل الأيام الأخيرة للانتحاريين

مراسل نيويورك تايمز، دافيد رود، خلال زيارته لمواقع في هلمند بجنوب أفغانستان عام 2007 (خدمة: «نيويورك تايمز»)
TT

اهتزت حيطان المجمع الذي تحتجزنا فيه حركة طالبان إثر وقوع انفجارين ضخمين صما الآذان، وسقطت مع حراسي على الأرض عندما تدافعت الأتربة إلى الداخل من خلال النافذة. وصرخ أحد الحراس: «داوود؟»، ناطقا اسمي باللغة العربية. «داوود؟». فأجبت بلغة البشتو: «أنا بخير، أنا بخير». وظهرت فتحات في الغطاء البلاستيكي الذي يغطي النافذة، وانتشر الحطام على الأرضية، وفي مكان ما بالخارج كانت هناك سيدة تنتحب. وكنت أتساءل عما إذا كان طاهر لودن وأسد مانغال، وهما الأفغانيان اللذان اختطفا معي، لا يزالان على قيد الحياة. وأمسك أحد الحراس برشاشه وطلب مني أن اتبعه إلى الخارج. وصرخ فيّ بصوت به غضب شديد: «امض! امض». ووقع أسوأ ما كنا نتخيل، لقد أطلقت طائرة أميركية تعمل من دون طيار صواريخ قوية أزالت هدفها الذي كان يقع على بعد مئات الياردات من منزلنا داخل قرية نائية في منطقة القبائل الباكستانية. وعلى الأرجح قضى في هذا الهجوم العشرات من المواطنين، وسوف يطلب مسلحون رؤوسنا للانتقام. وفي الخارج، انتشرت أوراق الشجر الممزقة داخل ساحة المنزل، ولكن لم يلحق ضرر بالمنزل ولا بسوره الخارجي. وبدا القلق على وجهي طاهر وأسد. لم يصب أحد، ولكني كنت أعلم أنه ربما لا يعيش ثلاثتنا لوقت طويل. لقد كان ذلك في الخامس والعشرين من مارس (آذار)، وظلت الطائرات التي تعمل من دون طيار مصدر رعب لنا. وكان يمكن سماع الطائرات التي يتم توجيهها عن بعد بسهولة وهي تحلق فوق رؤوسنا. وبالعين المجردة، كانت تبدو هذه الطائرات وكأنها نقاط صغيرة في السماء، ولكن يصل مدى الصواريخ التي تطلقها إلى عدة أميال. وكنا نعلم أنه يمكن القضاء علينا من دون تحذير مسبق. وكان الحراس يعتقدون بأن هذه الطائرات تستهدفني، وقالوا إن مسؤولين أميركيين يريدون أن يقتلونني لأن قتلي سوف يقضي على الميزة والمصداقية التي يعتقدون بأن سجينا أميركيا أعطاها للحقانيين، وهو الفصيل الطالباني الذي يحتجزنا. وعندما كانت تظهر أي طائرة تعمل من دون طيار، كانت توجه لي أوامر بالبقاء في داخل المنزل، فقد كان الحراس يعتقدون بأن كاميرات الاستطلاع يمكنها التعرف على وجهي من على بعد الآلاف من الأقدام. وداخل الفناء بعد هجوم الصاروخين، قبض الحراس بإحكام على أسلحتهم، وكانوا يراقبون السماء بقلق. ولأنهم كانوا يخشون من وقوع هجوم مباشر على منزلنا، طلبوا مني أن أغطي وجهي بوشاح وأن أتبعهم خارج المجمع. وكنت أعرف أن مسلحين عربا يملؤهم الغضب أو رجالا قبليين محليين يمكن أن يلاحظوني بمجرد أن أمشي في الخارج، ولكن لم يكن هناك خيار أمامي. ودفعوا بي إلى أسفل جانب تل كانت تركن فيه سيارة بين صفين من الأشجار، وفتحوا الباب الخلفي وطلبوا مني أن أرقد في الداخل وأن أبقي الوشاح على وجهي حتى لا يتعرف المارون على وجهي. ورقدت في السيارة من الخلف وكنت أردد بعض الأدعية، ومن بعيد كنت أسمع الرجال يصرخون وهو يجمعون الموتى. وكنا متأكدين أنه سوف يتم القضاء علينا لو كان هناك الكثير من القتلى ولاسيما من الأطفال والنساء. وكنت لمدة أشهر أقول لنفسي بأنه لو تم تصويرنا ونحن نُقتل سوف أحافظ على هدوئي من أجل عائلتي وأصر على براءتنا حتى النهاية. وبعد مرور نحو 15 دقيقة، عاد الحراس إلى السيارة وأخذوني مرة أخرى إلى المنزل. وكانت الصواريخ قد ضربت سيارتين وتسببت في مقتل سبعة مسلحين عرب ومقاتلين محليين من حركة طالبان. وشعرت بالراحة لأنه لم يقتل أي مدني، ولكنّي كنت أعلم أننا في خطر كبير. قبل أسبوعين، نقلنا الآسرون من ميرام شاه، عاصمة شمال وزيرستان، إلى مدينة نائية في جنوب وزيرستان. وعلمتُ من إيصال متجر محلي أننا كنا في منطقة ماكين، معقل زعيم طالبان باكستان بيت الله محسود. ويوجد في المنطقة مقاتلون من الأوزبك والعرب والأفغان والباكستانيين. وعلى مدار الساعتين اللتين تليا، كنت أبذل وسعي من أجل استرضاء الحراس، ولم أتجول في الساحة، ولم أتحدث إلا إذا وجه إلي كلام. وشكرت الرب أن حفظنا. وبعد ذلك علمتُ أن أحد الحراس عرض أخذي إلى موقع الهجوم وقطع رأسي وتصوير ذلك باستخدام كاميرا فيديو، ولكن رفض رئيس الحرس ذلك. وانتقدت حركة طالبان الهجمات التي تقوم بها الطائرات من دون طيار، وأعرب الآسرون عن كراهيتهم للرئيس باراك أوباما أكثر من الرئيس بوش. وانتقدوا إدارة أوباما لأنها زادت من الهجمات الصاروخية في منطقة القبائل الباكستانية ومن عدد القوات الأميركية داخل أفغانستان. وبدا أمامي أن هناك أزمة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، فالطائرات التي تعمل من دون طيار قتلت عددا كبيرا من القادة البارزين وأعاقت عملياتهم، ومع ذلك كانت حركة طالبان قادرة على جذب متطوعين بالمبالغة في القتلى والإصابات التي تقع بين المدنيين. لقد خلقت الضربات حالة من الرعب بين صفوف حركة طالبان، وكانوا يعتقدون بأن شبكة من المخبرين المحليين يوجهون الصواريخ. وكان يتم الهجوم على مدنيين لا ذنب لهم واتهامهم بالعمل كجواسيس لأميركا ويتم إعدامهم بعد ذلك. وبعد عدة أيام من الهجوم الذي وقع بالقرب من منزلنا في منقطة ماكين، سمعنا أن المسلحين الأجانب ألقوا القبض على رجل من السكان المحليين اعترف بأنه جاسوس وبعد انتزعوا أحشاءه وقطعوا رجله، وبعد ذلك ضربوا عنقه وعلق جسده في متجر محلي كتحذير.

وكان المنزل الذي أقمنا فيه داخل منطقة ماكين هو أسوأ منزل نقيم فيه داخل باكستان، فقد كان يقع على أعلى تل ولم تكن به مياه وانتشرت فيه البراغيث وكان فناؤه به الكثير من القمامة. وكان الطقس في ماكين أشد برودة من ميرام شاه، وتسببت الأمطار التي تسقط من حين لآخر ودرجات الحرارة القاسية في أوضاع مزرية، وكانت العواصف منتشرة وينظر إليها آسرونا على أنها عقاب من الرب. وكان الحراس يكلفونني ببعض الأعمال اليومية الروتينية تشغل نصف يومي، وكانت تهدف هذه المهام للحط من قدري حيث انه طبقا لثقافة البشتو يحظى الكبار بالتبجيل ولكني لم أكن أعبأ لذلك. وساعدتني الأعمال اليومية على قضاء اليوم، وبدا أنها تعطي للحرس إحساسا بأني مخلص لهم. وكنت أقوم بملء برميل في الحمام بالمياه مرتين في اليوم، وكنا نستخدمها لغسل المرحاض، وكنت أقوم بكنس الأرضيات عندما تتسخ. ونادرا ما كان يسمح لي بالخروج من المنزل، ووجدت أن عالمي يقتصر على عدد قليل من الأقدام المربعة، وكان تركيزي يوميا هو البقاء. وكان طاهر يعاني هو الآخر، وقال لي في بعض الأحيان انه لم يعد يتذكر ملامح أولاده السبعة. وقال: «هذه ليست حياة. أريد أن أموت».

ومع كل شهر يمر، كنا نشعر أننا طوانا النسيان وأصبحنا نعيش تحت رحمة الحراس الشباب الذين يعيشون معنا. وكان رئيس الحراس هو الأخ الأصغر لأبي الطيب، القائد الطالباني الذي خطفني مع طاهر وأسد في نوفمبر (تشرين الثاني) بعد أن دعانا لإجراء مقابلة معه خارج كابل بأفغانستان.

وأخذ هذا الرجل يسرق بعضا من المال الذي يصله لشراء طعام وحاجيات لنا، وشجعنا على محاولة الهرب حتى يستطيع أن ينهي أسرنا «برصاصة». وكان يشتكي من أن المجاهدين يموتون بسبب هجمات الطائرات التي تعمل من دون طيار، ومع ذلك هناك اهتمام كبير بسجين أميركي. وعندما أريته العشرات من لدغات البراغيث التي تظهر على بطني وذراعي، اشترى مبيدا حشريا واقترح عليّ أن أضعه في كيس النوم الخاص بي، ولكنّي رفضت خشية أن يصيبني بمرض. وعندما استمرت اللدغات، أريت ذلك لحارس آخر، وكان رده أن أراني بطنه التي لم يكن عليها أي لدغات. وقال: «لا أمرض أبدا عندما أكون في جهاد».

وبسبب الكثير من الكلام بيني وبين طاهر، اتهمنا الحراس بالتخطيط للهرب، ولذا أصبحنا نتحدث أقل. وفي بعض الأيام كنا نتمشى في الخارج لدقائق قليلة. وأصبحت تائها في أفكاري وبدأ يتلاشى ما أتذكره عن العالم. وكي أبقى على اتصال بالعالم الخارجي، كنت أسمع برامج إذاعية على الموجة القصيرة لهيئة الإذاعة البريطانية لساعات في بعض الأحيان. وكانت البرامج ترفع من روحي المعنوية، ولكنها أعطتني إحساسا بأنّي في غيبوبة. كنت أسمع كيف أن العالم يتقدم ولكن لم يكن في استطاعتي التواصل معه. وكانت هناك مشاكل في نقاء صور الفيديو، ولكنّي تعرفت على وجه الرهينة على الفور. «مرحبا يا بيتر،» قالها شخص لم يظهر أمام الكاميرا. «كيف حالك» «بخير»، هكذا أجاب بيوتر ستانزك، وهو عالم بيئة بولندي يبلغ من العمر 42 عاما اختطفته حركة طالبان في سبتمبر (أيلول) 2008. وكان يقف إلى جانبيه مسلحان اثنان ملثمان يمسكان برشاشات. وكان هناك ملاءة سوداء عليها شعارات جهادية على حائط من الطمي والقرميد خلفه. وفي منتصف مارس (آذار) وصل أحد الحراس ومعه مشغل «دي في دي». وبعد ذلك، أصبحت مشاهدة شرائط جهادية مصورة هي أفضل ما يقضي فيه الحراس أوقاتهم. ودعا ستانزك في الشريط المصور الحكومة البولندية إلى وقف إرسال القوات للدول الإسلامية وقطع علاقاتها مع الحكومة الباكستانية. لم أقابل ستانزك يوما ولكن قرأت عن معاناته في الصحف الباكستانية. وعندما أدركت أن الشريط المصور سوف ينتهي بقطع رأسه وقفت كي أغادر. لم أكن أريد أن أشاهده، أو أن أعطي الحراس شعورا بالرضا بأن أراه. سمعت ستانزك يقول وأنا أترك الغرفة: «أريد أن أقول إن شعب باكستان رائعون جدا، شعب رائع جدا».

وقامت حركة طالبان بإعدام الأشخاص المحليين الذين قيل إنهم جواسيس لأميركا. وقامت حركة طالبان بزرع قنابل في جوانب الطرق لتفجير شاحنات حكومية أفغانية وسيارات هامر أميركية. وكانت الشرائط الأكثر شعبية هي تلك التي تسجل الأيام الأخيرة لانتحاريين. وبينما كنت أشاهد تلك الأفلام صامتا، كان الحراس يسألونني باستمرار عما كنت أفكر فيه عندما أشاهد الجنود الأميركيين وهم يقتلون على الشاشات أمامي.

وكنت أقول: « كافة أنواع القتل خاطئة». وفي بعض الأحيان كان الحراس يستمرون في مشاهدة شرائط الفيديو تلك لعدة ساعات. وبصفة عامة، كانت تلك الأفلام تخلق بديلا، أو خطابا مواليا لطالبان فيما يتعلق بالحرب في أفغانستان. وكان النمط المتكرر هو أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لا يذكرون الحقيقية فيما يتعلق بعدد القتلى في صفوف القوات الأجنبية في أفغانستان.

ولم تكن الأفلام التي يشاهدونها تقتصر على الصراع في أفغانستان وباكستان فقط؛ بل كانت هناك أفلام للقتلى المدنيين سواء في فلسطين، أو كشمير، أو العراق كي تعطي رسالة مفادها أن عددا كبيرا من المسلمين يتعرضون للذبح في كافة أنحاء العالم.

وبدا العرض المتكرر لصور الموت جزءا من جهود حركة طالبان المثيرة للسخرية في إقناع الجنود الصغار بالتضحية بحياتهم؛ فالموت – كما تفيد رسالة طالبان ـ ليس مصيرا بعيدا، بل إنه رفيق ودود وهدف في ذاته. وكان الحراس لا يعرفون إلا القليل عن العالم الخارجي كما أنهم لم يحصلوا إلا على تعليم محدود. وكانوا يتشاركون في كتاب يمجد العمليات الاستشهادية، ويعد الاستشهاديين بعصائر الفواكه، والطعام الشهي، و70 عذراء في الجنة. وكان أحد الحراس يقرأ الكتاب باستمرار وينطق كل كلمة بصوت عال وكأنه طالب بمدرسة ابتدائية.

وكنت أخشى أن تؤثر تلك الأفلام على سائقي أسد؛ فبعدما انتقلنا إلى ماكين كان قد أصبح أكثر لطفا مع الحراس وبدأ يحمل سلاح الكلاشينكوف الذي كانوا قد أعطوه إياه، كما أنه أقلع عن التدخين بعدما أخبره الحراس أن الإسلام يحرمه، ولكنني كنت أقول لنفسي إنه يفعل ذلك فقط كي يتمكن من البقاء على قيد الحياة.

وفي أواخر أبريل (نيسان)، عززت زيارة مفاجئة قام بها أبو الطيب– القائد الذي كان قد اختطفنا- آمالنا في وجود مفاوضات تجري بخصوص إطلاق سراحنا. جاء أبو الطيب إلى المبنى الذي نجلس فيه وهو يمشى بخطى واسعة مرتديا سترة بيضاء باهظة الثمن وذلك قبل ميعاد وجبة العشاء. ثم قال لي: «داوود، ماذا تقول إذا أخبرتك أنك يمكن أن تعود إلى نيويورك غدا؟».

فقلت: «سوف أصبح في قمة سعادتي».

فطلب مني أن أحضر مفكرة وقلما وطلب من الحاضرين مغادرة الحجرة عدا نائبه، وطاهر وأنا.

وقال: «لقد تأخرت أسرتك للغاية». ثم أضاف: «اكتب ذلك»، وأملى علي: «هذا هو الفيديو الذي يثبت أنني على قيد الحياة. وربما يكون الفيديو القادم سيئا للغاية».

توقف وفكر فيما سيقوله لاحقا؛ ثم قال: «إذا لم تساعد تلك الرسالة. فلا أعرف ما الذي يمكن أن يحدث لي».

وسرعان ما أدركت أن أبا الطيب لم يستطع الحصول على اتفاق كامل. فقد كانت زيارته هي خطوة أخرى ضمن جهوده للحصول على المال من أسرتي. وكان يرفض طوال الخمسة أشهر التي كنت مختطفا فيها أن يقلل من قيمة الفدية التي كانت تبلغ 5 ملايين دولار أميركي بالإضافة إلى مبادلتي بالسجناء. ثم أملى علي بعض السطور الإضافية بهدوء وهو يجلس في مقابلتي: «إذا لم تساعدوني، فسوف أموت. الآن أصبح الحل في أيديكم».

ثم توقف لمدة دقيقة وأردف: «أنقذوني من فضلكم، فأنا أريد أن أعود إلى وطني. ألا تريدون أن أعود إليكم حيا؟ أسرعوا. أسرعوا».

ثم أخبرني أنني يجب أن أبكي أثناء التصوير. فحدقت في طاهر. فإذا رفضت، ربما يقتلونني أو يقتلوا أسدا كي يسرعوا من حصولهم على الفدية. كنت أكره فكرة أن تشاهد زوجتي كريستين وعائلتي مثل ذلك الفيديو ولكن طاهر كان أبا لسبعة أبناء، كما أن أسدا لديه طفلان. فوافقت في النهاية على القيام بذلك. ثم وضع نائب القائد وهو رجل في الخمسينات من عمره وشاحا على وجهه والتقط بندقية آلية عيار 50، وصوب فوهتها على رأسي، ثم أدار أحد الحراس الكاميرا.

خلال التصوير، كنت أتعمد أن أظهر أنني أقرأ من نص معد سلفا، عن طريق النظر إلى الورقة المكتوب فيها النص، وكنت انتحب بشكل متقطع دون أن تدمع عيناي. وبعد محاولة التصوير الأولى، قال أبو الطيب انني لم أبك بما يكفي، وطلب مني أن أعيد قراءة الرسالة مرة أخرى. وأثناء وقوفه خلف الحارس الذي يحمل الكاميرا، كان أبو الطيب يلوح لي بيديه في الهواء طالبا مني أن أرفع صوتي بالبكاء كما لو أنه مخرج فيلم سينمائي.

حاولت أن أبكي بطريقة مبالغ فيها حتى تدرك عائلتي أن ذلك ليس حقيقيا، وبعد ذلك وفي نفس الليلة، أعلن أبو الطيب أن الحكومة الأفغانية وافقت على تحرير 20 سجينا في مقابل الإفراج عنا. ولكن المشكلة كما قال أبو الطيب أن عائلتي لم توافق على دفع الفدية التي كانت تبلغ 5 ملايين دولار أميركي. فقلت له غاضبا: «عائلتي لا تملك خمسة ملايين دولار. لماذا تعتقد بأننا بقينا هنا طوال تلك المدة؟ هل تعتقد بأن لديهم خمسة ملايين دولار ويراوغونك؟ لو كانوا يمتلكون ذلك المبلغ لدفعوه».

ابتسم أبو الطيب وقال لي إنني «شخص مهم»، وأضاف أن أخي كان رئيسا للشركة التي تعمل في تصنيع طائرات «جامبو جيت»، وبالتالي، فإذا استطاع أخي أن يبيع إحدى تلك الطائرات فسوف تحصل عائلتي على مبلغ الفدية. بدا واضحا من كلامه أنه حصل على معلوماته حول عائلتي من خلال شبكة الإنترنت. فقد كان أخي بالفعل رئيسا لشركة لاستشارات الطيران ولكنها شركة صغيرة تتكون من ستة أشخاص فقط ولا تصنع أي شيء.

وقد زعم أبو الطيب أن الحكومة الأميركية قد دفعت 10 ملايين دولار أميركي في مقابل الإفراج عن جون سوليكي، الموظف بالأمم المتحدة والذي كان قد اختطف في فبراير (شباط) الماضي في باكستان. وعلى غرار ما كنت أفعله طوال الشهور الماضية، فقد أخبرته مرة أخرى بأن الحكومة الأميركية لم تدفع الفدية. بعد ذلك قال أبو الطيب متجاهلا ما قلته إن رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي بنيويورك سافر إلى أفغانستان كي يؤمن عملية إطلاق سراحي، مضيفا أنه تعهد بأن يجبر حكومة الولايات المتحدة على دفع الملايين الخمسة.

فقال: «أنت تعرف من أين سوف يأتي هذا المال. وأنا أعرف من أين سيأتي».

فقلت له إنه واهم وإنه يجب أن يقتلني؛ رفض طاهر ترجمة كلماتي وقال: «لا تثر غضبه». ثم قلت لأبي الطيب سوف «نظل هنا للأبد» وذلك إذا لم يقلل من مطالبه.

وأعلن أبو الطيب: «أنت جاسوس. أنت تعرف أنك جاسوس».

فقلت له إنه خاطئ تماما وإنني صحافي ثم حاولت أن أهينه أمام رجاله. فقلت: «الله وحده يعرف الحقيقة والله هو الذي سوف يحاسبنا جميعا».

ثم اختفى أبو الطيب في الصباح التالي. وقضينا الأسابيع الستة التالية في منزل جديد بقرية منعزلة بشمال وزيرستان.

وكنا نتلقى كل أسبوع نتفا من المعلومات حول المفاوضات. أولا، أخبرنا خاطفونا أنه تم التوصل لاتفاق حول سجناء طالبان العشرين الذين سوف يتم الإفراج عنهم في مقابل الإفراج عنا. ثم قالوا إنه لم يتم عرض مبلغ كاف من المال إلى جانب السجناء. وأخيرا أخبرونا أنه تمت الموافقة على الإفراج عن 16 سجينا من العشرين سجينا المقترحين.

وفي أواخر مايو (أيار)، أخذونا إلى ميرام شاه، حيث أخبرونا بوجود صفقة نهائية. وقالوا إن كل ما تبقى هو أن يتفق الجانبان على المكان الذي سوف يتبادلان فيه السجناء. وفي اليوم التالي قالوا إنه لم يكن هناك أي اتفاق. وفي بداية يونيو (حزيران)، عاد أبو الطيب للظهور وقال إن الحكومة الأميركية عرضت مبادلة السجناء الأفغان السبعة الباقين بمعتقل غوانتانامو بكوبا في مقابلنا، وقد قلت معلقا إن ذلك ليس إلا هراء.

ولشهور عديدة، كان أبو الطيب يبالغ إلى حد كبير في أهميتي؛ فقد زعم كذبا أن ريتشارد هولبروك الدبلوماسي الأميركي حرر السجناء الصرب في عام 1995 كي يتمكن من تحريري في البوسنة؛ حيث كان قد تم اعتقالي أثناء إعدادي تقريرا حول جرائم الحرب ضد المسلمين.

وكان يصر على أنني أحد الأصدقاء المقربين لهولبروك، الذي أصبح حاليا المبعوث الخاص لإدارة أوباما في أفغانستان وباكستان. فسألته: «إذن لماذا ما زلت هنا بعد سبعة أشهر؟» فابتسم. ثم قال لي إنه إذا قمت بتصوير فيديو آخر فسوف يطلق سراحي. ولكنني رفضت لأنني كنت أشعر بالخجل من الفيديو السابق كما أنني كنت مقتنعا بأن أبا الطيب كان يكذب علي مرة أخرى.

فقلت بصوت عال: «إن الأمر كله يتعلق بك. أنت تطلب ملايين الدولارات كي تبدو أفضل في نظر القادة الآخرين. أنت جوهر المشكلة». ولكنه أكد أن كل ما يفعله هو من أجل «الجهاد». ثم أخبرني وهو غاضب بأنني يجب أن أصور ذلك الفيديو ثم غادر الغرفة. وبعد ذلك بثلاثين دقيقة، عاد وقال ان تصوير ذلك الفيديو لم يكن أمرا اختياريا بل هو أمر. وكان الحراس الستة في الغرفة يحدقون بي.

ومرة أخرى، كرر أبو الطيب أمره لي وقلت لا، وكنت أعرف أن ذلك تصرف طائش ولكن الوقوف في مواجهته كان يشعرني بالحرية بعد أشهر من الإذعان.

ونظرا لأنهما كانا يستشعران أن أبا الطيب ورجاله سوف يضربونني، طالبني كل من طاهر وأسد أن أوافق على تصوير الفيديو؛ فقال طاهر «افعل ذلك».

في النهاية تراجعت، ولكنني كنت مصمما على أن يتحول ذلك الفيديو إلى فرصة لطمأنة أهلي وليس لإقلاقهم، فرفضت أن تصوب أي أسلحة نحو رأسي، كما رفضت أن أبكي، وتحدثت أمام الكاميرا بهدوء وأكدت أن ثلاثتنا بأفضل حال.وفي نهاية الفيديو، ذكرت الرسالة التي كنت أرغب في إيصالها إلى أهلي منذ أن اختطفت. فقلت: «بغض النظر عن مآلنا، أتمنى أن تحيا عائلتي وكريستين في سلام مع أنفسهم. أنا أعرف تماما أنكم جميعا بذلتم ما تستطيعون لمساعدتنا».

* خدمة «نيويورك تايمز»

* الحلقة القادمة: الحبل والصلاة