البضائع تغرق أنفاق غزة.. وعددها ارتفع إلى 1500 على امتداد أميال على الحدود

أحد ملاكها الشباب: لسنا متعلمين ولكننا نكسب الملايين.. وأريد أن أسافر إلى المغرب

فلسطيني خلال نزوله نفقا للتهريب أقيم على حدود رفح المصرية وقطاع غزة أمس (أ.ب)
TT

حمل الأولاد الصغار الأكياس المتسخة المعبئة بزجاجات الكوكا كولا على الشاحنات الصغيرة المتوجهة إلى محلات السوبر ماركت في غزة. وفي الوقت نفسه، كان ملعب رياضي قريب يعرض الآلاف من الدراجات البخارية التي تتراوح أسعارها ما بين ألفي وعشرة آلاف دولار.

وتأتي البضائع التي تملأ الخيام في سوق «نجمة»، مثل الثلاجات والتلفزيونات ذات الشاشات المسطحة وأجهزة المايكروويف ومكيفات الهواء ومولدات الكهرباء والأفران التي تباع بأسعار باهظة، عبر الأنفاق المدفونة في الرمال على الحدود مع مصر، حتى إن بعض أهل غزة يقولون إنهم اشتروا السيارات التي تم تهريب أجزاء منها إلى الأراضي الفلسطينية المنعزلة.

يذكر أن تلك الأنفاق نشأت كمتنفس لأهل غزة قبل عامين، عندما فرضت إسرائيل حظرا تجاريا وسياسيا على غزة في أعقاب استيلاء حماس على السلطة.

وكانت إسرائيل تبذل أقصى طاقتها لإزالة تلك الأنفاق، خلال الهجمة العسكرية التي استمرت ثلاثة أسابيع في غزة، بزعم أن تلك الأنفاق تستخدم لتهريب الأسلحة والمتفجرات.

بيد أن البنائين كانوا يعاودون بناء تلك الأنفاق بعد هدمها مباشرة، ونظرا لأنه ليس هناك أمل في إعادة فتح الحدود مع إسرائيل في وقت قريب، أو في تحقيق مثل تلك الأرباح الضخمة، فقد ازداد عدد الأنفاق، وتحولت رفح إلى مركز للتسوق، وأصبح أصحاب تلك الأنفاق ملوكا.

من جهته، يقول أسامة، 22 عاما، صاحب أحد تلك الأنفاق: «إذا رفع الحصار، فسوف ينتهي بي الحال في العناية المركزة». ورفض أسامة الإفصاح عن لقب عائلته خوفا من أن يتم منعه من الخروج من غزة بشكل قانوني إذا ما تم التعرف عليه. ويعرف أسامة على المستوى المحلي باسم «دودة».

وقبل ذلك، كانت العصابات المسلحة تطوف تلك المدينة الحدودية من دون أي خوف من القانون، ولم يكن هناك زائرون يغامرون بالقدوم إلى هنا سوى الصحافيين والعاملين في جمعيات حقوق الإنسان، ولكن الآن يأتي إلى هنا زبائن من أنحاء غزة كافة. وما بدأ باعتباره عدة أنفاق سرية تمر عبر المنازل، تحول إلى صناعة مزدهرة لا يحاول أحد إخفاءها.

وقبل حرب غزة، كان عدد الأنفاق فيها يصل إلى المئات، ولكن يقال إن عدد الأنفاق بلغ حاليا نحو 1500 نفق مكدسة في ثمانية أميال على الحدود، وموفرة فرص عمل لنحو 30 ألف فلسطيني من أنحاء المنطقة كافة. فقد افتتح تاجر محلي سوبر ماركت صغيرا يعمل على مدار الساعة أطلق عليه اسم «دبي» كي يخدم ذلك العدد من الأشخاص. ولم تعد البضائع تأتي من إسرائيل بخلاف اللبن والزبادي. بينما تأتي المشروبات الغازية، والحبوب، والشيكولاته، والكعك وزيت الطهو من تلك الأنفاق.

على الجانب الآخر من الطريق، يعمل أبو رائد ألارجا، 58 عاما، على إصلاح المعدات التي تستخدم في حفر تلك الأنفاق. وداخل ذلك المتجر المظلم، يخزن أبو رائد الأسمنت، والمولدات الكهربائية، والبراميل البلاستيكية الزرقاء بالإضافة إلى الحبال المستخدمة في سحب البضائع من الجانب المصري.

بالنسبة لملاك الأنفاق، فإن الأرباح مرتفعة ولكنها محفوفة بالمخاطر؛ حيث تستهدف إسرائيل تلك الأنفاق كرد فعل على انطلاق صاروخ، فتتهدم بعض تلك الأنفاق التي تفتقر إلى المتانة. كما تغلق مصر بين وقت وآخر تلك الأنفاق من جانبها.

وتدير حركة حماس بنفسها بعض الأنفاق، ولكن السكان المحليين يقولون إن حماس لا تحصل ضرائب عن الأنفاق ذات الملكية الخاصة.

وتم تكوين نقابة للإشراف على نظام الأنفاق والدفاع عن حقوق العمال الذين قتلوا بسبب العمل فيها، ذلك أنه قتل حتى الآن 116 منهم على الأقل، وفقا لإحدى الجماعات المحلية للدفاع عن حقوق الإنسان؛ فقد قتل خمسة عمال تتراوح أعمارهم بين 17 و20 عاما في واحد من أنفاق أسامة الثلاثة قبل خمسة أشهر عندما انهار النفق نظرا لجفاف الرمل. ودفع أسامة إلى العائلات الخمس 2000 دولار كتعويض، ووعد بأن يدفع سبعة آلاف دولار إضافية لكل عائلة من تلك العائلات خلال الأشهر القليلة المقبلة.

جدير بالذكر أن أسامة بدأ عمله كعامل باليومية، حيث كان يعمل في حفر الأنفاق منذ أن كان في السادسة عشرة من عمره. ثم تحول إلى نقل الأدوية، والـ«تي إن تي» عبر الأنفاق في غزة. وعلى الرغم من أنه موال لحركة فتح، فإنه يزود الجانبين بالإمدادات. ويقول أسامة إنه كان معتادا على تناول الطعام في مدينة غزة ولكنه كان يغادر من دون أن يدفع. وزاد قائلا: «لقد أصبح الوضع مختلفا الآن. فنحن نخشى حماس».

وللسبب نفسه، لم يعد يعمل في تهريب الأدوية أو الأسلحة، على الرغم من أن المال الذي كان يجنيه من تلك التجارة المحرمة ساعده على بدء أعماله القانونية. من جهة أخرى، يقول أسامة إن كل نفق من أنفاقه الثلاثة تكلف نحو 300 ألف دولار، مضيفا أن أربعة من أصدقائه ساعدوه في تمويل ذلك المشروع.

في المساء، يجلب عثمان الحيوانات الحية، والدراجات البخارية، ورقائق البطاطس، والكوكاكولا وملابس النساء والأطفال. ولكن أكثر الواردات التي يجلبها إدرارا للربح هي الوقود الذي يسحبه من خلال أنبوب مثبت في سقف نفق يزيد طوله على نصف ميل، ويجمعه في صهاريج ضخمة على الجانب الفلسطيني. وعلى غرار كثير من رجال الأعمال الأذكياء، يمارس أسامة عمله في ضخ البترول بعد قيام إسرائيل بوقف إمدادات البترول من جانبها أو بعد هدمها لعدد من الأنفاق المهمة مما يسفر عن رفع الأسعار في غزة. ويقول ملاك الأنفاق، محدثو الثراء في غزة، إنهم يحققون أرباحا في المتوسط تزيد على مليون دولار سنويا من كل نفق من تلك الأنفاق.

من جهته، يعمل شريف أبو داف، 30 عاما، الذي كان مقاولا في مدينة غزة حتى أغلقت إسرائيل المعابر التجارية ومنعت الأسمنت وغيره من مواد البناء من الدخول، حاليا في حفر الأنفاق كي يتمكن من إعالة أسرته وأطفاله الستة محصلا 120 شيكلا في اليوم أو ما يعادل 32 دولارا.

يذكر أن ملاك تلك الأنفاق لم يحدثوا تغيرات تذكر في رفح التي يعتبرونها منطقة منعزلة ومحافظة؛ فهم يفضلون استثمار أموالهم في المنازل في غزة وما بعدها. ويقول عماد، 29 عاما، وأحد شركاء أسامة: «نحن نحقق الملايين، ولكننا لسنا متعلمين». ويضيف أن بعض الرجال المحليين يتزوجون أكثر من امرأة: «إذا أردت أن استثمر أموالي فسوف أسافر إلى المغرب، فقد سمعت أنها بلاد جميلة كما أن لديهم حكومة عادلة».

ويقول حازم، 23 عاما، أحد شركاء أسامة: «ما قيمة أن يكون لديك كل ذلك القدر من المال إذا كنت غير قادر على السفر؟» كما قال إنه يريد السفر إلى مصر ودراسة إدارة الأعمال ثم استثمار أمواله في القاهرة.

ويقول أبو محمد، 57 عاما، (حمو عماد) فيما يتعلق بالأجيال الجديدة: «إنهم لا يتطلعون إلى ما بعد غزة. فهم يفكرون وكأنهم في نفق. فهم لم يروا قبل ذلك سوبر ماركت كبيرا أو المراكز التجارية الضخمة التي رأيتها في دبي».