«الشرق الأوسط» ترصد رحلة نزوح سكان الحرث للبحث عن مكان آمن

بعد إعلان المحافظة منطقة عسكرية.. ونصب نقاط التفتيش لمنع الدخول إليها

جنديان سعوديان في أحد مواقع الحراسة بالمنطقة الحدودية
TT

تحولت محافظة الحرث بأكملها أمس إلى مدينة أشباح بعد أن غادرها آخر القاطنين في القرى الغربية منها، إذ مع الساعة العاشرة صباح أمس كانت آخر أفواج النازحين من قرى الداسة وأم العكاش وشهرين، تشد رحالها متجهة إلى بقية محافظات جازان وإلى مخيم الإيواء في المسارحة الذي يتسع لألفي خيمة نصبها الدفاع المدني السعودي لاستقبال النازحين. وفرضت دوريات من حرس الحدود والجيش والشرطة العسكرية نقاط تفتيش على مداخل المحافظة لمنع عودة السكان بعد أن أعلنت المحافظة منطقة عسكرية محظورة. حيث شهدت الليلة الماضية انقطاعا متكررا للتيار الكهربائي عن بعض قرى المحافظة، حيث ذكرت مصادر في وحدة تشغيل الكهرباء في الخشل بمحافظة الحرث أن انقطاع الكهرباء صدر بموجب توجيهات.

«الشرق الأوسط» قضت أمس ليلة الثلاثاء مع آخر من تبقى من سكان الحرث في قرية شهرين، وكان لضراوة القصف الجوي الذي شهده الشريط الحدودي ليلتها ويوم أمس من قِبل الطيران الحربي السعودي كلمته النهائية ليلغي خيارات البقاء كافة لدى ما تبقى من القاطنين الذين تجاهلوا التوجيهات الرسمية بإخلاء قراهم مفضلين مراقبة الوضع وحساب معادلة البقاء والنزوح طبقا لمستجدات الواقع.

وفي تلك القرية الواقعة على الضفة الغربية لوادي سيال (أحد أكبر أودية المحافظة) كانت أبواب المنازل ونوافذها تهتز بشدة مع دوي صوت القذائف في ناحية جبال الشريط الحدودي حيث تنتشر القوات السعودية لمواجهة متسللين قاموا باعتداءات على دوريات لحرس الحدود الأسبوع الماضي. وفي جولة لها في القرى الحدودية رصدت «الشرق الأوسط» تعرض منازل شعبية إلى تصدعات جانبية نتيجة للاهتزازات الناتجة عن عمليات التحليق الجوي ودوي أصوات الانفجارات التي تحدثها عمليات القصف.

وكان بالإمكان مشاهدة نيران القصف الجوي وهي تلوح في الأفق الشرقي من المحافظة مع سماع دوي انفجارات عنيفة بعد منتصف الليل سمع أولها في تمام الساعة الواحدة والنصف وسط تحليق جوي مكثف واستمرت إلى صباح أمس. وبحسب ما ذكره السكان المحليون فإن هذه الانفجارات تعد الأعنف منذ اعتداءات الثلاثاء الماضي وذلك بعد هدوء تام ساد الشريط الحدودي أول من أمس. «الشرق الأوسط» رغم إعلان الحرث منطقة عسكرية محظورة تمكنت من الوصول إلى القرى الواقعة على الشريط الحدودي على بعد كيلومترين من مناطق القصف الجوي الحالية وتجولت في مناطق الخوبة والخشل والجابري وقريبا من جبل ملحمة حيث سقطت قذائف ألقتها طائرات حربية.

وكان الصمت والسكون أبطال مشهد الحرث أمس، حيث بدت طرق المحافظة خالية تماما من أي نشاط إلا من تحركات قوات الجيش ودوريات حرس الحدود ونقاط التفتيش التي نصبت في أنحاء المحافظة كافة حيث تبلغ قراها ما يقرب من 300 قرية تحتضن خمسين ألف نسمة غادروا جميعا.

مدينة الأشباح هذه لا تزال تحمل ملامح حياة كانت تنبض إلى عهد قريب. فمشروعات إنشاء الوحدات السكنية والطرق والمدارس ترسل إشارات إلى العابرين عن صمت هذا المكان واعتذاره المؤقت عن الحياة بأن الحرث تشهد نهضة تنموية في مجالات الصحة والتعليم والمواصلات تَعِد بمستقبل ينتظر أهالي الحرث حين يعودون إلى قراهم بعد الانتهاء من العمليات العسكرية هناك.

وفي حين تشتهر الحرث بأرضها الخصبة ونشاط سكانها الزراعي الذي اكتسبت منه مسماها «الحرث» كانت مزارع الذرة الرفيعة تصطف في مشهد متناسق بانتظار مناجل الحصاد حيث تعد زراعة الذرة نشاطا أساسيا يمارسه الجازانيون في ثلاثة مواسم كل عام. وتدخل الذرة في مكونات معظم الوجبات الشعبية التي تزخر بها مائدة الطعام الجازانية. وفي قرية المعطن دق جرس الواحدة ظهرا ليمر مشهد الحياة هنا في صمت وسكون غير مكترث بعامل الوقت وهو التوقيت ذاته الذي كانت قرى الحرث تصل حينه إلى ذروة النشاط والحياة حين يعود طلاب وطالبات المدارس إلى قراهم وتدور حركة النشاط التجاري في أسواق المحافظة وينطلق معظم أهاليها لشراء نبات القات الذي يشتهر تعاطيه وتناوله هناك ويباع غالبا في قرى الجابري والخقاقة وما جاورها. وعلى طول الطريق الترابي الممتد من قرى المعطن وأم الشعنون التي جرى إخلاؤها أول من أمس ضمن المنطقة العسكرية المحظورة وصولا إلى المسارحة اصطفت مئات السيارات محاطة بآلاف النازحين من 240 قرية مشيا مع مواشيهم من أبقار وأغنام وجمال في مشهد سيظل محفورا في أذهان أطفال هؤلاء القرى طويلا.

«الشرق الأوسط» رافقت هؤلاء النازحين في رحلة النزوح وهم يسيرون في ثلاثة اتجاهات أولها مساكن الأقارب والأصدقاء داخل المنطقة وثانيها مخيمات الإيواء والشقق المفروشة والفنادق وثالثها مطار الملك عبد الله بجازان لمغادرة المنطقة، بينما يسير آخرون نحو لا وجهة محددة يرتاحون فيها من تعب العبور وهمّ النزوح. وعلى جانب الطريق اصطف مجموعة من أطفال قريتَي أم العكاش والداسة آخر قريتين لم ينزح أهلها في محافظة الحرث وهم يوزعون عبوات الماء البارد على النازحين مصدومين بأن مشهدا كانوا يطالعونه في القنوات الإخبارية يمكن أن يعبر أرضهم تاركا آثره في نفوسهم وذاكراتهم الغضة. النازحون لجأوا إلى هذا الطريق الترابي غير المعبَّد والذي يتأذى المارة فيه بأكوام القمامة المنتشرة على جوانب مرمى النفايات بداخله لأنهم وبحسب إفاداتهم لـ«الشرق الأوسط» وجدوا هذا الطريق يخلو من الوجود الأمني ونقاط التفتيش التي نصبتها القوات المسلحة على طول طريق الحرث ـ المسارحة، أحد الطرق التي سلكها النازحون، وهو ما يعتبرونه أمرا قد يبطئ رحلة نزوحهم.

خطة النزوح بالنسبة إلى هؤلاء كما فصلها نازحون على ذلك الطريق تتم على مراحل يقومون في الأولى بتأمين مكان يلجأون إليه في المسارحة أو صامطة أو غيرها من المناطق الداخلية سواء لدى الأقارب أو في الشقق المفروشة أو مخيمات الإيواء، وفي الثانية يقومون بنقل أطفالهم ونسائهم إلى مناطق الأمان، وفي عودتهم للمرة الثالثة ينقلون ما تتمكن سياراتهم من نقله من أثاث المنزل وأدواته. وفي الخطوة الأخيرة من رحلة النزوح التي تستغرق منهم جهد يوم كامل قالوا إنهم يحاولون نقل مواشيهم، التي تشكّل مصدر رزق لهم، إلى مناطق أكثر أمانا أو بيعها في الأسواق الشعبية. عائلة ذكرت أن نزوحها بدأ منذ اعتداءات الثلاثاء الماضي مشيرة إلى أنهم انتقلوا إلى من الغاوية في محيط جبل دخان إلى الجابري التي كانت آمنة حينها قبل أن تصدر الأوامر بإجلائها ليجدوا أنفسهم مرة أخرى في دوامة نزوح آخر ولكن هذه المرة إلى وجهة أبعد. النازحون من سكان القرى اليمنية أو مجهولي الإقامة المستوطنين في الحرث مستغلين تداخل القرى بين الحدود وجدوا أنفسهم مجبَرين على العودة عشرات السنوات إلى الوراء ليستخدموا الحمير في مجال المواصلات والتنقل في مشهد امتد على طول طرق النزوح. وكم كان الموقف صعبا على عائلة يمنية نازحة وهم يفاجأون بأن آلام الطلق والولادة اختارت توقيت النزوح لتداهم ابنتهم التي وضعت مولودها البكر في عمارة ما زالت تحت الإنشاء في قرية على طريق أبو صمقتين حيث سلك الآلاف من النازحين..

ذوو الاحتياجات الخاصة بدورهم سجلوا توقيعهم في هذا المشهد بطريقة أكثر حضورا من غيرهم، فهذا مكفوف لم تجد أمه خيارا لإشراكه في رحلة النزوح سوى أن تربط يديه بحبل وتجره خلفها لترشده الطريق وتسرع في عملية الرحيل.

وآخر فقد قدمه اليسرى وسار يستند إلى عكازين ليلحق بركب لم ينقطع إلا مع حلول الظلام. واستخدم صاحب جرافة تعمل في مشروع مجاور للطريق الجزء الأمامي للجرافة والذي يستخدمه عادة في جرف التراب في نقل مجموعة من الأطفال الذي أضناهم المشي إلى مسافة أقرب في مشهد غابت عنده الكاميرا وحضر بزخم في أذهان المحيطين الذي تحدثوا عنه كثيرا.

أهالي القرى المحيطة بطريق أبو صمقتين الذي نزح عبره خلال اليومين السابقين آلاف النازحين ذكروا بأن هذا الطريق ترابي وعر يمر عبر جبال عدة ورغم أنه الأقصر مسافة في الربط بين محافظتي المسارحة والحرث فإنه لم يجد اهتماما من وزارة المواصلات لتعبيده مفيدين بأنه يكون مهجورا في غالب أيام العام إلا من سيارات مهربي القات والمواشي وبعض العابرين ودوريات حرس الحدود والمجاهدين، مطالبين بأن يتم الالتفات إلى هذه الناحية والعناية بهذا الطريق الاستراتيجي الذي كشفت عمليات النزوح أهميته في الربط بين المحافظتين. أما «أم محمد» فتقول إ أطفالها الذين تَعرّضوا لهذه المشاهد ظلوا يتحدثون عنها كثيرا، مبدية خشيتها مما قد تسفر عنه تأثيرات مستقبلية خصوصا أنهم بدوا مصدومين بهذه المشاهد غير مستوعبين لأسبابها ونتائجها سوى سؤالهم المتكرر «لماذا؟».