الصين تستعرض وجهها الناعم

عززت دورها في حفظ السلام العالمي ونشرت قوات تفوق قوات أميركا وروسيا وبريطانيا مجتمعة

جنود صينيون يعملون ضمن قوة «يونيفيل» يقفون بانتظار وصول مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون حفظ السلام، ألان لو روي، في قرية لبونة قرب الخط الأزرق بين جنوب لبنان وإسرائيل في 4 مايو (أيار) الماضي (أ.ف.ب)
TT

بعد تجهيز قواتها المسلحة بصواريخ جديدة وأسلحة أخرى متطورة، دعت الصين مؤخرا مسؤولين عسكريين أميركيين ومن دول أجنبية أخرى لمعاينة جانب ذي طابع قتالي أقل من جيش التحرير الشعبي: أسطول من الجرافات الضخمة. فعبر سحب من الدخان جرى إطلاقها لمحاكاة ميادين القتال، استعرض لواء المهندسين العسكريين معداته الخاصة بتمهيد الأرض والتخلص من الألغام، وغيرها من المعدات غير القتالية في قاعدة بشمال بكين. بدأ العرض في أعقاب الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الصين الشهر الماضي، ويمثل ما تعتبره الصين جزءا مهما من إجابتها عن تساؤل خيم بظلاله على جولة أوباما الآسيوية التي امتدت لثمانية أيام: كيف ستستغل الصين قوتها الهائلة الناتجة عن نموها الاقتصادي القوي؟

ويضطلع اللواء الهندسي الذي نفذ العرض بدور الريادة في إطار المشاركة الصينية المتزايدة في عمليات حفظ السلام الدولية، وهي قضية ظلت تندد بها بكين لعقود باعتبارها انتهاكا لالتزامها المعلن بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، لكنها باتت تقرها الآن. اليوم، تنشر بكين قرابة 2150 من أفرادها العسكريين والشرطيين دعما من جانبها لمهام تتبع الأمم المتحدة. ويعمل هؤلاء الأفراد في مختلف أنحاء العالم، من هاييتي إلى السودان. وعلى الرغم من أن القائمين بعمليات حفظ السلام يشكلون نسبة ضئيلة من إجمالي جنود جيش التحرير الشعبي البالغ قوامه مليوني جندي ويمثلون جزءا بالغ الضآلة من الميزانية العسكرية الصينية، فإن حماس بكين تجاه مهام حفظ السلام ينبئ عن رغبة قوية من جانبها لرسم صورة لها كقوة عظمى مسؤولة وسلمية. وحتى إذا كان إجمالي النفقات العسكرية الصينية، حسبما يعتقد بعض الخبراء، ضعف الرقم المعلن، فإنها تبقى أقل من ثلث الميزانية العسكرية الأساسية للولايات المتحدة، والتي تستثني النفقات المخصصة لحربي العراق وأفغانستان.

وقال الكولونيل يي تشانغهي، قائد لواء المهندسين، في حديث له مع مسؤولين عسكريين أجانب كانوا في زيارة للصين: «نتعهد بأن نضطلع بواجباتنا لحماية السلام».

عندما صعدت ألمانيا ولاحقا اليابان كقوتين عسكريتين، اعتمادا على اقتصادهما المزدهر منذ أكثر من قرن مضى، أعقب ذلك عملية إعادة ترتيب كارثية للنظام العالمي. أما الصين، التي تسعى وراء ما تطلق عليه «الصعود السلمي»، فتتعمد الإشارة إلى نشاطاتها في مجال حفظ السلام للتدليل على حسن نواياها. إلا أنه في الوقت الذي تبدي فيه الصين استعدادا أكبر لإشراك جنودها في عمليات لحفظ السلام تحت لواء الأمم المتحدة، لم تبد الصين سوى قدر ضئيل من الحماس إزاء المهمة التي تحظى بمباركة الأمم المتحدة وتمثل أهمية كبرى للولايات المتحدة، وهي الحرب في أفغانستان.

يذكر أنه عندما رغبت واشنطن في نقل عدد من المدربين المنغوليين إلى أفغانستان في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، اعترضت بكين على مرور الطائرة التي تقلهم عبر أجوائها. وفي نهاية الأمر، منحت بكين الطائرة الضوء الأخضر للمرور، لكن فقط بعد إفراغ الطائرة من الذخائر، طبقا لما ذكره مصدر أميركي مطلع. على الرغم من موافقة الأمم المتحدة عليها، تبقى المهمة في أفغانستان تحت قيادة حلف شمال الأطلسي، وهي منظمة ترتاب بشأنها الصين. وتلوم بكين الحلف على حادث قصف سفارتها في بلغراد عام 1999 أثناء حرب كوسوفو. وكان من شأن الصدمة التي انتابت الصين جراء الحملة العسكرية التي شنها حلف الأطلسي في يوغسلافيا السابقة أن دفعتها للاضطلاع بدور أكبر في جهود حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، حسبما ذكر بيتس غيل، مدير «معهد استوكهولم لأبحاث السلام الدولي» والذي شارك مؤخرا في وضع تقرير حول نشاطات بكين في مجال حفظ السلام. وأضاف أن الصين «من غير المحتمل بدرجة بالغة» أن تقدم على إرسال جنود إلى أفغانستان لمساعدة «ما يعد بصورة أساسية عملية تخص حلف الناتو، على الرغم من مباركة الأمم المتحدة لها». يذكر أن بكين ألحقت مؤخرا مجموعة صغيرة من الجنود من أفغانستان والعراق بدورة تدريبية حول التخلص من الألغام داخل جامعة العلوم والتقنية التابعة لجيش التحرير الوطني في نانجنغ. كما أبدت اهتمامها بالمعاونة في تدريب قوات الشرطة الأفغانية، إلا أنها رفضت تقديم دعم مباشر لحملة الحلف ضد حركة طالبان.

يشار إلى أن بكين ركزت مواردها على دعم العمليات التي تخضع لإدارة الأمم المتحدة مباشرة. وتشارك بأعداد من الجنود في مهام الأمم المتحدة أكبر من أعداد جنود الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا مجتمعة. ومن بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، تعد فرنسا الدولة الوحيدة التي تقترب إسهاماتها من تلك الخاصة بالصين فيما يتعلق بمهام حفظ السلام التابعة للمنظمة. وعموما، رحبت واشنطن باستعداد الصين المتزايد للانضمام إلى عمليات الأمم المتحدة، مع أن تقريرا صادرا عن البنتاغون هذا العام أشار إلى أن القدرات التي تسمح لبكين بالمشاركة في مهام حفظ سلام وأخرى إنسانية في مناطق قاصية، يمكن أيضا أن «تمكنها من نشر قوتها لضمان الوصول إلى موارد أو فرض ادعاءاتها على أرض الواقع فيما يخص أراضي متنازعا عليها». ووصف أوباما خلال زيارته لبكين، المشاركة الأكبر من الصين في الساحة الدولية بأنها ضرورية ونتيجة إيجابية لقوتها الاقتصادية. وقال في أعقاب محادثات عقدها مع الرئيس الصيني هو جنتاو: «الاقتصاد المتنامي تصاحبه مسؤوليات متنامية». المؤكد أن بكين تحركت بعيدا عن سياستها في عهد ماو تسي تونغ التي قامت على المعارضة الشديدة لعمليات التدخل الأجنبي التي تنفذها قوى أجنبية. وفي خمسينات القرن الماضي، قاومت الصين بقوة المهام العسكرية المدعومة من الأمم المتحدة، وعلى رأسها الحرب الكورية، عندما خاض جنودها قتالا ضد جنود أميركيين وقوات أجنبية أخرى تحارب تحت لواء الأمم المتحدة، دعما لكوريا الجنوبية. يشار إلى أن القوات الصينية تشارك في 10 دول، منها دول في بحر الكاريبي وحتى جنوب شرقي آسيا، لكن نشاطها الأكبر يتركز في أفريقيا، حيث عززت بكين من وجودها الدبلوماسي والاقتصادي في إطار سعيها وراء النفط وموارد أخرى لدعم اقتصادها. وتركز الصين جهودها على توفير مساعدة هندسية وطبية ولوجستية. وقال مسؤول بارز في الأمم المتحدة زار بكين مؤخرا إن الصين تدرس إرسال قوات مقاتلة إلى الخارج للمرة الأولى.

ويشتهر الجنود الصينيون بالتزامهم الشديد، ولم تلطخ سمعتهم أي فضائح جنسية أو أخرى تتعلق بالفساد مثلما حدث مع جنود حفظ سلام من دول أخرى. إلا أن نقادا أشاروا إلى أن العدد الأكبر لقوات حفظ سلام صينية (قرابة 800 من أفراد عسكريين وأفراد شرطة) يتركز في السودان، البلد الذي يمد بكين بكميات كبيرة من النفط والذي تناصر بكين حكومته بقوة على الرغم من مشاعر الغضب واسعة النطاق على خلفية ملف دارفور. في حديث له في أعقاب مؤتمر حول حفظ السلام الشهر الماضي في بكين، قال ألان لي روي، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون عمليات حفظ السلام، إن القوات الصينية «محترفة للغاية»، مضيفا أن المنظمة الدولية لا تساورها «أي مخاوف» إزاء دور هذه القوات في السودان. وأعرب عن اعتقاده أن علاقات بكين الوثيقة بدول مثل السودان توفر نفوذا «سنحاول استغلاله على النحو الأمثل».

*خدمة «واشنطن بوست».

خاص بـ«الشرق الأوسط».