لبنان: المصالحات المسيحية مرهونة بالمسافة بين مشروعي عون وجعجع

TT

تنشط حركة المصالحات لجمع أوصال الساحة المسيحية في لبنان، وهو ما يشير إلى عمق الشرخ الحاصل فيها. ذلك أنها تشهد أكثر من مجرد خلاف بين قوى حزبية وشخصيات سياسية على موقع في السلطة أو حصة في المؤسسات، لتتجاوزها إلى فعالية الوجود المسيحي في بيئته ووطنه ومحيطه، نظراً إلى تغير المعطيات الديموغرافية والسياسية في لبنان.

ولا يمكن فصل الانقسام الحاد في الشارع المسيحي عما جرى في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية، وعن المتغيرات التي تعصف بالمنطقة. فقد عجز هذا الوجود عن حجز مكان له نتيجة الاصطفافات السياسية التي شرذمت القوى المسيحية، وتحديداً المارونية التي تتمحور بشكل رئيسي في فلك كل من رئيس «تكتل التغيير والإصلاح»، النائب ميشال عون، ورئيس الهيئة التنفيذية لحزب «القوات اللبنانية»، سمير جعجع، ورئيس حزب الكتائب، رئيس الجمهورية السابق، أمين الجميل، ورئيس تيار المردة، النائب سليمان فرنجية، بالإضافة إلى باقي الأطراف كحزب الوطنيين الأحرار ورئيسه النائب داني شمعون، والأمانة العامة لقوى «14 آذار» بقيادة غير معلنة للنائبين السابقين فارس سعيد وسمير فرنجية.

إلا أن الأقطاب المسيحيين لا يستطيعون، مجتمعين أو منفردين، التحكم بالساحة المسيحية عامة والمارونية خاصة، لوجود مرجعيتين لا يمكن تجاوزهما، الأولى هي رئاسة الجمهورية، والثانية هي المرجعية الدينية المتمثلة في البطريرك الماروني نصر الله صفير. وفي حين تكر سبحة المصالحات، وتتكثف المساعي لإتمامها، يبقى أن المصالحة التي ينتظرها الشارع المسيحي ويترقبها الشارع اللبناني عامة هي التي يفترض أن تتم بين عون وجعجع. ذلك أن للرجلين مشروعهما الخاص المناقض للآخر. فجعجع هو رأس حربة في فريق يطالب بالعلاقات الندية مع سورية، بينما انتقل المشروع العوني من الحرب على سورية إلى الارتماء في أحضانها، وتلاوة فعل الندامة، مع الإشارة إلى أنه لا توجد حرب ظاهرة بين الرجلين، ليغلب على زعامتهما طابع التنافس السياسي. ويتردد في «صالونات القوات اللبنانية» أن «زيارة عون إلى بكركي هي إعادة تموضع مسيحي ليس أكثر، ذلك أن عون ذهب في السياسة إلى النقيض التاريخي لقناعات الشارع المسيحي ومرجعياته السياسية والدينية. فهو يطالب جعجع بتغيير خطه السياسي ليصالحه، أي أنه يطلب منه أن يعيد النظر في مواقفه السياسية وفي النظرة إلى الوجود السوري وتدخله في الحياة السياسية اللبنانية».

ويقول وزير الدولة من «تيار المردة»، يوسف سعادة لـ«الشرق الأوسط»: «هذا الطرح غير دقيق، هناك تحالفات ولا وجود لمعسكرين أو نظرتين حيال الأولويات الوطنية. فاللبنانيون خرجوا من المتاريس وتركوا الاصطفافات. إلا أن فريقاً كبيرا في قوى 14 آذار لم يخرج من تلك المرحلة. المفروض خروجه إلى الثوابت الوطنية. الأمور ليست مغلقة على رغم أن لكل فريق مقاربات مختلفة. والانقسامات الحادة التي سادت لبنان بين عامي 2005 و2009 تغيرت. واليوم هناك من يرى نفسه معزولا مع أن لا أحد يعزله. لكنه يصر على مزايدات لكسب الشعبية. لدينا نظرة واحدة إلى السلاح في مواجهة إسرائيل. ولا لزوم للمزايدات في هذا الشأن».

لا يوافق الوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون على هذا الطرح، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هناك حملة لعزل جعجع يقودها عون وخلفه حلفاء محليون وقوى إقليمية. إلا أن عزل جعجع يجعل القوات اللبنانية أقوى في الشارع المسيحي. لا سيما أنه متمسك بالرؤية الاستراتيجية أكثر مما هو متمسك بالحصص. بينما يتمسك عون بالحصص. ولعل للعمر علاقة في هذا الأمر. فهو لم يعد يستطيع التفكير في الوصول إلى رئاسة الجمهورية. ما يعني أن تفكيره محصور بالحاضر وليس بالمستقبل».

ويضيف: «مشكلة عون أنه يطرح نفسه زعيماً قادراً على إعادة الحقوق والنفوذ إلى المسيحيين، والأمر غير صحيح. لأن الحقوق والنفوذ لهما علاقة بالخريطة الإقليمية. ورهان عون على التحالف مع حزب الله لإعادة النفوذ لا ترجمة له. لنأخذ صلاحيات رئيس الجمهورية مثلا، حزب الله ملتزم أمام جماهيره بالحصول على مزيد من المكتسبات للشيعة في السلطة إذا قرر تسوية وضع سلاحه. ما يعني أن همه هو إعطاء المزيد من الصلاحيات للشيعة وليس للمسيحيين. ومن يقرأ وثيقة الحزب الأخيرة يجد أنها وثيقة لإلغاء الطائفية السياسية».

ربما انطلاقاً من هذه النظرة نجد أن البطريرك صفير لا يخفي ميله لرؤية جعجع. وقد دفع ثمن مواقفه غالياً، لكنه صمد ولم يغير قناعاته، في حين يسعى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان إلى إرساء التوافق بين الأطراف المسيحية كافة تحت راية مرجعية رئاسة الجمهورية. ولا يرى بيضون أي مستقبل للمصالحات بناء على المعطيات الراهنة. ويقول: «النقطة الأساسية لا تزال في مكانها، فالشارع المسيحي لا يزال يعيش مرحلة حرب الإلغاء التي شنها عون على جعجع أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي. والتنافس ليس تنافس القبول بالآخر، إنما إلغاء الآخر. وعندما يقول عون: أنا أمثل المسيحيين، فهو بذلك يلغي جعجع والجميل وفرنجية وغيرهم لمصلحته الخاصة، لأنه لا يريد استقلالية أي طرح مسيحي. يريد الجميع تحت مظلته. وهو بذلك يريد تقليد ما يحصل على الساحة الشيعية لجهة أحادية القرار في شؤون الدولة والسلطة والإدارة».