جنوب السودان يمارس مقومات الدولة المستقلة.. قبل تقرير المصير

«الشرق الأوسط» تفتح ملف الوحدة في السودان: الانفصال قد يفضي لحروب لا إلى سلام

اشرف قاضي الناطق باسم القوات الدولية في السودان (يسار ) يتحدث مع وزير الخارجية السوداني دينق الور ومالك عقار حاكم ولاية النيل الازرق (أ.ف.ب)
TT

لم يعد هناك أي نوع من الحساسية أو التحفظ أو ما هو مسكوت عنه في التداول العلني والمفتوح والمباشر حول العلاقة بين الشمال والجنوب، والوحدة الجاذبة أو الانفصال الجاذب أو الآخر المر، والسودان الموحد أو المنفصل أو المنشطر في دولتين متجاورتين.

وتجاوزت الأحاديث والتحليلات السياسية اتفاقية السلام الشامل التي وقعت في 9 يناير (كانون الثاني) 2005 في نيروبي، العاصمة الكينية، التي نصت بوضوح على تركيز الشريكين، المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، على تحقيق الوحدة الجاذبة، ولتصبح إرادة شعبية غالبة عبر استفتاء تقرير المصير الذي يقرر فيه الجنوبيون وحدهم خيار الوحدة مع الشمال في سودان موحد أو الانفصال عنه، ويتحول الجنوب إلى دولة قائمة بذاتها وبلد جار للشمال وليس في سودان موحد.

منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في يناير 2005 وإلى سبتمبر (أيلول) 2009 أي بعد مضي أكثر من أربع سنوات وبدء التسجيل واقتراب موعد الانتخابات العامة في 5 أبريل (نيسان) 2010، والترتيب والتحفز معا لإجراء تقرير المصير في التاسع من يناير 2011 لأهل الجنوب، فإن الحراك السياسي والجدل يدور بشدة حول من يصوت ويضع ورقته في صندوق الاقتراع من هم بداخل الجنوب أم يشمل الجنوبيين الذين ولدوا وعاشوا واستقروا في الشمال، وكذلك يشمل الجنوبيين الذين دفعتهم ظروف الحرب إلى الهجرة في كل أصقاع الدنيا.

كما أن الخلاف محتدم حول النسبة المئوية لنتائج الاستفتاء هل هي 70% أم 50%. وتعددت المواقف والتصريحات السياسية المتباينة بين الشريكين الموقعين على اتفاقية السلام الشامل (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) وتطايرت الاتهامات وتحولت في بعض الأحيان إلى أزمات حادة، التي سرعان ما يجري تطويقها أو تهدئتها في اجتماعات رئاسة الجمهورية (رئيس الجمهورية والنائب الأول سلفا كير، ونائب الرئيس علي عثمان محمد طه)، وبجانب ذلك فإن عناصر قيادية في الحركة الشعبية يتزعمها أمين عام الحركة، باقان أموم، تنشط في التشكيك في العلاقة مع الشمال أو الشماليين وقال «إن بعضهم، أي الشماليين، يمارس التفرقة العنصرية والكبت الديني وعداء غير المسلمين وفرض دولة إسلامية عربية أصولية». وقال أمين عام الحركة، باقان أموم: «إن الجنوب سيحقق مصيره عبر الوسائل الأخرى كافة في حالة تعنت الشريك في الحكم، حزب المؤتمر الوطني في التوصل إلى اتفاق حول مشروع تقرير المصير للجنوب».

وقال النائب الأول لرئيس الجمهورية رئيس حكومة الجنوب، الفريق سلفا كير: «إنه قد فات الأوان لجعل الوحدة جاذبة بين الشمال والجنوب»، وحث مواطني الجنوب أن يصوتوا لصالح استقلال الجنوب إذا أرادوا العيش كمواطنين من الدرجة الأولى، ودعا قيادي الحركة الشعبية ووزير الخارجية إلى «طلاق سلمي» بين الشمال والجنوب، وانطلقت أصوات من داخل برلمان الجنوب في جوبا إلى إعلان استقلال الجنوب من داخل البرلمان، استنادا إلى سابقة إعلان استقلال السودان في مطلع 1956 من داخل البرلمان. واعتبر قيادي المؤتمر الوطني والمستشار السابق لرئيس الجمهورية، قطبي المهدي، أن حكومة الحركة الشعبية في الجنوب تمارس فعليا أسوأ نوع من الانفصال.

وفي هذه الفترة (2005 ـ 2009) التي تسيطر فيها الحركة الشعبية بالكامل على شؤون وإدارة الجنوب، انفجرت الحروب القبلية في أكثر من منطقة أفضت إلى موت الألوف من رجال ونساء وأطفال، إلى جانب حرق القرى وتشريد السكان. وأصدر معهد أميركي تقريرا في واشنطن يفيد بوجود 3 ملايين قطعة سلاح بالجنوب «وأنه لن يكون هناك نزع سلاح فعال في الجنوب في المستقبل القريب، لأن رجال القبائل لن يتنازلوا عن أسلحتهم حتى يقتنعوا بصورة كاملة أن الحكومة ستحميهم».

هذه الإشارات الموجزة ترسم ملامح الوضع السياسي الحاد الماثل في السودان، وبوجه خاص قضية العلاقة بين الشمال والجنوب، الانفصال الجاذب؟ أم الانفصال الحاد؟ وتجعل «الشرق الأوسط» تفتح ملف الوحدة والانفصال.

واعتبر المعلقون آنذاك أن رأي «الأهرام» يعبر عن السياسة المصرية، وأنه أكد على ثوابت مصر تجاه وحدة السودان، ومعارضة التقسيم إلى شمال وجنوب، كما أنه يعكس الاهتمام بزيارة زعيم الحركة الشعبية، جون قرنق.

وفي جولة أوروبية شملت هولندا وبلجيكا وفرنسا قال الفريق سلفا كير: «إن الحكومة لا تعمل لوحدة السودان»، وفسر المراقبون والمحللون أن الجولة تهدف إلى إبلاغ العواصم الأوروبية إلى قرب احتمال انفصال الجنوب عبر تقرير المصير والاستفتاء في يوليو 2011، وبمثابة «إخلاء مسؤولية» من أي ترتيبات تحدث لدى حدوث الانفصال.

قيادي الحركة الشعبية ووزير الخارجية دينق الور في ورشة عمل حول الانتخابات والاستفتاء وتقرير المصير لأهل الجنوب نظمتها الأمم المتحدة ومركز «اتجاهات المستقبل» في الخرطوم قال: «للأسف إن أهل الشمال يتحدثون عن الوحدة في الزمن الضائع، وإن الفرصة مواتية الآن لأن يحقق الجنوبيون استقلالهم من خلال تقرير المصير الذي منحه لهم اتفاق السلام الشامل»، «وأنه لا مانع لدينا من الوحدة إذا تخلى الشمال عن سياسة العروبة والإسلام»، وشدد القول: «إن الانفصال الآن أصبح جاذبا».

موقف المؤتمر الوطني: الشريك القوي في اتفاقية السلام الشامل وفي حكومة الوحدة الوطنية على لسان الرئيس عمر حسن أحمد البشير، ونائبه علي عثمان محمد طه، تأكيد الالتزام والتمسك بتطبيق نصوص الاتفاقية والدستور والعمل معا (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) على تحقيق الوحدة الجاذبة عبر الاستفتاء الشعبي. وقال الدكتور مصطفى عثمان إذا انفصل الجنوب ستكون هناك مجموعة من الحروب على مناطق التماس، ولا ننكر أن انفصال الجنوب سيخلف مشكلات سياسية واقتصادية وأمنية بسبب التداخل القبلي بين الشمال والجنوب، ولكن 85% من مياه النيل تأتي من إثيوبيا لا من أوغندا. ولذلك شدد المؤتمر الوطني على أن يكون التسجيل للاستفتاء بما يعادل ثلثي التعداد، وأن تكون نسبة التصويت بخيار الانفصال 75%، بينما تمسكت الحركة الشعبية بنسبة التصويت بخيار الانفصال 50% زائد 1، أي 51%.

موقف المفكرين والمحللين: شارك المحللون والأكاديميون والقانونيون بشكل موضوعي إيجابي في تناول قضية الوحدة والانفصال، وبوجه خاص المفكر والمحلل السياسي محجوب محمد صالح الذي يقول: «إننا بالطبع نقف إلى جانب الوحدة ونسعى إلى تحقيقها وندعم كل جهد لكي يكون قرار الاستفتاء هو التأكيد على وحدة السودان، أرضا وشعبا، ولكن ما دام خيار الانفصال بات خيارا واردا ومشروعا، فإن ذلك يحتم علينا أن نبحث بكل الشفافية والصراحة والوضوح كل تداعياته وتبعاته وآثاره حتى لا نسير إلى مصير مجهول، وقد كان المبرر الوحيد الذي قدمته كل الأحزاب لقبولها مبدأ الانفصال هو رغبتها في الوصول إلى سلام مستدام عبر الوحدة أو الانفصال حتى تضمن عدم العودة مطلقا إلى مربع الحرب، سواء كانت حربا أهلية داخل وطن واحد أو حربا نظامية بين دولتين متجاورتين كانتا دولة واحدة ثم انقسمت على نفسها!».

مخطئ من يظن أن مجرد الانفصال يحقق السلام فكثيرا ما أدى الانفصال إلى مواجهات وحروب أشد شراسة من الحروب الأهلية الداخلية ولذلك لا بد من دراسة كل تفاصيل الانفصال وكل ما يترتب عليه ولا بد من الاتفاق حول ترتيبات ما بعد الانفصال والاتفاق على القضايا المشتركة وحول الحدود المشتركة وحول السياسات المشتركة والوصول إلى عهود مكتوبة تعالج القضايا المشتركة تفصيلا.

الخبير القانوني والشاهد على تجربة تقسيم «يوغوسلافيا»، والناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان الدكتور أمين مدني: قال في مسألة الانفصال لا يمكن أن ننتظر إلى حين إعلان قيام دولة الجنوب بعد الاستفتاء (يوليو 2011) هناك مسائل كثيرة جدا ومعقدة للغاية يتوجب مراجعتها، فهنالك قضايا الأرض والحدود والمياه، والعلاقات التجارية، وتجارة الحدود، والدبلوماسية وغيرها، والآن لا أحد يتحدث عن ذلك، وليس هناك «دولتان متجاورتان» لا تضعان هذه المسائل في أولوياتها، أو لا تحافظان على المصالح. الانفصال كسيناريو يحتاج إلى إعداد من سيحمي المصالح المتبادلة مثل الشماليين في الجنوب وممتلكاتهم وتجارتهم، والجنوبيين كذلك في الشمال بيوتهم وأشغالهم ومصالحهم هل تحتاج إلى «تمثيل دبلوماسي، وقنصل تبادل، وسفراء، والسلاح، والقوات الموزعة، والعلاقات الاقتصادية» هناك ما يحتاج لحوار واتفاق، نحن لا نتعامل بالجدية المطلوبة الخطيرة حتى الآن أو تشكيل غرفة طوارئ لدراسة سيناريوهات الانفصال.

موقف الأحزاب السياسية الرئيسية: على لسان رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، محمد عثمان الميرغني، نحن ملتزمون ومتمسكون بوحدة السودان ووقعنا اتفاقية مع رئيس الحركة الشعبية، جون قرنق، في أديس أبابا نوفمبر 1988 نصت على وحدة السودان، شماله وجنوبه، وقلت للنائب الأول ورئيس حكومة الجنوب، الفريق سلفا كير، بضرورة الالتزام بمعاهدات ومواثيق يتعين المحافظة عليها، وسأزور جوبا متى ما تم الالتزام بوحدة السودان. والحزب الاتحادي الديمقراطي يعتبر وحدة السودان خطا أحمر.

على لسان رئيس حزب الأمة ورئيس الوزراء السابق، الصادق المهدي: «كثيرون يخشون الانفصال وهو كريه وضار وينبغي توضيح أنه مثقل بالمشكلات، وواجب قيادة الشمال والجنوب تجنبه، وواجب على القيادات الجنوبية التخلي عن الشكوى من دونية المواطنة والتركيز على الضمانات المطلوبة للعدالة والمساواة مستقبلا، والواجب على القيادات الشمالية ما ينبغي الالتزام به دينيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بل دوليا لجعل السودان وطنا مشتركا لكل سكانه وعادلا بينهم»، وقال المهدي: «إذا وقع الانفصال فيجب أن لا يقوم على أسس عدائية»، «ودعوة سلفا كير ستخلف مرارة لدى أهل السودان، والانفصال أمر خطير».

الموقف الأميركي: أفصحت واشنطن عن سياستها بتوجيه دعوة رسمية للفريق سلفا كير لزيارتها كرئيس لحكومة الجنوب وليس بصفته النائب الأول لرئيس جمهورية السودان، ولم تكترث لتحفظات الخرطوم بشأن الصفة الرسمية للزيارة.

المحللون والمراقبون اعتبروا تعيين المبعوث الأميركي الخاص للسودان، سكوت غرايشن، يعكس اهتمام واشنطن بما يجري في السودان وكذلك استراتيجية الرئيس أوباما. موقف بريطانيا، وحسب مصادر دبلوماسية موثوقة في لندن، تعتبر مصالحها وعلاقاتها مع السودان غير مصالح وعلاقات الولايات المتحدة تجاه السودان، وأنها تعتبر أن ثمة أخطاء وقعت من جانبها إبان حكمها الجنوب، وكذلك الحكومات الوطنية اللاحقة، وأن اتفاقية السلام الشامل بمقدورها معالجة هذه الأخطاء، وهى أقرب إلى مساندة وحدة السودان وليست مع انفصال الجنوب لأنها وقعت اتفاقية الحكم الذاتي سنة 1953 مع الحكومة المصرية لسودان واحد (شمال وجنوب).

إن الجدل يحتدم وبشدة حول الانفصال، ويمكن القول إن «الوحدة الجاذبة»، برغم أن اتفاقية السلام نصت على العمل للوصول إليها فإن واقع المشهد السياسي الماثل وحتى إخطار آخر يمضي في الاتجاه المغاير.