أهالي الصويرة استيقظوا صباحا ليجدوا الأميركيين قد رحلوا

جندي عراقي: أخذوا كل شيء في القاعدة ولم يخلفوا سوى الجدران

TT

أطلقت عليها المؤسسة العسكرية الأميركية اسم «الصدمة والترويع»، وبدأت فصولها في 21 مارس (آذار) 2003، وبالتحديد في الساعة الثامنة و9 دقائق مساء. وأنجزت فصولها هنا، ولا أحد يتذكر على وجه التحديد متى انسحب الأميركيون من قاعدة «فورورد أوبريتنغ بيس سمر». في هذا الصدد، قال أسامة ماجد، بائع الحلوى الإيرانية والتركية المعبأة، على الطريق المؤدي إلى القاعدة: «صباح أحد الأيام، رحلوا، ولم يعودوا ثانية. استيقظ الناس ليجدوهم قد رحلوا».

ربما لم تنته عملية الغزو فعليا، فحتى عندما يرحل آخر جندي من الـ115000 جندي أميركي المرابطين في العراق، ستبقى هذه الحقبة حية في الضمير الوطني، وفي أسلوب سير القوات العسكرية العراقية، وأحذية رعاة البقر، والوشم.. وبطبيعة الحال، اللغة.

وتبدو القاعدة أشبه بحفرة أثرية، فالقاعدة الأميركية تقع على بعد 30 ميلا جنوب شرقي بغداد، وكانت تعرف قبل وصول الأميركيين، وبعد رحيلهم، باسم مطار الصويرة. وتظهر عليها آثار تدمير بالغ، الأمر الذي ينطبق على الكثير من أرجاء البلاد. وتحيط بالقاعدة السابقة منطقة قاحلة، ولا تملك جمالا إلا في فترة الغسق، عندما تكتسب الوحدة درجة من الصفاء والسكون. يذكر أن ضواحي المنطقة تعرضت للسلب وجردت من كل شيء تقريبا منذ سنوات عدة ماضية، بما في ذلك صفوف الآجر التي أحاطت أسوار مبانيها من قبل. ويبدو مبنى القاعدة السابقة مهجورا، وقد أغلقت أبواب المبنى بخشب رقائقي، وأغلقت النوافذ بآجر مصنوع من رماد الفحم. داخل هذه المباني، توجد بقايا للثقافة التجارية الأميركية التي تبدو متناقضة مع المكان، تماما مثلما الحال مع أمطار الشتاء عندما تتساقط على صحراء البلاد هذه الأيام.

تنتشر في الوحدات الخرسانية، التي عاش فيها الجنود ذات يوم، علب معدنية لشراب «سكول»، وحزم من فيشار «موفي ثياتر بتر بوبكورن»، وعلب حلويات «فيمس أموس تشوكوليت تشيب كوكيز». وفي غرفة أخرى، توجد علبة معدنية لـ«برينغلز ساور كريم آند أونيون»، وعلبة بلاستيكية لجبن «هير»، وعلبة معدنية لـ«تشيف بوياردي بيفاروني». وتبعثرت في أرجاء المكان علب معدنية لمشروبات طاقة، مثل «جافا مونستر»، و«ريب إت». وكسر صوت هديل حمامة الهدوء المخيم على المكان، ووقفت أمام لافتة تحمل عبارة: «ساعات الهدوء: 22:00 ـ 11:00، دون استثناء».

خلال ذروة الوجود العسكري الأميركي في العراق عام 2007، كان في البلاد أكثر من 160000 جندي. اليوم، يبلغ عدد الجنود 115000 جنديا، وقد رحل معظم الجنود الذين غادروا البلاد خلسة. بحلول أغسطس (آب)، من المفترض أن يبقى في البلاد 50000 جنديا فقط.

وقد انسحب الجنود من بغداد عبر طرق تحمل ندبات المعارك التي خاضوها من قبل، ولا تزال تحمل أصداء الاحتلال وأمارات الفوضى. على امتداد البصر، يبدو كل شيء محطما ومائلا وممزقا ومعوجا، بدءا من الحواجز الحديدية على الطرق السريعة، وصولا إلى اللافتات التي تحمل أسماء نقاط قاصية، وحتى أكوام بقايا المباني على جانبي الطرق.

كما تظهر أيضا أكوام من الأسلاك الشائكة التي لا تزال تحتفظ ببريقها، رغم فقدانها أهميتها. ولا تزال أشجار النخيل مبتورة بهدف حرمان المتمردين من غطاء للاختباء وراءه. ويبعث المشهد برمته على التشاؤم، خصوصا مع هيمنة اللون الكاكي عليه، وهو اللون المميز للحرب.

عند نهاية الطريق القادم من بغداد، في أم قصر، الواقعة أقصى الجنوب، بمينائها المواجه للخليج، تقطع قافلات عسكرية الطريق ذهابا وإيابا، الذي يحمل الإسفلت الذي تغطيه علامات الذوبان تحت حرارة الشمس والإنهاك جراء حركة المركبات عليه لسنوات. تحمل الشاحنات على متنها مركبات «الهامفي» ومولدات كهرباء ووقود. وتمر في طريقها عبر مناطق غير مميزة بنقاط تفتيش يشرف عليها جنود عراقيون ويبدو على مظهرها الإهمال.

إن الجنود الراحلين لا يحملون معهم كل شيء. داخل القاعدة، لا تزال هناك أكياس رملية، وكذلك مولد كهربائي، على الرغم من أن نقص الوقود تسبب في توقفه عن العمل هذا الأسبوع. ولا تزال الأطواق المستخدمة في كرة السلة قائمة، لكن من دون شباك. وعلى الأرض تحت واحدة من الأطواق كتاب ملقى يحمل إرشادات سريعة حول كيفية تشغيل مركبة مدرعة تعرف باسم «إم آر إيه بي». وحمل الكتاب عبارة «للاستخدام الرسمي فقط». وبالقرب، تبعثرت بعض الرسائل القادمة من الوطن التي علاها الغبار.

حملت إحدى الرسائل صورة وجه مبتسم وعبارة: «أيها الجندي العزيز، ما من كلمات تكفي للتعبير عن امتناني لك للتضحية التي تقوم بها. بارك الله فيك وفي أميركا».

داخل مكتب القائد، لا تزال الجدران المهدمة تحمل ورق حائط مزخرفة بصور «هالو كيتي». ويوجد على الأرض، صندوق من «أيوا» كان يضم في يوم من الأيام ساندويتشات هامبورغر وهوت دوغ، علاوة على ظرف بريدي يتبع هيئة البريد الأميركية يحمل وعدا بتوصيل الخطابات إلى أي مكان داخل الولايات المتحدة. وبالطبع، لا تزال العوائق الخرسانية هنا، بل وفي كل مكان.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»