هولندا «العائمة».. نموذج رائد في التأقلم في تغير المناخ

تتحسب للأسوأ بنظم للسدود ومنصات خرسانية.. وبنغلاديش وبريطانيا ومصر تستخدم طرقا مغايرة

هولنديون وأجانب يستخدمون قوارب ودراجات مائية في نهر بأمستردام في 3 مارس 2009 (إ.ب.أ)
TT

مع انطلاق قمة المناخ في كوبنهاغن أمس، ما زال الغموض يكتنف فرص تحقيق اختراق مهم في القتال من أجل منع التغير المناخي. ولكن، في الوقت نفسه تقود هولندا حربا من نوع مختلف تهدف إلى التعايش مع ارتفاع درجة حرارة الأرض.

ومع ارتفاع منسوب مياه البحار وازدياد العواصف، ينفق الهولنديون مليارات اليوروهات على «مجتمعات عائمة» يمكن أن ترتفع مع ارتفاع مياه الفيضانات، وعلى مرائب يمكن النظر إليها على أنها سهول حضرية نشأت بسبب الفيضانات وعلى إعادة تصميم أجزاء من خط ساحلي يضاهي ساحل كارولينا الشمالية. وتعمل الحكومة حاليا في «إعادة توطين اختيارية» للمزارعين من المناطق المعرضة للفيضانات وتوسيع الأنهار والقنوات من أجل احتواء الزيادات المتوقعة في منسوب المياه.

وتجعل هذه الإجراءات هولندا متقدمة على باقي دول العالم فيما يتعلق بالتكيف مع الظروف المناخية الأكثر صعوبة التي تلوح في الأفق، بعد أن ساعدت على المحافظة على أقدام الهولنديين جافة على مدار قرون من الزمان. ويصف منتقدون بعضا من هذه الجهود بأنها تنذر بالخطر. لكنّ خبراء آخرين يرون أن منظومة الدفاع المناخية التي يجري بناؤها في هولندا تمثل نموذجا للدول الأخرى بما فيها الولايات المتحدة، حيث طلب مسؤولون فيها نصائح هولندية للوصول إلى وسيلة يمكن من خلالها حماية مدينة نيو أورليانز وغيرها من المدن الساحلية المنخفضة. ومع قيام الدول من بريطانيا إلى بنغلاديش بصياغة استراتيجيات للبقاء، يظهر المنحى الهولندي تغيرا في طريقة التفكير بين العلماء والمخططين والساسة، الذين كانوا قبل أعوام قليلة ينظرون إلى الحديث حول التكيف مع التغير المناخي على أنه بمثابة خضوع للبيئة.

ورغم أن الجميع تقريبا يوافقون على أن تحديد نسب لخفض انبعاثات الغازات سيكون أمرا حيويا خلال قمة كوبنهاغن، يقول عدد متزايد من الخبراء حاليا إنه ربما يكون متأخرا جدا منع درجات الحرارة من الارتفاع على مدار الخمسين عاما المقبلة أو القرن القادم. وربما يكون التحدي الأكثر إلحاحا هو الوصول إلى طرق يمكن من خلالها للدول أن تتعايش مع التغير المناخي. ولكن، تظهر الخطوات التي تتخذها هولندا، حيث يتوقع مسؤولون إنفاق 100 دولار لكل شخص كل عام في إطار الوقاية من المناخ على مدار القرن المقبل، أحد أبرز أسباب الخلاف بين الزعماء، وبينهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، المجتمعين في كوبنهاغن لحضور القمة. فثمة سؤال مهم وهو: مع اتجاه الدول إلى بناء منظومات دفاع مناخية ذات تكلفة عالية، كيف ستدبر الدول الأفقر التكاليف التي تحتاجها من أجل دعم المدن الغارقة وري مزارعها الأكثر جفافا؟.

وتطلب هذه الدول مليارات في صورة مساعدات جديدة من الدول الغنية في كوبنهاغن، وتقول إن دول العالم الصناعية يجب أن تعوضها مقابل الكوكب الأكثر دفئا، إذ إنها المسؤولة إلى حد كبير عن ذلك. ووجدت دراسة حديثة للبنك الدولي أن الدول النامية ستحتاج إلى ما بين 75 مليار دولار و100 مليار دولار كل عام على مدار العقود الأربعة المقبلة كي يمكنها التكيف مع التغير المناخي. وتقترح مؤسسة «بروجكت كاتاليست»، وهي فرع لمؤسسة «كليمات ووركس» غير الربحية، تكاليف من 26 مليار دولار إلى 77 مليار دولار سنويا حتى 2030. ويقول تيم ويرث، رئيس مؤسسة الأمم المتحدة «ستثبت عملية التكيف على أن الخطوة الأكثر صعوبة، وفي الكثير من النواحي، الجزء الأكثر أهمية للمفاوضات المناخية»، مشيرا إلى أنه فيما يتعلق بالاحترار العالمي «فإن المواطنين الذين سيتأثرون بشكل كبير هم أصحاب الصوت الأقل. وسيظهر ذلك كخلاف سياسي مهم».

ورغم أن الدول الصناعية قالت في الماضي إنها ترغب في المساعدة على تغطية هذه التكاليف، فإنها لم تبذل الكثير من أجل الوفاء بهذا التعهد. ولكن المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس قال في تصريح يوم الجمعة «يبدو أن هناك إجماعا متناميا على أن العنصر الجوهري في اتفاق كوبنهاغن يجب أن يكون جمع 10 مليارات دولار سنويا بحلول 2012 لدعم عمليات التكيف وتلطيف الآثار داخل الدول النامية، لا سيما الدول الأكثر عرضة للمخاطر والأقل تقدما التي يمكن أن تعاني من زعزعة في الاستقرار بسبب آثار التغير المناخي. وستقدم الولايات المتحدة نصيبها العادل في هذا المبلغ وستقدم دول أخرى التزامات مهمة». وقد أنشأت «الاتفاقية الإطار بشأن تغير المناخ التابعة للأمم المتحدة»، والتي تدير المحادثات الدولية، «صندوق الدول الأقل نموا» عام 2001. ولكنه لم يحصل على كل الأموال التي تعهدت بها دول غنية قبل ثمانية أعوام والتي تبلغ 180 مليون دولار. وخلال اجتماع مجموعة الثماني العام الماضي في اليابان، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم ملياري دولار خلال ثلاثة أعوام للبنك الدولي لاستخدامها في أنشطة ذات صلة بالمناخ، منها التقنية الصديقة للبيئة وعمليات التكيف مع التغيرات المناخية. ولكن، لم تتضمن الموازنة الأميركية للعام المالي 2009 أي شيء لصندوق التكيف مع التغيرات المناخية، كما أن مشاريع الموازنة لعام 2010 داخل مجلسي الشيوخ والنواب، التي لم يتم التوفيق بينها حتى الآن، تمنح 75 مليون دولار إلى الصندوق، أي أقل بـ 25 مليون دولار عما طلبته الإدارة. ويقول ديفيد واسكو، مدير برنامج التغير المناخي لصالح «أوكسفام أميركا» «قالت الحكومات إنها تريد أن تتعامل مع التكيف البيئي وإنها مستعدة لتمويل ذلك، ولكن لم تكن التعهدات نفسها كافية لتلبية الاحتياجات».

وتتحرك دول غنية وفقيرة بصورة غير مسبوقة من أجل التخطيط لعصر الاحترار العالمي. ومعظم الدول في المراحل الأولى، كما هو الحال مع الولايات المتحدة. وفي صيف العام الحالي، قامت إدارة أوباما بتشكيل فريق مهمته التكيف مع التغيرات المناخية. وبموجب أمر تنفيذي وقعه الرئيس في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، سيقوم هذا الفريق بصياغة استراتيجية للتكيف البيئي على مستوى الولايات المتحدة. ويقوم الفريق بدراسة كل شيء بدءا من كيف يمكن تحويل التخطيط للتعامل مع التغير المناخي إلى عمليات فيدرالية لمساعدة المجتمعات المحلية على الاستجابة للآثار المستقبلية. وقد تبنت بنغلاديش، وهي إحدى الدول الأكثر عرضة للفيضانات في العالم، خطة لمواجهة التغير المناخي مدتها عشرة أعوام، وهي تسعى للحصول على مساعدات دولية مقابل إنشاء نظم إنذار مبكر خاصة بالأعاصير بالإضافة إلى ملاذات جديدة للحماية من العواصف ونظم صرف صحي. وتقوم دولة المالديف، تلك الجزر الصغيرة التي تقع في المحيط الهندي، ببناء حوائط بحرية وتدرس بناء منازل على ركائز، في الوقت الذي تحذر فيه من أنها ربما تحتاج إلى شراء أرض في سريلانكا أو أستراليا أو أي مكان آخر لإعادة توطين سكانها. وتسعى خطة بريطانية جديدة إلى وضع مزيد من التعزيزات للدفاعات ضد ارتفاع منسوب المياه في نهر التيمز في الوقت الذي تقول فيه إنه ربما يتعين ترحيل بعض السكان. وتستعد دول تعاني من الجفاف مثل مصر لأوقات يسود فيها جفاف أكبر. وبمساعدة الألمان، يجرب المصريون نظام ري يستخدم أجهزة استشعار رطوبة لزراعة محاصيل باستخدام مياه أقل بنسبة 50 في المائة. ويقول مالكولم فيرجسون، رئيس قسم التغير المناخي في هيئة البيئة البريطانية «قبل أعوام قليلة، كان الناس يعتقدون أننا انهزاميون إذا تحدثنا عن التكيف مع التغيرات المناخية، ونقول إن التلطيف شيء مهم ولكن هناك أهمية أيضا للتكيف البيئي، وأن الاثنين يمضيان سويا».

ولكن، لم تمض دولة إلى ما أقدمت عليه هولندا، تلك الدولة التي يبلغ عدد سكانها 16 مليون نسبة والتي تقع ثلثا أراضيها تحت منسوب البحر. وبسبب دوام تهديد الفيضانات، يجب أن يتعلم الأطفال الهولنديون السباحة بملابسهم عندما يبلغون السادسة من أعمارهم وتقدم الحكومة تأمين فيضان شامل لأصحاب المنازل. وتجري حاليا عملية إعادة تحصين كبرى لنظام السدود بعد فيضانات مدمرة وقعت في 1953 وأدت إلى مقتل قرابة ألفي شخص. وفي الأعوام الأخيرة، ظهرت مشروعات كبيرة بينما يسعى الهولنديون إلى وسائل للتكيف مع الارتفاع في منسوب مياه البحر، ومن المخطط تنفيذ مشروعات أكثر طموحا خلال الأعوام المقبلة. وسيتم تنفيذ جزء منها من خلال مشروع شراكة مياه هولندا، وهو مشروع شراكة بين القطاع العام والخاص تحاكيه دول داخل أوروبا وخارجها.

وفي روتردام، فضّل مسؤولو المدينة الاستثمار في متنزهات جديدة وميادين ومرائب يجري بناؤها حاليا وتعمل أيضا كنظم صرف صحي بالمدينة، وهي تمتلئ بالمياه خلال أوقات الفيضانات الشديدة كي تبقي الشوارع والبنايات والمنازل فوق المياه. وفي شرق أمستردام، يظهر أحد التجمعات السكانية الثلاثة العائمة الجديدة التي ترتفع فوق هولندا مثل الضواحي المائية. ويجري بناء المنازل على منصات عائمة من الخرسانة وترتفع مع ارتفاع مياه الفيضانات، وهو ما يشير إلى كيف يمكن أن تتغير أنماط الحياة مع تكيف المناطق الساحلية بيئيا.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ «الشرق الأوسط»