لندن عاصمة التقاضي بالعالم تعيد صياغة قوانينها لوقف ظاهرة «سياحة المحاكم»

مشروع يطلب من الأجانب إثبات تعرضهم للأذى الفعلي في إنجلترا قبل رفع دعوى

هانس جوجسرون الأستاذ في جامعة أيسلندا واجه قضية في المحاكم البريطانية بسبب ملاحظات أوردها على موقع الجامعة الإنترنتي («نيويورك تايمز»)
TT

ظلت إنجلترا على مدى عقود قبلة للأشخاص الراغبين في رفع قضايا القذف والتشهير حول العالم، حيث عرف الأثرياء الروس ورجال الأعمال السعوديون والشركات الدولية ومشاهير الأميركيين طريقهم إلى المحاكم البريطانية، حيث سهولة الإجراءات القضائية وتشدد قوانين التشهير في صالح المشتكين.

غير أن الحرج الناجم عن سمعة مدينة لندن بشهرتها كمدينة للتقاضي، والنقد اللاذع في المحاكم والهيئات التشريعية الأميركية، دفع المشرعين البريطانيين إلى التفكير بجدية في إعادة صياغة قوانين التشهير التي تعود إلى القرن التاسع عشر.

ويقوم أحد أفراد مجلس اللوردات في مجلس اللوردات على صياغة قانون بين ما يتضمنه الطلب من الأجانب إقامة الحجة تعرضهم للأذى الفعلي في إنجلترا قبل اللجوء إلى القضاء.

تقف قوانين التشهير البريطانية على طرفي نقيض من نظيرتها البريطانية في الكثير من الأوجه. ففي الولايات المتحدة يجب على المدعي أو المشتكي إثبات أن القضية موضع البحث كاذبة، ويلزم كذلك المسؤولين إثبات أن الأمر ناجم عن حقد، وعدم اكتراث للحقيقة. بينما في إنجلترا (لدى اسكوتلندا قانونها الخاص) يقع عبء الدليل على المتهم الذي يفترض خطأ أقواله والذي ينبغي عليه إثبات صحتها.

ولم تكن المؤسسات الإخبارية والصحافية هي الوحيدة التي اصطدمت بهذه القوانين، حيث دخل في ذلك علماء البيئة ومنظمات مكافحة الفساد والباحثون الطبيون وعشاق كرة القدم الذين يوجهون انتقادات لفرقهم على المدونات حيث تمت مقاضاة هؤلاء أو تعرضوا للتهديد بإمكانية اتخاذ خطوات قضائية ضدهم خلال السنوات الأخيرة.

أخيرا، صرح جاك سترو، وزير العدل البريطاني، بانزعاجه من تزايد «سياحة المقاضاة»، كما استمعت لجنة في مجلس العموم إلى مجموعة ممن اصطدموا بهذه القوانين والذين وصفوها بالتعسفية وغير العادلة والمكلفة والتي تعوق حرية الكلمة وعدم مسايرة القوانين للعصر الحالي في عصر يمكن الوصول فيه إلى المقالات على المواقع الأجنبية في أي مكان.

وقال بيان لاتحاد الصحف الأجنبية والناشرين ومنظمات حقوق الإنسان (كانت «نيويورك تايمز» أحد المشاركين في صياغته): «نحن نحمل جميعا قلقا أساسيا ومتزايد في إمكانية تأثير القوانين الإنجليزية الخاصة بالتشهير على عملنا بصورة غير حيادية وتعسفية».

ويكفي تعرض شخص للضرب في إنجلترا للحصول على تعويض بملايين الجنيهات الإسترلينية. وقال البيان إن قوانين التشهير الإنجليزية «تعارض المبادئ الدستورية الأميركية»، وأشار البيان إلى أنه نظرا للتكاليف المرتفعة لإجراءات التقاضي تفكر بعض الصحف الأميركية في التخلي عن التوزيع في إنجلترا وفرض حماية على الدخول إلى موقعها الإنترنتي من إنجلترا.

وكان أكثر من 20 ألف شخص من بينهم ريتشارد داوكينز، عالم التطور البيولوجي، قد وقعوا عريضة يقولون فيها إن القوانين تثبط النقاشات والمناظرات، ولا محل لها في النقاش العلمي.

وقال سيمون سنغ، مؤلف كتاب «فيرمت أنيغما»، الذي أدى رفضه الاعتذار أو عقد تسوية إلى دخوله في نضال قانوني مع اتحاد علاج العمود الفقري باليد، حول مقالة افتتاحية كتبها في الـ«غارديان» يتهم فيها هذه الجماعة بتشجيع العلاجات الكاذبة «ربما كان من الأسهل والأسرع والأبسط الاعتذار وعقد تسوية».

ورغم هذه القوانين أو ربما حتى بسببها، تحمل بعض الصحف البريطانية لقب الصحافة غير المسؤولة. فكتب نيغل تايت، شريك في مكتب كارتر ـ راك القانوني الذي يمثل غالبا المدعين في قضايا التشهير «لدينا صحافة حاقدة عدوانية هنا. وتسير الأمور بشكل طيب حتى يقوم أحد ما بكتابة خبر كاذب عنك».

ولأن هذا النوع من القضايا يتسم بأنه مكلف ومجهد، فإن بعض الأطراف المتضررة مثل صغار المشاهير يترددون في اللجوء إلى القضاء. ونتيجة لذلك تميل صحف الفضائح التابلويد إلى متابعة أخبارهم بدلا من رجال الأغنياء والأقوياء.

وقال جون كامبفنار، الرئيس التنفيذي لمؤشر الرقابة الذي أصدر في الآونة الأخيرة بالاشتراك مع مؤسسة «بن» الإنجليزية التي تشجع الأدب وحقوق الإنسان تقريرا حول التشهير بالسمعة «لي صديق يعمل رئيس تحرير لإحدى الصحف قال له مجلس إدارتها «لا تشن حملة على الأثرياء الروس فلا يمكننا تحمل نفقات قضاياهم».

وكان عدد من الولايات الأميركية، من بينها نيويورك، قد أقرت تشريعا يصعب من إمكانية تطبيق أحكام قوانين التشهير البريطانية في المحاكم الأميركية، كما يفكر الكونغرس في إقرار قانون مشابه.

وكان العامل المحفز للولاية في إقرار هذا القانون قضية الباحثة الأميركية راشيل إيرنفيليد التي قاضاها في المحاكم البريطانية الملياردير السعودي خالد بن محفوظ، بعد أن اتهمته بتمويل القاعدة في كتابها «تمويل الشر».

باع الكتاب 23 نسخة فقط في إنجلترا، لكن ذلك كان مبررا كافيا لـ«بن محفوظ» في تقديم قضيته للقضاء. وألزمت الكاتبة التي رفضت المشاركة في القضية أو المثول أمام المحكمة الإنجليزية بدفع ما يزيد على 225 ألف جنيه إسترليني.

وتبدو القضايا الأخرى أكثر غرابة، فقد تمت مقاضاة الأستاذ هانز غيسورارسون، الأستاذ في جامعة أيسلندا، والذي قاضاه جون أولافسون رجل الأعمال الأيسلندي بسبب ملاحظاته النقدية التي نشرها غيسورارسون قبل خمس سنوات على موقع الجامعة.

وقد ألزم غيسورارسون بدفع 55 ألف جنيه إسترليني، أي ما يعادل 89 ألف دولار، لأولافسون الذي انتقل إلى لندن، لكن القضية رفضت بعد ذلك عندما تبين أن المجلس الثقافي البريطاني في ريكيافيك لم يقدم الأوراق الأولية بصورة صحيحة.

وفي رد مثير للسخرية، قاضى أولافسون وزارة الخارجية، وربح عدة مئات الآلاف من الدولارات بناء على الحكم الذي حصل عليه هذا الخريف.

وفي قضية مشابهة، قاضت شركة «إن إم تي» الطبية في بوسطن طبيب قلب بريطانيا بسبب انتقاداته التي وجهها لأحد منتجاتها الطبية في مؤتمر في واشنطن في عام 2007.

ونشر مقال حول القضية على موقع الأخبار الطبية الأميركية على الإنترنت. وقال طبيب القلب البريطاني ويليام ويلمشورست إن محامي الشركة حذروه من أنه إذا لم يتراجع عن تصريحاته فسوف يقاضونه.

وقد رفض ويلمشورست الاعتذار أو التراجع وقال: «إن ما قلته يختص بالتجارب على الدواء وهو صحيح من وجهة نظري».

ورد ريك دافيس، مدير التشغيل في شركة «إن إم تي» بأن الشركة قاضت دافيس لأنه «اتهم الشركة بالتحايل في البحث وارتكب سلوكا حاقدا».

في ظروف مشابهة يخشى الكثير من المدعى عليهم من التدمير المالي، ومن ثم يلجأون إلى حذف هذه التعليقات المهينة من على الإنترنت ما إن يتلقوا إخطارات من المحامين.

ويمكن أن تكون تكاليف إجراءات التقاضي عالية جدا، فقد أنفق غيسورارسون 100 ألف جنيه إسترليني على القضية، مما اضطره إلى بيع منزله، أما ويلمشورست فقد أنفق المبلغ نفسه تقريبا.

كما أنفقت «غلوبال ويتنس»، التي تدعم قضايا البيئة وحقوق الإنسان، فقد أنفقت 50 ألف جنيه إسترليني في أقل من أسبوع لمحاولة التغلب على جهود دينيس كريستال ساسو نيغويسو ابن رئيس جمهورية الكونغو في إجبارها على إزالة تقرير من موقعها على شبكة الإنترنت تتهمه فيه باستخدام أموال العائدات النفطية لتمويل بذخه في الإنفاق.

وقال باتريك آلي، مدير «غلوبال ويتنس»: «لم يثننا الأمر، لكن طول أمد القضية يمكن أن يعمل على إفلاس المنظمة. لكن حتى وإن كان المدعون على خطأ فإن بإمكانهم إفلاسك».

* خدمة «نيويورك تايمز»