مشاهدات من «العراق الجديد» : بعد قرابة 7 أعوام على التغيير.. بغداد بلا أمن ولا كهرباء ولا هوية

سياسيون يشاطرون العراقيين انتظار المعجزات و«التحسر» على أيام صدام (الحلقة 1)

جانب من أحد أسواق بغداد العشوائية وقد افترش الباعة الطريق والأرصفة لعرض بضائعهم المتنوعة («الشرق الأوسط»)
TT

سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.

سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.

ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم إن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟

«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.

بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).

وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد». عندما قرر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بناء عاصمة إمبراطوريته، بغداد، سنة 710، أرادها أن تكون متميزة عن كل مدن الدنيا، فجعلها مدوّرة، وهي أول مدينة تبنى بهذا الشكل الهندسي، وأن تمتد طرقها وتتلاقى كي يربط بين أحيائها السكنية، واختارها على ضفاف نهر دجلة كي تكون زاهية ولا يشكو أهلها من العطش أو الجفاف، وسورها بأسوار يصعب اقتحامها لتكون آمنة. وعندما عرض عليه المخطط المنشأ من الرمل، طلب حبات من الكتان التي وزعها على المخطط وأشعلها ليتأكد من جمال مدينته وهي مزدانة بالضوء ليلا.

لكن باني بغداد، التي صارت قبلة العالم، وأعجوبته، لم يكن يفكر أن بغداد، وبعد ما يقرب من 1300 عام، سوف تفقد كل خصالها الجمالية، فهي اليوم بلا شكل هندسي بسبب الأبنية العشوائية التي انتشرت حولها وفيها، ولا تنعم بالأمن والاستقرار، وتشكو الجفاف وسوء الأوضاع الاقتصادية، وهي أكثر مدن العالم فقدانا للأمن والاستقرار، وفي الألفية الثالثة لا تتمتع بالطاقة الكهربائية، لهذا فإن غالبية شوارعها وأحيائها مظلمة.

القاسم المشترك الذي يجمع العراقيين اليوم هو الحديث عن غياب الخدمات والفساد المالي، وسوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية، لم يعد أحد يتحدث عن الاحتلال الأميركي وممارسات القوات الأميركية التي كانت تشغل غالبية العراقيين.

والأمر اللافت للانتباه هو أن غالبية المسؤولين الحكوميين، حتى بعض الوزراء في حكومة نوري المالكي، وبعض أعضاء مجلس النواب (البرلمان) العراقي، يشاركون مواطنيهم هذه الأحاديث ويعترفون بسوء الخدمات والأزمات الاقتصادية والأمنية ووجود ملفات متراكمة من الفساد المالي.

ثمة أمر آخر صار يجمع بين مدن العراق عامة، وأحياء بغداد خاصة، الراقية منها والفقيرة، وهو وجود تلال الزبالة أينما ذهبت، وانقطاع التيار الكهربائي، وشح الماء الواصل عبر الأنابيب إلى الدور. وإذا كانت هذه الأمور تتعلق بغياب أو سوء الخدمات، فإن ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فيمكن تأشير مسألة غاية في الأهمية، وهي ظهور الفوارق الطبقية بصور حادة، ففي السابق كانت هناك طبقة متوسطة، وهي طبقة الموظفين أو صغار التجار والحرفيين، بينما اليوم تتجسد في المشهد الاجتماعي العراقي بروز طبقة فاحشة الثراء، وأخرى مسحوقة بسبب الفقر والعوز. أما في ما يتعلق بالجانب الأمني، وعلى الرغم من كل ما يقال في الإعلام الرسمي العراقي حول تحسن الأوضاع الأمنية، فإن المقولة التي كان يرددها البغداديون «الداخل إلى بيته مولود والخارج منه مفقود»، لم تعد دقيقة في وصف المشهد الأمني، بل استنتج أهل بغداد اليوم أن الذي في داخل بيته وخارجه مفقود.

وحتى نعرف حقيقة الأوضاع الحياتية في بغداد كان علينا أن نسأل الناس الاعتياديين، أن نتحدث معهم عن قرب، بعيدا عن شعارات المسؤولين أو عناوين الإعلام الذي هو دائما مع هذه الجهة أو تلك، وضد جهة أو أكثر.

في مطار بغداد انتظمنا، كما في كل مطارات العالم المتمدن، في صف طويل بانتظار فحص جوازات سفرنا، «هذه الإجراءات تشمل حتى المسافرين العراقيين القادمين من محافظة البصرة أو من إقليم كردستان»، حسب توضيح النقيب عزيز، فجأة اقتحم طابور الانتظار مجموعة من الرجال الذين يزيد عددهم على العشرين شخصا، ذهبوا مباشرة إلى شباك الجوازات من غير أن يستأذنوا الآخرين، اعترض أحد المنتظرين قائلا: «يا إخوان اكو سرة (يوجد طابور) ونحن ننتظر قبلكم»، أجابه أحدهم وهو يرمقه بنظرة استغراب، وقال له: «نحن وفد حكومي ولا نتقيد بالسرة (طابور الانتظار)».

أحرج نقيب الشرطة وحاول تهدئة المنتظرين قائلا: «يا جماعة هناك أكثر من شباك لفحص الجوازات ولن تتأخروا إن شاء الله»، والتفت نقيب الشرطة إلينا، وقال معتذرا عن هذه التصرفات: «نحن نسعى إلى تطبيق القوانين، وأن يكون الناس هنا سواسية قدر الإمكان، لكننا نفاجأ بمثل هؤلاء الذين لا ندري فيما إذا كانوا من مكتب رئيس الوزراء أو أحد المتنفذين في الدولة»، وأردف قائلا: «تصوروا، قبل فترة ليست بعيدة عاد وفد حكومي ذو مستوى عال من زيارة إلى لبنان، واعترض أعضاء الوفد على تفتيش جوازاتهم، لكننا أصررنا على تفتيش وفحص جوازاتهم تطبيقا للقانون، وخلال فحص الجوازات اتضح أن بين أعضاء الوفد هناك تاجر إيراني قد جاء مع رئيس الوفد، وهو صديقه، والتقاه هناك ودعاه إلى زيارة بغداد من دون أن يحصل له على تأشيرة دخول من سفارة العراق في بيروت، وعندما رفضنا إدخاله إلى العراق تدخلت شخصيات حكومية تعمل في مناصب ومواقع حساسة من أجل الموافقة على دخوله، لكن وزارة الداخلية رفضت دخوله وطلبت من التاجر الإيراني العودة على متن الطائرة الثانية إلى بيروت، ففوجئنا بموظف في رئاسة الوزراء يأتي حاملا موافقة رسمية وتأشيرة دخول صادرة من بغداد، حيث دخل هذا الضيف وهو يرمقنا بنظرات المنتصر على القوانين العراقية النافذة، وعلينا».

وجدنا عمال المطار منشغلين بتنظيف أرضية قاعة الاستقبال من أتربة آخر عاصفة ترابية، كانت قبل ساعات من وصولنا، وكان عمال حمل الحقائب يجلسون بعيدا عن الحزام الناقل للحقائب، ولم يقترب أي منهم إلا إذا استدعاه المسافر، «هكذا تقتضي الأوامر والتعليمات الأمنية»، قال العامل الذي حمل حقائبنا بواسطة عربة حمل الحقائب المحلية الصنع، مضيفا أن «العمل حتى كحمال للحقائب هنا لم يعد سهلا، فنحن ندفع الرشا لمتعهد العمل ولبعض أفراد الأمن ولبعض موظفي المطار».

وبسؤاله عن اسمه والمنطقة التي يسكنها، أجاب باختصار «اسمي تحسين، وأسكن في البياع»، ثم ابتسم قائلا: «اسم تحسين خوش اسم، فهو لا يدل على أنه شيعي أو سني»، فقلنا له بأننا لم نسأله عن مذهبه، فهذه مسألة شخصية، فقال: «هنا في العراق يجب أن تعلن عن طائفتك ومذهبك، تصور عندما طلبت من أحد أصدقائي، وهو يعمل هنا قبلي، أن يجد لي عملا معهم، سألني المسؤولون عن الحمالين فيما إذا كنت شيعيا أو سنيا».

وتحسين، حسبما أوضح، كان قد أنهى دراسته الإعدادية، الفرع العلمي لكنه لم يتمكن من مواصلة دراسته الجامعية لكونه من عائلة فقيرة، قال شارحا أسبابه: «أمي كبيرة في السن ولي 4 أخوات أصغر سنا مني، وأنا العائل الوحيد لهم بعد أن قتل والدي لأسباب طائفية، مع أنه كان سائق سيارة أجرة». وقبل أن أودع تحسين لمح في يدي رواية «حفلة التيس» للكاتب ماريو بارغاس يوسا، وكنت قد اشتريتها من معرض للكتب نظمته دار «المدى» في أربيل، طلب مني هذا الشاب أن أعطيه الرواية بدلا عن أجرة نقل الحقائب، وقال: «أنا لا أستطيع الذهاب إلى شارع المتنبي لشراء هذه الرواية التي قرأت عنها الكثير»، ابتسمت ووضعت في يده الأجرة والرواية.

مشكلة عدم توفير الخدمات وأهمها الكهرباء والماء وتنظيف الشوارع وتنظيم حركة السير هي الغالبة في بغداد، وينسحب ذلك على بقية المدن العراقية والكبيرة منها خاصة. والشكوى تبدأ من سائق سيارة الأجرة الذي سيقلك من المطار إلى أي منطقة في بغداد، ولا تنتهي حتى في مجالس السياسيين والمتنفذين في الحكومة، ففي لقاء غير مخطط له جمعنا مع وزير الكهرباء العراقي، كريم وحيد، وهو مهندس كان يعمل أساسا في هذه الوزارة، في حديقة منزل الدكتور برهم صالح، عندما كان نائبا لرئيس الحكومة، تحدث وحيد عن همومه وهموم وزارته بالتفصيل، طالبا عدم نشر ما قاله لنا في «هذه الجلسة الودية»، على حد تعبيره.

لكن ما اعتبره وزير الكهرباء أسرارا لا يريد أن تتداول في الصحافة يعرفها العراقيون، بل يتم تداولها في الإعلام المحلي غير الرسمي، حسبما ذكر لنا زميل صحافي ورئيس تحرير صحيفة عراقية. قال: «هل يمكن لأي عاقل في العالم أن يتخيل أن أحد أزمات وزارة الكهرباء الحقيقية التي كادت تشل عمل الوزارة هي امتناع وزير النفط حسين الشهرستاني عن تزويد وزارة الكهرباء بالوقود (البترول)، بحجة أن هناك أموالا لوزارة النفط في ذمة وزارة الكهرباء ولم يتم تسديدها؟»، ثم علق ساخرا: «وكأن الوزارتين في حكومتين مختلفتين»، لكن «هذا جزء من الصراع على النفوذ والسلطة والأموال وتشويه السمعة»، حسب تحليل الصحافي العراقي.

ويستطرد هذا الصحافي الذي ترك العراق مؤخرا إثر محاولة لاختطافه، قائلا: «لي صديق يعمل مهندسا في وزارة الكهرباء، لا يذكر أمام الآخرين حقيقة مكان عمله تخلصا من الإحراج، بل إنه كاد يتعرض للضرب ذات مرة من قبل الناس عندما توقف بسيارته التي تحمل لوحة أرقام معنونة بوزارة الكهرباء، إذ أراد الناس أن يعبروا عن امتعاضهم من هذه الوزارة وراحوا يضربون السيارة ويشتمون من يقودها».

والموظفون في وزارة الكهرباء، بل في غالبية الدوائر الحكومية، لا يعطون أي معلومات تقيدا بقرارات صادرة من رئاسة الوزراء تشدد على عدم إعطاء أي معلومات للإعلام، لكن موظفا في دائرة المعلومات في وزارة الكهرباء، رفض نشر اسمه، أكد أن «الإدارة الأميركية كانت قد خصصت قبل عامين 4 مليارات و6 ملايين دولار لتحسين شبكة الكهرباء، وهذا يعادل ربع الميزانية المخصصة لإعادة إعمار العراق، بينما خصصت ميزانية الدولة ملياري دولار لوزارة الكهرباء عام 2007، وهي زيادة كبيرة على الميزانية التي كانت مخصصة لها عام 2006، وكانت 800 مليون دولار، لكن وزارة الكهرباء لم تحسن سوى 20% من الشبكة»، مشيرا إلى العلاقة المتداخلة بين وزارتي النفط والكهرباء، ذلك أن «75% من محطات الكهرباء تعمل بواسطة النفط والغاز، بينما 25% تعمل بواسطة الطاقة الهيدروجينية، وأن المحطات التي تدار بواسطة النفط تعاني الكثير من المشكلات بسبب ندرة الوقود أو تأخره عن الوصول إلى محطات توليد الكهرباء، وفي المقابل فإن مصافي النفط تعمل بواسطة الطاقة الكهربائية، وهذا يعني غياب أي من هاتين الطاقتين، أقصد تأخير الوقود أو الكهرباء، ولنا أن نتصور ماذا يعني غيابهما معا، الوقود والكهرباء».

عدم تحسن شبكة الكهرباء رغم المليارات التي أنفقت عليها أو خصصت لها يدفع العراقيين إلى اتهام وزارة الكهرباء بالفساد، وهذا ما يؤكده عضو البرلمان، ورئيس حزب الأمة العراقية مثال الآلوسي، بينما يقول عضو البرلمان والسياسي المخضرم، عدنان الباجه جي، إن «نسبة كبيرة من ميزانية الدولة والأموال المخصصة لإعادة الإعمار تنفق كرواتب لأعداد ضخمة من الموظفين وامتيازات المسؤولين، كما يسرق جزء كبير منها».

في مناطق كثيرة من بغداد أو بقية المحافظات لا تستطيع أن ترى السماء بوضوح، بل بصورة مخططة، خطوط سوداء تتخلل المشهد، تلك هي أنواع للمئات من الأسلاك الكهربائية التي تنطلق من ما يقرب من 5 آلاف مولدة حكومية أو أهلية لتزود البيوت بالطاقة الكهربائية مقابل أثمان مُبالغ فيها في أحيان كثيرة، حسب اعتراف عضو في المجلس السابق لمحافظة بغداد.

لهذا كله لم يتأخر أي عراقي عن شراء مولد للطاقة الكهربائية، إذا أسعفته ظروفه المالية، ففي سوق الكرادة ـ خارج (وسط بغداد، تعرض محلات بيع المواد الإلكترونية الكثير من أنواع هذه المولدات، التي أصبحت تجارتها رابحة تماما، وانتشر استخدامها منذ عام 1991، بعد أن دمرت القوات المتحالفة البنية التحتية للعراق.

ولدى دخول أحد المحلات الكبيرة المتخصصة في بيع مولدات الطاقة الكهربائية في الكرادة خارج، حيث صفت أنواع مختلفة من هذه المولدات وبألوانها الحمراء والصفراء والزرقاء فوق بعضها لتشكل جدارا أمام المحل، كان هناك أحد الزبائن، طه الجنابي (57 سنة)، وهو مدرس، محاولا شراء مولد بسعر مناسب، وفي إجابته عن سؤال حول ما يوفره هذا المولد من طاقة كهربائية، قال: «بالتأكيد هناك مولدات تعطي أمبيرات أكثر من الأخرى، لكن هذا يعتمد على سعة المولد وسعره، وهذا هو المهم، فأنا ادخرت نحو ألفي دولار، وأحاول أن أجد مولدا في حدود هذا السعر لسد جزء من احتياجات البيت من الطاقة الكهربائية، مثل تشغيل التلفزيون، وجزء من الإضاءة، والثلاجة والكومبيوتر، وجهاز تبريد واحد في الصيف»، منوها بأن «ما يوفره المولد المنزلي هو جزء بسيط من احتياجات المنزل للكهرباء، فالجزء الأكبر نشتريه من أصحاب المولدات الكبيرة الموزعين في الأحياء السكنية، وهؤلاء لهم أسعار صيفية وشتوية، وبين فترة وأخرى يرفعون سعر الأمبير بسبب ندرة الوقود المستخدم لتشغيل مولداتهم، وبالمناسبة فإن مشكلة ندرة الوقود، وخصوصا البنزين، يعاني منها أصحاب المولدات المنزلية أكثر من غيرهم».

ويوضح صاحب المحل أن «أسعار المولدات المنزلية تعتمد على مسألتين مهمتين، الأولى حجم الأمبيرات التي تولدها وتبدأ من 4 أمبيرات، وهناك حتى 16 أمبيرا، والثانية مصدر صناعة المولدات، فهناك الصينية والكورية، وهي الأرخص، وهناك الأميركية والبريطانية والهولندية والألمانية، وهذه أسعارها عالية كونها لا تتعرض للعطل بسرعة»، منوها بأن «الأدوات الاحتياطية لهذه المولدات متوفرة في السوق المحلية، وهناك الكثير من الورش التي افتتحت لإصلاحها، وهذا يعني أن هناك أيدي عاملة نشطت نتيجة انتشار استعمال هذه المولدات».

ويعبر صفاء الجبوري، وهو مدرس في إحدى الجامعات العراقية، عن امتعاضه من سوء الخدمات والأوضاع الاقتصادية والأمنية، قائلا: «كانوا يقولون إن صدام حسين كان يعاقب الشعب ويقطع عنه التيار الكهربائي كي يشغل الناس بهذه المعاناة، بينما ينفذ هو سياساته ضد العراقيين والجيران، واليوم نتساءل بعد 7 سنوات عما يسمونه الحكم الديمقراطي والحرية، أين الكهرباء والماء والاقتصاد الجيد والشوارع النظيفة المنظمة والحياة الآمنة الكريمة؟»، يهدأ قليلا ثم يستطرد قائلا: «بعد كل هذه السنوات لم نلمس ديمقراطية حقيقية، ونعاني من اقتصاد سيئ للغاية، وغياب جميع الخدمات، وفوق كل هذا فإن العراق هو على رأس قائمة الدول في موضوع الفساد المالي، فالمسؤولون يسرقون بالملايين أموال الشعب ولا يحاسبهم أحد».

هذا المدرس المتخصص في علم الاقتصاد لم يترك العراق خلال جميع أزماته وأصر على البقاء لتدريس طلبته حالما بغدٍ أفضل لبلده وشعبه، وعرف عنه أنه لم يكن في يوم من الأيام بعثيا أو من «الصداميين»، حسب المصطلح الذي تستخدمه الحكومة الحالية وأحزاب المعارضة الشيعية، نسبة إلى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، يقول الجبوري: «اليوم عندما نجاهر بهذه الأفكار يتهموننا بأننا بعثيون وصداميون من غير أن يقولوا بأننا عراقيون حقيقيون، وكنا نخشى بعد كل هذه التضحيات أن يشعر غالبية من العراقيين بالندم على رحيل النظام السابق رغم كل مآسيه، فتخيل إلى أي درجة من السوء أصبح العراق عليه».

وعندما نقلنا هذه الأفكار، خصوصا في ما يتعلق بندم بعض أو غالبية العراقيين على تغيير النظام السابق، إلى سياسي عراقي معروف كان معارضا بقوة لنظام صدام حسين ورئيس حركة سياسية كانت تعمل في الخارج، قال: «لا أخفيك بأنني أنا أحد هؤلاء النادمين، وأنا نادم مرتين، مرة لأنني عارضت صدام حسين، وأخرى لأنني عملت مع بقية الأحزاب المعارضة، واعتقدت أن الأميركيين سينقلون العراق إلى وضع أفضل».

الفساد الإداري والمالي هو بالتأكيد من سبب الفساد أو الخراب في الحياة العامة والشوارع في بغداد، إذ لا تجد اليوم في العاصمة العراقية أي شارع صالح للسير، وكأن بغداد عادت في الألفية الثالثة إلى عصر القرية، ولا تستغرب إذا وجدت العربات التي تجرها الحمير تسير وسط الشوارع الرئيسية في بغداد، مثل شوارع السعدون والرشيد والجمهورية، وهذه الشوارع مزدحمة السير دائما، وهي لم تعد صالحة للاستعمال منذ سنوات طويلة بسبب تحطم أرضياتها الإسفلتية والخرسانية، لكثرة ما داستها العربات والدبابات الأميركية طوال 7 سنوات، بينما الأرصفة محطمة تماما.

واحدة من أصعب المغامرات اليومية التي يخوضها البغداديون هي قيادة السيارة في شوارع بغداد، أي شارع بلا استثناء. ولدى خروجنا مع صديق في سيارته للذهاب من حي المنصور في الكرخ إلى حي الكرادة في الرصافة، تستغرق الرحلة في الظروف الاعتيادية أقل من 10 دقائق، باعتبار أن الجسر المعلق والمحتجز حاليا لخدمة المنطقة الخضراء مفتوح، ولكن بغياب خدمات هذا الجسر الحيوي يتوجب اتخاذ طريق آخر إلى جسر الجادرية مجتازين حي القادسية الذي يضم مساكن الوزراء وأعضاء البرلمان العراقي وأعضاء مجلس الحكم وكبار المسؤولين السابقين والحاليين، منذ أن تأسس مجلس الحكم وحتى اليوم، ضمن مجمع القادسية الذي كان قد بناه الرئيس الأسبق صدام حسين. وهذا يعني أننا توقفنا لمرات كثيرة مع خروج أو دخول أي مسؤول من وإلى هذا المجمع، يضاف إلى ذلك نقاط التفتيش المنتشرة بكثرة.

والغريب في أمر التفتيش هو العطر الذي تضعه، فالنصيحة التي يسديها إليك الأصدقاء هي أن لا تضع أي عطر إذا أردت أن تقود سيارة أو تنتقل بواسطتها، ذلك أن غالبية أفراد الشرطة أو الجيش الذين يعملون في هذه النقاط يحملون أجهزة صغيرة تشبه راديو الترانزستور، ويخرج منها هوائي (إريال) مثل الذي في الراديو، هذه الأجهزة تكشف وجود أو عدم وجود متفجرات أو مواد قابلة للتفجير في السيارة، إذ يحمل رجل الأمن هذا الجهاز الصغير ويدور حول السيارة، فإذا كنت تضع أي نوع من أنواع العطور سوف يعطي الجهاز إنذارا يشير إلى وجود متفجرات مما يدفع الحرس إلى إجراء تفتيش مفصل للسيارة، لهذا غالبا ما يسأل أفراد نقاط التفتيش كل من في السيارة، فيما إذا كان قد وضع عطرا أم لا؟ وغالبا ما ينصحون بعدم وضع العطور لأنها تربك عملهم.

وهناك أيضا معضلة الازدحام على جسر الجادرية الذي حل مكان الجسر المعلق وجسر الجمهورية الذي يغلق باستمرار لقربه من المنطقة الخضراء، وهكذا استغرق هذا المشوار البسيط، ذهابا فقط ما يزيد على الساعة ونصف الساعة، لكن المشكلة الأكبر كانت لدى العودة التي تزامنت مع انتهاء الدوام الرسمي للدوائر الحكومية وغير الحكومية، الثالثة بعد الظهر، حاولنا أن لا نكرر تجربة الصباح ونعود عبر جسر الجمهورية، لكن المشكلة هي أن هذا الجسر الحيوي للغاية الذي يربط بين الرصافة والكرخ في أكثر مناطق بغداد ازدحاما، بين ساحة التحرير وكرادة مريم، يتعرض باستمرار إلى الغلق، وهذا ما اكتشفناه عندما وصلنا إلى هناك، وبعد أن اجتزنا شارع السعدون. وكان الازدحام عند جسر السنك أشد وقعا، وقتذاك صار لا بد من العودة إلى جسر الجادرية، لكننا بقينا متوقفين عند ساحة كهرمانة في الكرادة لأكثر من 90 دقيقة، ولا أحد يعرف كيف يتحرك وإلى أين.

حصل هذا في ظل درجة حرارة تقترب من الخمسين، ونحن نتنفس التراب الناعم، الأحمر، فعندما جربنا تشغيل مكيف السيارة ارتفعت درجة حرارة المحرك، وعندما أغلقنا التكييف وفتحنا النوافذ هاجمنا التراب والحر، بينما كانت السيارات التي تطلق صافرات الإنذار ومحاطة بفريق من الحماية المدججة بالأسلحة وحدها قادرة على شق الطرق أو السير فوق الأرصفة من أجل أن تصل إلى هدفها، ذلك أنه من المهم أن لا يتوقف المسؤول في الشارع، وأن يصل إلى بيته قبل الآخرين، بينما يتسمر المواطنون في أماكنهم، عيونهم زائغة، تقرأ كل مشاعر الغضب في وجوههم التي تتصبب طينا، فعندما يختلط الغبار مع العرق النازف من مسام الجلد يتحول إلى طين، طين يغلف وجوه وأجساد العراقيين الصابرين.

وسط هذه الحالة كان هناك عمال يغيرون الأرصفة بأخرى جديدة، أقسم صاحبي وقال: «منذ ثلاثة أشهر وهم يعملون في هذا الرصيف، فبعد أن غيروه ودهنوه باللونين الأصفر والأسود، هدموه ثانية ورفعوا أنقاضه ليضعوا رصيفا جديدا باللونين الأصفر والأبيض»، ثم أضاف قائلا: «هناك طبقة جديدة ظهرت حديثا اسمها (مقاولون الأرصفة)، وآخرون (مقاولون الميادين العامة)، وغيرهما، هؤلاء جهلة وأميون واستطاعوا أن يحشروا أنفسهم في هذا العمل ويجنوا أموالا كثيرة، في حين أن المهندسين المقاولين الكبار لن يستطيعوا منافسة هؤلاء الأميين».

وأردنا نقل هذا الرأي لمهندس معماري معروف وله مكتب استشاري وشركة مقاولات قديمة وعريقة، في حي العلوية بجانب الرصافة من بغداد، وكان ينفذ مشاريع عملاقة في العراق. وبدخول مكتبه وجدناه يخطط، بالقلم الرصاص على الورق، بناية ضخمة افترض هو موقعها على شارع أبو نواس المحاذي لنهر دجلة. وبسؤاله عن متى سينفذ هذا المخطط، أجاب ضاحكا: «هذا تخطيط وهمي، خيالي، فأنا أشغل نفسي حاليا بالأوهام وأخطط أبنية ليس لها وجود على الأرض، أتواصل مع مهنتي عبر اللاشيء حتى لا أنسى الهندسة وعملي».

وعن سبب عدم تنفيذهم مشاريع حكومية كبيرة في بغداد وغيرها، قال: «نحن، أعني مجموعة من الاستشاريين والمكاتب الهندسية وشركات المقاولات العراقية الأصيلة والعريقة لا تتعامل مع الحكومة، فمنا من أغلق مكتبه وغادر إلى خارج العراق، ومنا، وأنا أحدهم، من بقينا في انتظار أن يحدث تغيير أو معجزة لتعود الأمور إلى نصابها ونشارك ببناء العراق».

وأضاف قائلا: «نحن أسسنا أسماءنا بعد جهود كبيرة ومشاريع رائعة، فأنا درست الهندسة في بريطانيا، وأسسنا لنا سمعة طيبة، أما اليوم فلا يقدم إلينا مشروع إلا بعد أن يفاوضنا مندوب الحكومة عن حصته من الرشوة، ونحن لا نتعامل بالرشوة مهما كان الأمر، ثم إن الحكومة لا يهمها نوعية العمل بل السرعة، وكم من الأموال سيضع الفاسدين في جيوبهم من هذا المشروع أو ذاك، نحن نريد تنفيذ مشاريع تبقى مع الزمن، أنا لي عمارات في شارع الجمهورية والسعدون، والعارفين بأمور العمارة يشيرون لها بالبنان باعتبارها من علامات بغداد المعمارية، وكذلك هناك إنجازات معماريين أمثال رفعت الجادرجي وقحطان عوني والمدفعي، لا نريد أن نبني عمارة تسقط على رؤوس ساكنيها بعد أشهر أو سنوات، ولا أن نمد شارعا يتكسر بعد أشهر، ولكن مقاولي اليوم فلا يهمهم أي شيء وليس لديهم ما يخسرونه، المهم عندهم هو جمع المال والانتقال من مهنة إلى أخرى، فاليوم هم مقاولون وغدا تجار، وهكذا».

لقد اشتغل أكثر من جيل من المعماريين الأصلاء، أمثال عدنان أسود، ومعاذ الآلوسي، وقحطان عوني، وقحطان المدفعي، ومحمد مكية، على تكريس الهوية المعمارية لبغداد، لكن العاصمة العراقية اليوم بلا هوية، بلا هوية معمارية وبلا هوية اجتماعية وبلا هوية ثقافية.