مشاهدات من «العراق الجديد»: أطباء يرفضون ترك العراق ويقولون: حراسنا هم من يغدر بنا

الصيادلة يشكون من ارتفاع أسعار الأدوية.. وبعضهم يبيعها فوق الرصيف (الحلقة 3)

عراقية تبيع الأدوية على الرصيف («الشرق الأوسط»)
TT

سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.

سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.

ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم إن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟

«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.

بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).

وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد». ربيع وصيف بغداد، بل جميع المدن العراقية، كانا ترابيين.. لم نسمع أي عراقي يردد أغنية سعاد حسني «الدنيا ربيع والجو بديع»، فالعواصف الترابية التي كانت لا تكاد تنقطع أجبرت الناس على أن يغلقوا أفواههم كي لا تترسب الأتربة في أمعائهم.

وبمعنى أكثر تحديدا فإن العواصف الترابية لم تكن تسمح بهبوط الطائرات في بغداد، أو في بقية المطارات العراقية، فربيع وصيف العراق هذا العام ازدحم بالتراب، بالعواصف الترابية، وكلما تطلعنا في الأنواء الجوية في العراق سنجد أن الطقس مغبر مع احتمالات هبوب عواصف ترابية، والغريب أن هذه العواصف تتوزع بصورة عادلة، لم تترك مدينة في جنوب أو وسط أو شمال العراق إلا ومنحتها حصتها من الغبار الأحمر الناعم الذي يلون فضاءات المدن بالأحمر الباهت.

عندما هبطت طائرتنا بسلام في مطار بغداد كان جميع العاملين قد وضعوا كمامات بيضاء على أنوفهم لتساعدهم على التنفس وتقلل من حجم الأضرار الناجمة عن تنفس التراب، وفي قاعات المطار كان العاملون منشغلين بالتنظيف وإزالة طبقات تراب العاصفة الماضية وهم يستعدون لاستقبال عاصفة أخرى. ويزداد المشهد الحياتي في بغداد تعقيدا عندما نعرف أن الناس يشكون ندرة الخدمات المتوافرة، خاصة الكهرباء والماء الصالح للشرب، وأن المستشفيات تفتقر للأجهزة الخاصة بمساعدة المصابين بالربو وضيق التنفس. في مساء اليوم التالي اشتدت العاصفة الترابية إلى حد صعبت معه الرؤيا على مسافة أقل من عشرة أمتار، حتى إن أحد الأصدقاء علق مازحا «أنت قادم من بلد الضباب إلى بلد التراب»، وبعد قليل اعتذر مني لأنه مضطر لنقل والدته البالغة السبعين من عمرها إلى مستشفى اليرموك (في جانب الكرخ من بغداد) بسبب شعورها بضيق في التنفس.

كانت تلك فرصة غير مخطط لها لزيارة المستشفى. كان طابور المنتظرين في قسم الطوارئ طويلا، بل طويلا جدا، وغالبيتهم كانوا يشكون من أمراض الربو وحالات صعوبة وضيق في التنفس، مرضى من مختلف الأعمار، أطفال ونساء ورجال وشيوخ، وكان صبر الأطباء المقيمين والممرضات الذين كانوا يواجهون عتاب ولوم المرضى برضا بالغ وهم يحاولون مساعدة الجميع، محل إعجاب. أحد الأطباء المقيمين، خريج كلية الطب في الجامعة المستنصرية، شكا من قلة الأجهزة الخاصة بمساعدة هذه الحالات، وقال «ما عندنا هنا أجهزة قديمة وقليلة جدا، مع أن هذه الأجهزة زهيدة السعر ومتوافرة حتى في الصيدليات والمذاخر الاعتيادية في العاصمة الأردنية عمان، وقد طالبنا وزارة الصحة مرات كثيرة لتوفيرها لكن لا أحد يصغي إلينا، وهذا حال بقية المستشفيات». وعندما شاهد على وجوهنا علامات الاستغراب، استطرد قائلا «لا تتعجبوا من ذلك، إذا كانت وزارة الصحة نفسها تزودنا بأدوية صلاحيتها قد انتهت، فكيف لنا أن نتصرف مع بقية الحالات؟ فهذا المستشفى ومستشفيات أخرى في عموم العراق تستقبل يوميا عشرات الجرحى جراء التفجيرات وحالات التسمم».

الأطباء في العراق هم الأبطال الحقيقيون، فغالبيتهم، خاصة الشباب، لم يترك البلد، وغالبية من ترك العراق منهم كان قد عاد. يقول الطبيب المقيم (ع. العزاوي) لقد «قاومت كل إغراءات ترك العراق، فنحن درسنا وتعبنا لنخدم هؤلاء الناس وليس لنتركهم لقدرهم.. قد يبدو كلامي مثاليا لكن صدقني أنا من عائلة متمكنة ماديا، ووالدي وإخوتي يعملون في التجارة ومقيمون في عمان منذ سنوات وكثيرا ما طلبوا مني الالتحاق بهم لكنني رفضت ذلك لشعوري بأني مسؤول عن هؤلاء المرضى».

وفي ظل غياب الكثير من الأدوية، خاصة تلك التي تخص الأمراض المزمنة مثل القلب وقرحة المعدة وغيرهما، فإن المتمكن ماديا يستطيع شراء هذه الأدوية وبسهولة من الصيدليات الكبيرة والفاخرة والتي تستورد الأجهزة الطبية والأدوية بصورة خاصة وتبيعها بأسعار عالية للغاية يعجز معها الكثير من المرضى عن شرائها. تقول صاحبة صيدلية كبيرة وفاخرة في شارع الكندي في منطقة الحارثية، حيث مركز غالبية الأطباء «نحن نستورد بعض المعدات والأجهزة الطبية والأدوية على حسابنا الخاص، وهناك فروقات في صرف العملة بين الدولار الأميركي والدينار العراقي، ثم إنني أدفع إيجارا مرتفعا جدا للصيدلية في هذا الشارع لهذا تأتي أسعار الأدوية أو المعدات الطبية غالية ويعتقد البعض أننا ننشد الربح فقط لكن سعينا لتوفير الأدوية غير الموجودة في الصيدليات الأخرى يعد مساعدة للمرضى، وهو ما نطمح إليه». وبالسؤال عن سعر علبة حبوب لمعالجة قرحة المعدة، فوجئنا بأن سعر العلبة التي تحتوي على 28 قرصا أو كبسولة أغلى من سعرها في لندن وعمان، ولكن بالسؤال عن العقار نفسه في صيدلية أخرى فوجئنا بسعر زهيد للغاية. وبرر الصيدلي هذا التفاوت بالقول «عندنا أدوية مصنوعة في مصنع الأدوية في سامراء، وهي جيدة جدا ومطابقة للمواصفات الدولية وجديدة، وهناك أدوية مصنوعة في الهند أو مصر أو الأردن وهي رخيصة أيضا، لكن بعض المرضى يعتقدون أن الأدوية المصنوعة في سويسرا أو ألمانيا أو بريطانيا، وهي غالية جدا، هي الأفضل مع أن جميعها لها المواصفات الكيماوية نفسها ومركبة من المواد نفسها، وقد تختلف طريقة التعليب، أو شكل العلبة ولونها والبلد المصنوعة فيه، وأنا أفضل عرض هذه الأدوية الرخيصة في صيدليتي ليتمكن الناس من شرائها مع أنه بإمكاني أن أستورد أدوية غالية الثمن، لكن إذا كانت كلها تعطي النتائج نفسها، فلماذا أحمل المريض عناء ومشقة دفع ثلاثة أو أربعة أضعاف السعر».

ويمتنع غالبية أصحاب المخازن الأهلية للأدوية، في منطقة البتاوين، من الإدلاء بأي معلومات تهم عملهم، ليس لأنها معلومات سرية، أو أنهم يخشون من الإعلان عن مصادر الأدوية التي يستوردونها من الخارج، بل «لأن المعلومة التي نقولها وتنشر في الصحافة تساوي حياتنا»، حسبما قال صاحب أحد المخازن العريقة والقديمة. وأضاف أن «نشر أسمائنا أو اسم المخزن أو الشركة يعني أن نتحول إلى أهداف سهلة للمسلحين أو للمعنيين في وزارة الصحة». لكن صاحب هذا المخزن أبدى استعدادا للحديث وقال «دعني ابدأ من السبعينات، حيث إننا في العراق نعتبر جزءا من هذا العقد هو العصر الذهبي، وكانت الشركة العامة للأدوية تزودنا بكل ما نحتاجه من أدوية وأجهزة طبية، وبأسعار مدعومة، حتى إن أغلى الأدوية كانت تباع في العراق بأسعار زهيدة للغاية لأنها كانت مدعومة من الدولة، يضاف إلى ذلك أن مصنع الأدوية في سامراء الذي بدأ ينتج خلال الثمانينات أدوية ذات مواصفات عالمية، كان يسهم في دعم عملنا ودعم المواطنين». يهدأ قليلا ليركز ذاكرته في سرد الحقائق، وقال «بدأت المشكلة في الثمانينات، مع الحرب العراقية الإيرانية، وبدأت تتأزم تدريجيا بسبب منافسة أو حاجة مستشفيات الجيش العراقي ومراكزه ووحدات ميدانه الطبية الكثيرة والمنتشرة في جميع أنحاء البلد، كانت تستهلك الكثير من الأدوية والأجهزة الطبية، لا سيما أن الحرب كانت تتسبب في الآلاف من الجرحى أسبوعيا وأحيانا يوميا، حتى اضطرت الدولة إلى تقنين الدواء والعمل وفق البطاقة التموينية للدواء، أو ما سمي وقتذاك بالأدوية الخاصة للأمراض المزمنة كالقلب وقرحة المعدة وارتفاع ضغط الدم والكولسترول، وهكذا، ومع ذلك لم تحدث شحة حقيقية في الأدوية لأن الدولة كانت تستورد ما يحتاجه العراقيون من الأدوية».

ويشير الصيدلي العراقي إلى نقطة مهمة أثرت كثيرا على الخدمات الطبية،وهي «الحصار الذي فرض علينا منذ عام 1991 وحرم العراقيين من الأدوية والمستلزمات الطبية، ناهيك عن الغذاء وبقية المستلزمات الحياتية، وقد بلغت شحة الأدوية مدى كان من الصعب تحمله، في حين أن الحصار لم يؤثر على النظام وأركانه وقتذاك إذ كان كل شيء يتوافر لهم، بالإضافة إلى مستشفى راق جدا ومجهز بأرقى المستلزمات الطبية وهو مستشفى ابن سينا الذي كان يقع بالقرب من القصر الجمهوري».

ثمة منافس غريب لمهنة الصيدلة. ففي ركن من الكرادة - داخل - كانت هناك امرأة تجلس فوق الأرض وتضع أمامها بعض علب الأدوية، استغربت الأمر تماما إذ لا يمكن لهذه المرأة أن تبيع الأدوية مثلما تباع علب السجائر أو قطع الحلويات وفق أسلوب (البسطية)، أي بسط المواد فوق الأرض وبيعها، إلى جانبها أنه كان هناك العشرات من الرجال الذين يبيعون الملابس بهذه الطريقة، موفرين على أنفسهم إيجار المحلات وخدمات الكهرباء والماء ودفع الضرائب.

اقتربت من (بسطية) الأدوية لأتأكد من صحة ما أراه، بادرتني المرأة التي تجاوزت الخمسين من عمرها وسألتني إن كنت أريد دواء للقلب أو لمعالجة ارتفاع الضغط، إنها تصرف أو تبيع الأدوية من غير أي وصفة، وتعرف الأدوية عن طريق شكل الحبوب أو لون العلبة أو الكبسول. وبسؤال (أم زهراء) عن مصدر هذه الادوية، قالت بلهجتها البسيطة التي لا تنم عن معرفتها بأي نوع من الأدوية أو على الأقل قدرتها على قراءة مفردة عربية «أنا أساعد الناس وأساعد نفسي كوني أعول أحفادي الذين اختفى والدهم (ابنها) منذ أكثر من ثلاث سنوات ولا ندري عنه أي شيء». وتضيف هذه المرأة التي وجدت في بيع الأدوية مهنة تساعدها على مقاومة الحاجة «الناس هنا يعرفونني، فأي شخص عنده دواء لا يحتاجه، خاصة أدوية الأمراض المزمنة، يأتيني به وأعرضه له وأبيعه ولي نسبة من السعر حسب اتفاق مسبق، وحصتي غالبا هي النصف، أي نصف الثمن لأنني أجلس هنا طوال اليوم وأتحمل الحر والبرد والتراب (العواصف الترابية)». وتستطرد (أم زهراء) قائلة «أنا أعرف أن الحبوب الخضراء هي علاج للقلب، ويسمونها حبة تحت اللسان، أما الحبوب التي علبتها زرقاء وبيضاء فهذه لعلاج ارتفاع الضغط»، منوهة بأن هناك زبائن دائمين يحصلون على الأدوية منها. كانت عيادات أطباء بغداد تتوزع حول ساحة النصر والمناطق والشوارع المحيطة بهذه الساحة، مثل شارع المشجر وجزء من البتاوين وبدايات شارع السعدون في جانب الرصافة من بغداد، ومنذ سنوات انتقلت غالبية هذه العيادات إلى شارع الكندي في حي الحارثية بجانب الكرخ. وحسب طبيبة أسنان في شارع الكندي فإن «بدلات إيجار العيادات هنا خيالية، وعلى الطبيب أن يدفع مبلغا كبيرا قد يصل إلى مائة ألف دولار ليحصل على شقة ضيقة يستخدمها كعيادة مقابل بدل إيجار شهري، تضاف إلى ذلك أجور توفير الطاقة الكهربائية من المولدات الخاصة، والحراسة وهذه التكاليف ستدفع بالطبيب إلى زيادة أجوره لفحص المريض، خاصة أن هذه الأجور غير محددة أو مثبتة من قبل نقابة الأطباء».

غياب الأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية والأوضاع الأمنية والاقتصادية السيئة أديا إلى إغلاق عدد غير قليل من المستشفيات الخاصة التي كانت تقدم خدماتها للمرضى مقابل أجور محددة، وهذا بالتأكيد أثر كثيرا على الأطباء أنفسهم من جهة وعلى المريض العراقي الذي يجد في المستشفى الخاص الحل الأفضل بدلا من السفر خارج العراق وإجراء العمليات الجراحية في مستشفيات عمان أو دمشق.

الدكتور فارس العاني، إخصائي الجراحة العامة منذ نهاية الثمانينات وكان يملك مع أطباء آخرين مستشفى خاصا أغلق بسبب «الظروف السيئة» التي يعيشها العراق، على حد وصفه.

يشرح أسباب غلق المستشفى قائلا «لقد واجهنا ظروفا قهرية لم تعطنا أي خيار للاستمرار، فنحن مجموعة من الاختصاصيين قررنا فتح هذا المستشفى ليس من أجل ابتزاز المريض، وإنما لمساعدته، وأيضا لنعمل بعيدا عن بيروقراطية وزارة الصحة، حيث كنا نلتزم بالأجور المحددة من قبل نقابة الأطباء، ونحرص على ألا نحمل المريض الكثير من الأجور، لكن النواقص التي كانت تزداد قائمتها يوميا دفعتنا إلى طريقين لا ثالث لهما، إما أن نستورد وبالعملة الصعبة الأدوية وعقاقير التخدير والأجهزة الطبية التي نحتاجها لاستمرار عملنا، وبذلك ستكون الأجور مضاعفة وعالية للغاية ولا يتحملها كاهل المريض الاعتيادي، أو نغلق المستشفى كي لا نوصف بالجشع والابتزاز، يضاف إلى هذا الوضع الأمني السيئ الذي تطلب منا تعيين حراس ورجال أمن برواتب عالية للحفاظ على أمننا وحياتنا بعد أن صار الأطباء أهدافا سهلة للاختطاف أو القتل من غير أن تتدخل الأجهزة الأمنية الحكومية في هذا الموضوع».

يصمت هذا الجراح الذي وهب أكثر من نصف عمره في دراسة الطب والعمل في هذه المهنة الإنسانية، ثم يستطرد قائلا «تصور أن إحدى حالات الاختطاف شملت أستاذي في كلية الطب بجامعة بغداد، وهو بروفسور ومن القلائل في اختصاصه الجراحي، حيث كان يجري عملية دقيقة جدا لمريضة شابة في مستشفى عام (حكومي) عندما دخل عليه مجموعة من المسلحين واقتادوه إلى الخارج رغم توسلاته لهم بأن ينهي العملية لإنقاذ المريضة المسكينة، وبالفعل تم اختطافه وماتت المريضة رغم محاولات مساعدي الجراح لإتمام العملية. بعد أسبوع من اختطافه دفعت عائلته فدية تتجاوز المائة ألف دولار، وعاد محطما جسديا ونفسيا، وتقاعد عن العمل ليهاجر بعدها إلى خارج البلد».

العاني متفرغ الآن تماما لعمله في مدينة الطب، أكبر مستشفى في العراق، والذي يقع على نهر دجلة في جانب الرصافة من العاصمة العراقية، ويقول «نحن نشعر في غالبية الأحيان والحالات بالحرج من المرضى الذين هم بحاجة إلى مداخلات جراحية سواء كانت معقدة أو بسيطة، وسبب حرجنا هو عدم توافر بعض الأدوية أو المستلزمات الطبية، ناهيك عن قائمة، أو قوائم الانتظار الطويلة لمرضى هم اشد الحاجة لإجراء مداخلات جراحية لهم».

في السابق، قبل الاجتياح الأميركي للعراق، كان هناك مستشفى خاص للرئيس الأسبق صدام حسين وأعضاء قيادته وعوائلهم، كان هذا المستشفى يدعى (ابن سينا)، واليوم تشرف القوات الأميركية على مستشفى ابن سينا لوقوعه داخل المنطقة الخضراء، حيث تحول إلى وحدة ميدان طبية عسكرية أميركية. سألت الدكتور العاني عن المستشفيات التي يذهب إليها المسؤولون في الدولة وعوائلهم في بغداد.. ابتسم الدكتور العاني بسخرية مرة، وقال «ليس لهم مستشفى معين، لأنهم ليسوا بحاجة إلى مستشفيات بغداد حيث يعرفون أوضاعها والنقصان الذي تعانيه هذه المستشفيات في كل شيء بما فيها النظافة، لهذا هم يذهبون إلى المستشفيات الأوروبية أو الأميركية، هذا بالنسبة لمن يحمل منهم جوازات سفر أوروبية أو أميركية، ومن لا يحمل هذه الجوازات فإنه يتجه إلى عمان أو إلى دمشق أو طهران أو أنقرة، وحسب الاتجاه السياسي أو ولاء عضو البرلمان أو المسؤول الحكومي لهذه الدولة أو تلك».

العاني كان قد شارك خلال الأعوام 2005 و2007 في مؤتمرات طبية علمية أقيمت في بريطانيا والولايات المتحدة، وعاد إلى بغداد، وقد قال «أنا سافرت بجواز سفري العراقي إذ ليس لي سوى هذا الجواز، وحصلت على تأشيرات دخول اعتيادية وعدت إلى بلدي ومدينتي، ولم أبق طويلا هناك، وقد ازددت خبرة من خلال هذه المشاركات، كما تصلني بحوث ودوريات طبية ترصد التطورات العلمية في مجال عملنا، وإذا كانت هذه الفرص قد توافرت لبعض الأطباء العراقيين من خلال جهودهم الشخصية، فإن الغالبية العظمى من زملائنا محرومون تماما منها بسبب الإمكانات المالية وعدم تمكنهم من الحصول على تأشيرات دخول (فيزا) إلى أوروبا والولايات المتحدة».

وبسؤاله عن سبب عدم مساهمة نقابة الأطباء أو وزارة الصحة في إرسال عدد من الأطباء العراقيين إلى دول أوروبية أو إلى الولايات المتحدة لاكتساب خبرات علمية إضافية، صمت الدكتور العاني وراح يحدق بالفراغ ولسان حاله يقول أشياء كثيرة، ثم قال «النقابة لم تنجز أي شيء للأطباء، بل إنها لم تبد أي مجهود حقيقي لجرائم اغتيال واختطاف وتهجير الأطباء، أما وزارة الصحة فهي منشغلة بأمور كثيرة إلا الاهتمام بالصحة وبالمستشفيات».

وتعد مدينة الطب، ببنايتها الكبيرة والمطلة على نهر دجلة مباشرة في جانب الرصافة من بغداد، أكبر مؤسسة طبية في العراق وهي من مشاريع مجلس الإعمار الذي كان قد تأسس في عهد نوري السعيد، رئيس حكومة المملكة العراقية، لكن المشروع تم الانتهاء من تنفيذه في بداية السبعينات، وكانت هذه المدينة تعد الأكثر تطورا وسعة من حيث التجهيزات الطبية ورفاهية الصالات المخصصة للعلاج واستقبال المرضى، لكن خدماتها تراجعت بصورة مأساوية منذ بداية التسعينات.

وحسب طبيب عراقي يعمل في مدينة الطب، فإن «أسوأ الفترات التي مرت بها هذه المؤسسة الضخمة كانت منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003». وأضاف «يكفي أن نعرف أن بناية الوزارة كانت قد تحولت إلى معتقل مجهز بأدوات التعذيب وإخفاء الضحايا خلال الاقتتال الطائفي». وعن احتياجات الأطباء في مدينة الطب، يقول الطبيب العراقي «إضافة إلى النقص الكبير والحاد في الأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية وعدد الأطباء وسوء الخدمات فإن الأهم هو حماية الأطباء من الاغتيالات والاختطاف والاعتداءات عليهم من قبل بعض المراجعين»، كاشفا عن أن «غالبية حراس مدينة الطب كانوا من (العلاسة)»، و(العلاسة) مفردة شعبية ولدت بعد الاحتلال ومفردها (العلاس) وهو الشخص الذي يشي أو يعطي معلومات دقيقة، أو يدل الإرهابيين أو عصابات جرائم الاختطاف عن أي شخص، طبيب أو مهندس، أو عراقي عائد من الخارج أو غني، لغرض اختطافه، وينال (العلاس) مبلغا من المال جراء هذه المعلومات. وهناك الكثير من القصص حول حراس العيادات الطبية والمستشفيات الذين تعاونوا مع عصابات الخطف والإرهابيين مقابل مبالغ من الأموال تصل في بعض الأحيان إلى عشرة آلاف دولار مقابل عنوان طبيب أو تسهيل مهمة وصول عصابة إجرامية إلى عيادة طبيب أو المستشفى.

ومن أجل أن يحمي بعض الأطباء أنفسهم ويأمنوا على حياتهم قاموا بتعيين حراس أمنيين شخصيين يدفعون لهم أجورا عالية.