«ضمير» الثورة الإيرانية

منتظري.. ضحى بمنصبه من أجل مبادئه.. الخميني وصفه بأنه «ثمرة حياتي».. عارض إهدار دم سلمان رشدي

TT

يعتبر آية الله حسين علي منتظري أحد مهندسي الثورة الإسلامية التي تفجرت عام 1979 ومن كبار منظريها إلى جانب زعيمها الراحل آية الله الخميني، الذي كان يصفه بأنه «ثمرة حياتي»، كما يعد أحد واضعي دستور الجمهورية الإسلامية، وصار فيما بعد ضميرها الصاحي، الذي ارتفع صوته منددا بالانتهاكات والخروقات طيلة 30 عاما.

وقد كان قاب قوسين أو أدني من خلافة الخميني كزعيم أعلى لإيران، كما كان يتردد في فترة الثمانينات، إلا أن انتقاداته لولاية الفقيه التي يستمد منها النظام الإيراني شرعيته، وتمسكه بمبادئه ومواقفه المناهضة لكثير من سياسات الثورة، ومن بينها انتهاكات حقوق الإنسان وتعرض أعداد من السجناء المعارضين للإعدام، كانت السبب المباشر في قيام الخميني بتجريده من مناصبه في مارس (آذار) 1989، وإبعاده عن الخلافة كزعيم أعلى في إيران، ليتولى المنصب بدلا منه الزعيم الأعلى الحالي آية الله علي خامنئي عندما توفي الخميني. وبات منتظري منذ ذلك الحين أحد أشد المنتقدين لحكام الخط الثابت. وأصبح منتظري مصدر إلهام لدعاة حقوق الإنسان والجماعات المنادية بالإصلاح واعتبره أتباعه أعلى سلطة شيعية في إيران. وعارض منتظري تركيز السلطة في أيدي المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية ودعا إلى تغيير الدستور الذي ساعد في وضعه عقب الثورة الإسلامية، للحد من سلطة المرشد الأعلى. وانتقد منتظري في العديد من المناسبات الرئيس الإيراني بسبب سياساته الداخلية والخارجية بما في ذلك موقفه من الأزمة بين إيران والغرب بسبب البرنامج النووي. كما دعا العديد من رجال الدين البارزين إلى الخروج عن صمتهم حيال انتهاكات حقوق الإنسان خلال حملة القمع التي شنتها الحكومة ضد أنصار المعارضة في الاحتجاجات التي أعقبت فوز أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية بفترة ولاية ثانية والذين قالوا إن الانتخابات كانت مزورة. كما شكك بالمؤهلات الدينية للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الحالي آية الله علي خامنئي، مما اعتبر خيانة أدت إلى فرض الإقامة الجبرية عليه عام 1997.

ودان منتظري في 16 ديسمبر (كانون الأول) «موت الأبرياء» و«توقيف المطالبين بالحرية» و«المحاكمات الصورية غير الشرعية» للمعارضين. وقال في التصريحات التي نشرها موقعه الإلكتروني «إذا واصلت السلطات نهجها هذا فمن الواضح أن الشعب سيبتعد تماما عن النظام وأن الأزمة الحالية ستشتد». وفي الأشهر التي تلت الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل، قال إن الجمهورية الإسلامية «لا هي إسلامية ولا جمهورية»، وأن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، فقد شرعيته. وقبل أسبوعين فقط حذر من أن ميليشيا الباسيج التي قمعت بقسوة المسيرات في الشوارع «تخلت عن مسار الله لمسار الشيطان». ودأب منتظري على لقاء دعاة الإصلاح وحقوق الإنسان الذين كانوا يطلبون رأيه في القضايا السياسية والدينية.

ورغم أن تصريحاته نادرا ما كانت تنشر في الصحف الإيرانية، إلا أن آراءه والمقابلات التي كانت تجري معه كانت تنشر على موقعه الرسمي على الإنترنت وكذلك في وسائل الإعلام الأجنبية وتلك المتحدثة باللغة الفارسية خارج إيران.

وأثار منتظري الجدل عندما دعا إلى محادثات مباشرة بين طهران وواشنطن لتجنب حدوث نزاع بشأن عمليات تخصيب اليورانيوم التي تقوم بها طهران. ووصف منتظري حصار السفارة الأميركية في طهران عام 1979 بأنه «خطأ» رغم أنه اعترف بدعمه لتلك الخطوة في ذلك الوقت. وقال منتظري إن «احتلال السفارة الأميركية لقي في البدء دعم الثوريين الإيرانيين والإمام الخميني، وأنا بنفسي دعمته». وأضاف «ولكن نظرا إلى التداعيات السلبية والحساسية البالغة التي نجمت عن هذا العمل لدى الشعب الأميركي، والتي لا تزال موجودة حتى اليوم، فإن القيام بهذا العمل لم يكن صائبا». وتابع المرجع إنه «في المبدأ أن سفارة بلد ما تعتبر جزءا لا يتجزأ من هذا البلد، واحتلال سفارة بلد ليس في حرب معنا هو بمثابة إعلان حرب على هذا البلد. هذا ليس أمرا صائبا». وأضاف «بحسب معلوماتي فإن بعض من قادوا هذا العمل أقروا بأنه كان خطأ».

ولد آية الله حسين علي منتظري في أسرة ريفية بمدينة نجف آباد التابعة لإقليم أصفهان الإيراني عام 1922، التي بدأ فيها دراساته الدينية الأولى. ثم انتقل بعدها إلى مدينة قم حيث تتلمذ وتعلم أصول الدين على يد الإمام الخميني، ليصبح بعدها معلما بمدرسة الفائزية الدينية. ومنها لبى نداء معلمه الخميني لـ«الثورة البيضاء» ضد الشاه محمد رضا بهلوي عام 1963، ومن ثم أصبح أحد الناشطين في دائرة المناهضين الدينيين للشاه.

وبعد قيام الشاه بنفي الخميني، تربع منتظري على رأس المرجعية الشيعية الإيرانية التي أسسها الخميني لمحاربة الشاه، لكنه تعرض للسجن عام 1974، وصدر ضده حكم لم ينفذ بالإعدام عام 1975، إلى أن أطلق سراحه وقت الثورة الإسلامية في إيران.

ومنتظري قانوني إسلامي بارز، وهو صاحب كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»، الذي يشير إلى مبدأ ولاية الإمام في العرف الشيعي الإيراني، الذي صار المذهب الرسمي للدولة، لكنه في ذات الوقت يؤكد أن هذه المرجعية دينية واسترشادية لصاحب السلطة، وأن السلطة يجب أن تختار من قبل الشعب الحر، وأن سلطات «الفقيه» ليست مطلقة. وشيئا فشيئا، بدأ الخميني في تحويل بعض سلطاته، كمرشد أعلى للثورة الإيرانية، بداية من عام 1980. وبعد ثلاثة أعوام، كان من السهل ملاحظة صورة صغيرة لمنتظري تجاور أخرى عملاقة للخميني في كل المؤسسات الحكومية الرسمية بإيران، بكل ما قد يعنيه ذلك التجاور الرمزي من معان واقعية. إلى جانب قيام منتظري بإمامة صلاة الجمعة في قم كنائب عن المرشد الأعلى. وبعد رفض أولي لرغبة الخميني في أن يخلفه منتظري، إيمانا منه بأن مثل تلك الخلافة لا بد وأن تكون من خلال المجلس الأعلى للثورة، إلا أنه تراجع ووافق بعدها ليسمي رسميا خليفة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في عام 1985.

ورغم رغبة الإمام وقرار المجلس، فإن منتظري كان يستشعر دائما أنه اختير لهذا المنصب لسبب واحد.. أنه تلميذ الخميني النجيب. ثم بدأ هبوط منتظري بسبب علاقته بمهدي هاشمي، وهو أحد معاونيه المسؤولين عن تصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج. وبعد تسريب مهدي لمعلومات حساسة عن صلات بين أكبر هاشمي رافسنجاني وفضيحة إيران - كونترا، تم القبض على مهدي وإعدامه عام 1987 بتهمة القيام بنشاط معاد للثورة. ومع نهاية العام زادت أوجاع منتظري، وانفلج الشق بينه وبين أعضاء المجلس الشيعي، مع مطالبته بإعادة تقييم الثورة الإيرانية وتقنين السلطة ووقف تصدير الثورة، قائلا إن إيران يجب أن تكون مثلا يحتذى ويقتدى به روحيا لا من خلال تسليح وتدريب القوات الأجنبية. وكان رد فعل الخميني انتقاديا حادا، مع دعوة للمجلس الشيعي الأعلى لـ«مسألة» منتظري. ولم تهدأ الأمور بعدها، وازدادت اشتعالا بعد الإعدام الجماعي لآلاف المناهضين عام 1988، فانتقد منتظري أفعال الخميني علنا في دروسه، وانتقد فتواه بإهدار دم الكاتب «سلمان رشدي» قائلا «إن العالم ينظر إلينا الآن على أننا سفاحون»، مما أنهى مستقبله السياسي.

وعندما فاض الكيل بالخميني، أعلن عام 1989 أن منتظري قد استقال من جميع مناصبه، كما تم سحب لقب آية الله عنه، ووقف نشر أعماله أو حتى الإشارة إليه في وسائل الإعلام الرسمية. ولم يعترض منتظري على الأمر، بل نشر رسالة عن لسانه مفادها أنه يطالب الجميع بتقبل الأمر. وبعد وفاة الخميني عام 1989، تم تنصيب السيد على خامنئي، الذي كان يحظى بمعارضة كثير من الشيعة وعلى رأسهم منتظري، كمرشد أعلى. ومن ثم انتشر تساؤل، اتهم منتظري بالوقوف خلفه، عن مدى أحقية خامنئي بالولاية. وفي عام 1997 تم وضع منتظري قيد الاعتقال بالمنزل، بحجة حمايته من مناصري آية الله خامنئي. واستمر الوضع حتى عام 2003، حين أنهاه الرئيس محمد خاتمي بعد نداء من أكثر من مائة مرجع شيعي، في خطوة فسرها البعض بأنها حماية للمؤسسة الإيرانية من هجوم شعبي مرتقب في حال وفاة منتظري وهو رهن الإقامة الجبرية.

واستمر منتظري في إثارة الجدل والمشكلات في الداخل الإيراني، عندما انتقد علنا سياسات محمود أحمدي نجاد الاقتصادية والنووية عام 2007، متهما إياه بإثارة المشاكل مع العالم وانتهاج أسلوب استفزازي، مع كامل قناعته بأحقية إيران في امتلاك التكنولوجيا النووية، وطالبه عوضا عن ذلك بسلك الطرق السلمية والأخذ بناصية الحكمة في التعامل مع الأمور.

وكانت آخر المشكلات التي أثارها الرجل قبيل وفاته، مشكلة الانتخابات الرئاسية الإيرانية عام 2009. ففي ذروة الاعتراضات الشعبية على إعادة تنصيب أحمدي نجاد على رأس الدولة، خرج منتظري - المؤيد للمرشح الخاسر مير حسين موسوي - ليطعن في نزاهة الانتخابات ومتهما نجاد ورجاله بالتزوير العلني الفاضح، ومطالبا الشعب بالاعتصام والحداد والنحيب مدة ثلاثة أيام عقب مقتل ندا أغا سلطان وآخرين في أحداث الثاني والعشرين من يونيو (حزيران) الدامية. ثم كان التصريح الأخير للرجل وهو على فراش الموت، حين قال في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي قبيل الاحتفالات بالذكرى الثلاثين لأزمة الرهائن الإيرانية، إن احتلال السفارة الأميركية عام 1979 كان خطأ كبيرا.