أصوليو مالي.. التمويل من فدية اختطاف الغربيين وعمليات تهريب الكوكايين

عدد الأئمة الأجانب في تزايد مستمر.. والدولة لا تسيطر بشكل كامل على ما يقال في المساجد

TT

لقد كانت رمال الصحراء التي تمتد شمالا من ذلك المكان الخرافي تمثل دائما طريقا تجاريا ونقطة التقاء ثقافي، ولكنها شهدت خلال العام الماضي بعض الظواهر التي تنذر بتحولها لمعقل نشر التوجه الإسلامية المتطرفة إلى الأجزاء المعتدلة في غرب أفريقيا.

وقد شهدت تلك المنطقة هجمات متزايدة اشتملت على: مقتل مدرس أميركي، وعملية انتحارية في موريتانيا، واختطاف دبلوماسي كندي في النيجر، بالإضافة إلى قتل سائح بريطاني، وزعيم مالي. وقد نسبت كل تلك العمليات إلى فصيل تابع لـ«القاعدة» يتكون في معظمه من الجزائريين الذين توجهوا جنوبا للاستقرار في المناطق المدنية بموريتانيا وتأسيس قاعدة لهم في صحراء مالي.

يذكر أن مالي كانت حتى الآن تتسم بالاعتدال، حيث يشجب معظم سكانها الآيديولوجيات المتطرفة ويعتبرونها دخيلة ووحشية. ولكن على نحو ما أصبحت مالي نقطة الاختبار، فبعد ما قبلت الحكومة عشرات الملايين من الدولارات كمساعدة أميركية، تستهدف الدفاع عن ما يقول عنه المسؤولون الأميركيون بأنه تهديد متزايد من الراديكاليين في بعض أجزاء أفريقيا التي يمثل المسلمون فيها الغالبية. من جهته قال أحد المسؤولين في وزارة الخارجية عن تلك الجماعة المتطرفة المعروفة بـ«القاعدة في المغرب الإسلامي»: «لا تجد هذه الجماعة قبولا بين السكان المحليين». ولكنه أكد: «أن المشكلة تفاقمت خلال العام الماضي وأصبحت تسترعي الانتباه».

يذكر أن المشروبات الكحولية يتم تقديمها في هذه الدولة العلمانية، كما يشيع لعب القمار. بالإضافة إلى انتشار صور الرئيس أوباما في كل مكان، وتضاؤل انتشار الإحساس بمعاداة أميركا بين أفراد الشعب المالي، ولا يوجد سوى عدد قليل من النساء اللاتي يرتدين الحجاب. فيقول محمود ديكو، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، المجموعة الأم للكثير من المنظمات الدينية في العاصمة، باماكو: «لا نريد إقامة جمهورية إسلامية هنا.. ولا نريد تطبيق الشريعة.. ولا نريد قطع أيادي الناس».

وعلى الرغم من أن الاتجاه المهيمن هنا هو الاتجاه المحافظ اجتماعيا والمتسامح في الوقت نفسه، فإن عدد الأئمة الأجانب في تزايد مستمر كما أن الدولة لا تسيطر بشكل كامل على ما يقال في المساجد، وفقا لدبلوماسيين أجانب.

ومن جهة أخرى، لا يستطيع الجيش الضعيف مواجهة المتطرفين الذين يعبرون الحدود الصحراوية بسهولة ويسر. وذلك حيث إن دورات التدريب المستمرة التي يقوم بها الجيش الأميركي للقوات المالية - التي تعد جزءا من خطة خمسية ضمن برنامج لمواجهة الإرهاب تقدر ميزانيته بنحو 500 مليون دولار في 10 سنوات في تلك المنطقة - أثبتت أنها ليست فعالة بما يكفي، وفقا لأحد الدبلوماسيين في باماكو.

وقد انتشرت الجماعة التي ترتبط بتنظيم القاعدة والتي انبثقت عن الحركة القومية الجزائرية في المنطقة تحت وطأة الضغط العسكري الجزائري وأطلقت على نفسها «جناح القاعدة» في 2007.

وعلى الرغم من أن المحللين الأمنيين والمسؤولين الغربيين يؤكدون أن علاقة تلك الجماعة بتنظيم القاعدة ليست سوى علاقة رمزية، وأن قدرتها على ضرب أهداف خارج المنطقة أو إضعاف الحكومات هي قدرة محدود للغاية، وأجج الانقلاب الأخير في موريتانيا المجاورة والانتخابات المزورة في النيجر، عدم الاستقرار الإقليمي.

يذكر أن المتمردين في الصحراء يحصلون على معظم التمويل الذي يحتاجون إليه من اختطاف الغربيين والحصول على فدية، مما يجعلهم، وفقا لبعض المحللين، أقرب إلى كونهم عصابة تسعى وراء الربح لا فصيلا أيديولوجيا من المجاهدين الذين ما زالوا يتمركزون في الجزائر.

ولكن وفقا لبعض المعايير، أصبحت الجماعة أكثر جرأة وأكثر آيديولوجية، فقد نفذت عملية إعدام السائح البريطاني في مايو (أيار) بعد أن باءت مطالبها بإطلاق سراح الشيخ الأردني السجين في بريطانيا بالفشل.

وبعد فترة طويلة من الابتعاد عن المدن الرئيسية في مالي - الذي يصفه الغربيون بأنه اتفاقية تكتيكية مع الحكومة لتجنب العنف - اغتالت الجماعة ضابطا بالجيش في تمبكتو، ثم قتلت أكثر من 12 من الشرطة المالية والقوات شبه العسكرية التي ذهبت للانتقام من قاتليه. وخلال الشهر الماضي، اختطفت الجماعة رجل فرنسي في مدينة مناكا الشمالية.

ومن جهة أخرى، يقول مسؤولون أميركيون إن الجماعة تبذل جهودا حثيثة لتجنيد المزيد من المتمردين في دولة موريتانيا ذات الأغلبية العربية. ولكن لا يوجد دليل على أن المتمردين يقومون بعمليات تجنيد نشطة في مالي أو في معظم الدولة المجاورة، وفقا للمسؤولين.

جدير بالذكر أن تمبكتو - مدينة صغيرة يختلط فيها الرعاة البدو بالتجار والطوارق المعممين بالعمم الزرقاء - تفتخر بتاريخها كمركز قديم للدراسات الإسلامية، كما يستدعي الحديث حول الحرب الدينية نظرة حائرة للغاية هنا. ولكن بعض القادة يخشون التقاء الفقر بطريقة غير متوقعة هنا، بالإضافة إلى أن أموال المتطرفين سيظل لها إغراؤها الذي ربما تفتقر إليه آيديولوجيتهم. وذلك حيث إن الهواتف الفضائية ونظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) سهلا على الأجانب استكشاف تلك المناطق، كما تحولت عمليات تهريب السجائر عبر الكثبان الرملية إلى عمليات تهريب للكوكايين، بالإضافة إلى أن انتشار الجفاف جعل من الرعي نشاطا صعبا، كما أن متمردي تلك الجماعة أصبحوا يتزوجون من العائلات البدوية، وفقا لما قاله الكولونيل ممادو مانغارا، حاكم المنطقة الواسعة من تبمكتو وحتى الحدود الشمالية مع الجزائر. يوم الجمعة، وجه المدعى العام الأميركي اتهامات قضائية ضد 3 من الماليين، جميعهم رجال في الثلاثينات من العمر، تم اتهامهم بالاشتراك في مؤامرة لتهريب الكوكايين عبر القطاعات الصحراوية التي يسيطر عليها الإسلاميون المتصلون بتلك الجماعة. يقول أساريد إيه جي إمباركاون، نائب رئيس مجلس مالي القومي، الذي ينحدر من الصحراء الشمالية: «لا يرغب الشباب في العمل مع الحيوانات. فالشباب يرغبون في السكن في الفيلات المكيفة والحصول على سيارات كبيرة».

ووفقا لبعض الباحثين، تؤثر اتجاهات التحول الاجتماعي على الإيمان في المنطقة. فيقول مايك مكجوفرن، الأستاذ المساعد بجامعة ييل والمدير السابق لمجموعة إدارة الأزمات في مكتب غرب أفريقيا: «كل ما عليك أن تقوم به هو أن تتجول في أي مكان بمالي لكي ترى وجود تنوع كبير في الإسلام. فالإسلام هنا في حالة تطور دائم. ولكن لا يمكن أن تقول إن الإسلام الأفريقي الغربي هو ذلك فقط». وذلك صحيح تحت شمس باماكو الحارقة، فمعظم سكان المدينة الصاخبة أفارقة سود مما يجعلها وكأنها كوكب منعزل عن الصحراء الشمالية، ويمر الرجال الذين يقيمون الصلاة في المسجد الأكبر على الباعة الذين يبيعون جماجم الحيوانات ومخالبها لمن يعتقدون في وجود تأثيرات علاجية أو سحرية لها، رغم وصف الزعماء الإسلاميين لتلك الممارسات بأنها مخالفة للشريعة. وفي الطريق تمر الكثير من الدراجات البخارية المصنوعة في الصين، التي تستقلها في معظم الأحوال سيدات يرتدين بلوزات من دون أكمام، أو الزي التقليدي البراق. فتقول باغايوكو (17 عاما)، التي تستقل دراجة بخارية حول قرارها بعدم ارتداء الحجاب: «رغم احترامي لديني، فإنني أتصرف وفقا لمعتقداتي».

ولكن خلال الصيف الماضي، حشد القادة الإسلاميون أكثر من 50 ألف شخص للتظاهر ضد قانون الأسرة المقترح الذي سوف يلغي، ضمن عدة أشياء أخرى، القانون الذي يفرض على النساء طاعة أزواجهن، وهو شكل من أشكال القوة التي أكدت الاتجاه المحافظ للإسلام في مالي، والتي أثارت حفيظة النشطاء الديمقراطيين.

وعلى الجانب الآخر من البلدة، وعند مدرسة دينية كانت الفتيات والمدرسات يرتدين البراق، وهو ما تندر رؤيته في باماكو. وقد أعرب إمام المدرسة، محمد توري، عن تذمره من الضغوط الغربية التي تدفع الحكومة المالية لقمع الإسلام في البلاد. ولكنه أكد في الوقت نفسه أنه ليس راغبا في أن تصبح مالي مثل المملكة العربية السعودية، وهي الدولة التي درس بها والتي تمول حكومتها مدرسته.

ويضيف توري (39 عاما)، من مكتبه: «للناس متنفس هنا. ولكن في السعودية يعيش الناس في سجن».

وخلال أحد المساءات الماضية في باماكو، هز مهمادو هيدارا، الإمام القصير السمين الذي يرتدي عباءة واسعة، رأسه تعجبا من فكرة انتشار الراديكالية الإسلامية، وبينما كان جالسا على سطح منزله يعد خطبة الجمعة أشار إلى الفضاء أمامه وقال إنه على يقين من أن بعض الخطباء الأجانب يلقنون الناس مبادئ خاطئة. مضيفا: «لا يطالب الدين الحق الناس بحرق الأشياء أو قتل الغير. فنحن ندينهم ونخشاهم في الوقت نفسه».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»