كركوك.. مدينة قوميات وأديان تتحدث بـ3 لغات

قلعتها مستوطنة بشرية عمرها 5 آلاف سنة.. واليوم تشكو الهجران (الحلقة6)

جانب من قلعة كركوك (تصوير: كامران نجم)
TT

سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.

سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.

ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم أن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟

«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.

بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).

وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد».

* ترتفع قلعة كركوك، وتترفع على خلافات السياسيين سواء كانوا من أهالي المدينة أو من خارجها، 120 قدما عن مستوى سطح الأرض، وتنأى بنفسها عن هذه الخلافات بعمق تاريخي يزيد على خمسة آلاف سنة.

لكن هذا الترفع النبيل، والنأي بتاريخها الحضاري السامي، لم ينقذها ولم يحمها من آلات الهدم والتخريب المتعمد ومع سبق الإصرار والترصد من قبل أجهزة النظام السابق، وبقرار متشدد في تنفيذه من لدن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.

وينشغل أهل السياسة في كركوك اليوم، ومنذ ما سمي بـ«تحرير» أو«سقوط» العراق عام 2003، بعناوين ومسميات تعد لدى أهل كركوك «الأصليين» طارئة وغريبة، منها التقسيمات الإثنية وعلى أساس أن هذا كردي وذاك تركماني أو عربي، أو إذا كانت المدينة، التي يقر الجميع بعراقيتها، كردستانية أم لا، هذه الانشغالات أنست أهالي كركوك أصولهم التي انحدرت منها عوائلهم، سواء كانوا أكرادا أم تركمانا أم عربا، مسلمين أو غير مسلمين، تلك هي قلعة كركوك التاريخية التي تضم أرضها أضرحة الأنبياء دانيال وعزير وحنين. من ينحدر أصلا من هذه القلعة وأحيائها، يقولها بكثير من الفخر والتأصيل «أنا من قلعة كركوك»، بل إن جميع أهالي كركوك الأصليين هبطت عوائلهم من هذه القلعة، ولسبب بسيط هو أن كركوك كانت مجرد قلعة، ولم تكن هناك غيرها، أي مدينة تعرف بكركوك، وهذا ما يؤكده كل من العالمين الآثاريين طه باقر وفؤاد سفر في كتابهما «المرشد إلى مواطن الآثار» الذي جاء فيه: «كانت مدينة كركوك محصورة في القلعة في مطلع القرن الثامن عشر للميلاد، وبدأ الناس بعد ذلك يبنون البيوت في السهل خارج بدن القلعة». ويصفها ياقوت الحموي في معجمه على أنها «قلعة في وطيء من الأرض، حصنة حصينة، بين داقوقا (مدينة داقوق) وأربل (أربيل)، رأيتها وهي على تل عال ولها ربض صغير».

المؤرخون لا يختلفون كثيرا في تحديد زمن بنائها، فبينما يؤكد فريق منهم أن قلعة كركوك بنيت في عهد الملك الآشوري آشورناصربال الثاني بين عامي 850 و884 قبل الميلاد لتكون خطا دفاعيا يحمي عاصمة الإمبراطورية الآشورية، نينوى (الموصل)، وليجعل منها في الوقت ذاته أحد معسكرات جيوشه، ويستند أصحاب هذه المعلومة إلى أرقام طينية وجدت في نينوى، وإلى آثار آشورية تم اكتشافها في القلعة، كذلك الروح العسكرية التي اشتهر بها الآشوريون، وتوسعات إمبراطوريتهم، ومعاركهم الشهيرة، وقرب القلعة جغرافيا من نينوى. كما تضيف المعلومة أن «الملك سلوخ جاء من بعده (آشورناصربال) وبنى حائطا دفاعيا قويا حول القلعة وشيد 72 برجا حول شوارعها الاثنين والثلاثين ومدخليها»، ويرجح الفريق الآخر من المؤرخين أن «من بنى هذه القلعة هم الكوتيون، اعتمادا على رقيمات قديمة، يمكن القول إن هذا المستوطن العالي المسمى الآن بقلعة كركوك كان يشتهر منذ أواسط الألف الثاني قبل الميلاد باسم «ديمتو كرخي شيلواخو» ويعني باللغة الآشورية «قلعة مدينة بني شيلوا» التي تجسد باسم حاكمها الحوري القديم الملك شيلوا تيشوب. ويعتقد مؤرخون آخرون أن القائد المغولي تيمور لنك قام بزيارة القلعة عام 1393 أثناء حملاته العسكرية من غير أن يهدمها أو يعتدي على أهلها.

ومن المؤكد أن الإسكندر المقدوني حل في قلعة كركوك، ففي أواسط الثمانينات أعلن العالم الأثري الدكتور مؤيد سعيد، مدير عام دائرة الآثار والتراث، وقتذاك، عن اكتشاف سور منيع كان قد بناه الإسكندر حول القلعة.

كان بالإمكان تطوير هذا الصرح التاريخي الذي يتمنى كثير من الدول الحضارية أن يكون قائما فوق أرضها. مستوطن بشري عمره أكثر من خمسة آلاف عام، شهد حضور ملوك وقادة لا يزال التاريخ يتحدث عن إنجازاتهم الإيجابية والسلبية، دفن فيها ثلاثة أنبياء، كانت ذات طرز معمارية متميزة، عمارة البيوت والمساجد والكنائس والأسواق متوارثة من طرز معمارية عراقية أصيلة، تبدأ بالآشورية التي استخدمت القوس أو الطاق كحل بنائي لعقد الآجر أو الطابوق في ظل غياب الأخشاب الطويلة والقوية التي تتحمل الأسقف الثقيلة، وتمر بطرز العمارة المسيحية التي استخدمت في بناء كنيستها وبيوت التجار المسيحيين، أمثال بيت جبار توما، أعمدة المرمر المزخرفة بالتيجان، ثم العمارة الإسلامية التي أتاحت فرصا من الإبداع في الزخارف النباتية على الرغم من تقشفها، ووصولا إلى العمارة العثمانية التي عرفت بثرائها اللوني واستخدام الموزاييك، وسعة مساحات البيوت، الأغنياء خاصة، مثل بيت العلاف. غير هذا، فإن هذا المستوطن البشري عرف ما لا تعرفه أي مجتمعات سبقته من تعايش بين الأديان، حيث كانت هناك حارات سكنية للمسلمين واليهود والمسيحيين، تتداخل مع بعضها بعضا في صلات اجتماعية حميمة، رافقها تعايش، بل تصاهر بين القوميات العربية والكردية والتركمانية.

كانت دائرة الآثار والتراث قد خططت ومنذ الثمانينات لإعادة ترميم وصيانة القلعة من غير تهجير أهلها، واستهلت مشروعاتها بترميم أجمل ثلاثة بيوت تراثية، بينها بيت العلاف، ثم مساجدها وكنيستها وضريح النبي دانيال وحنين، وبواباتها الأربع وسوقها العجيب الذي يقع في سرداب تحت الأرض، ويقال إن صاغة الذهب اليهود هم من بناه هناك طلبا للامان.

لكن بعد كل هذه السنوات، تبدو القلعة اليوم عبارة عن أكبر مقبرة للعمارة والتاريخ والتراث، في مشهد لا ينطبق عليه وصف، حزين، بل أكثر من مأساوي. فهذه القلعة التي كانت تزدحم بالمئات من البيوت والأزقة الضيقة التي لا تتسع لمرور سيارة صغيرة، كما كانت تزدحم بالآلاف من السكان الذين ولدوا فيها وورثوا بيوتهم عن أجداد أجدادهم، ولم يكونوا يعرفون موطنا أو مستقرا لهم سواها، أصبحت اليوم عبارة عن أكبر متسع للخراب، إذ تنتشر هنا وهناك أكوام بقايا المنازل التي داستها البلدوزرات بكل وحشية، ومن غير أية مراعاة لكل طابوقة أو مرمرة أو شباك يزيد تاريخه على ثلاثمائة سنة كحد أدنى.

ولعل أكثر من يختصر، ويجسد، ويعبر عن مأساة قلعة كركوك وأهلها هو عبد الخالق سعيد البرزنجي، الذي ولد في القلعة سنة 1941، فهذا الرجل يحمل سعادة وأحزان وأحداث ما يقرب من سبعين عاما، يأتي بها كل يوم إلى القلعة، مستذكرا بيت عائلته الذي ولد فيه، والأزقة التي لعب فيها مع أصحاب طفولته، وجلسات الغناء التي جمعته مع أصدقاء شبابه، فهو خير من يستطيع أن يتحدث عن تاريخ القلعة ومأساة تخريبها وتهجير سكانها.

البرزنجي، ومنذ أن شاهد البلدوزرات تسحق تاريخ وتراث أهله وقلعتهم، ومنذ أن أجبرت عائلته على ترك القلعة، يصعد إلى القلعة كل يوم، يجلس عند بقايا، أو أطلال بيتهم ويبكي، ويطلق صوته بغناء حزين يفتت الحجر، وعند حلول المساء يعود مجرجرا حزنه المعلن إلى بيت شقيقه حيث يقيم اليوم. التقينا البرزنجي مصادفة وبلا تخطيط مسبق عند ضريح النبي دانيال، قال: «أصعد إلى القلعة عند السابعة صباحا، كل يوم، وأعود إلى بيتنا بعد الثامنة مساء، وإذا لم أتمكن من المجيء لأسباب صعبة جدا أبكي»، تفر من عينيه دموع حزينة، ويستطرد قائلا: «البارحة قعدت على بقايا طابوق بيتنا المهدم، إنه قريب من هنا، تذكرت أهلي وأصحابي وانقهرت كثيرا وبكيت، وغنيت أغنية تركية حزينة، كنت أغني وأبكي لوحدي».

البرزنجي كان موظفا في وزارة الإسكان قبل أن يتقاعد، يقول: «منذ أكثر من سنة لم أتسلم راتبي التقاعدي، فالحكومة مشغولة بمن هو تركماني وكردي وعربي ولا تتذكرنا، أنا لا أريد أي امتياز أو مكافأة، أريد راتبي التقاعدي لا أكثر». سألناه عن سبب غنائه لأغاني تركية وليست كردية على سبيل المثال، ابتسم وقال: «أهالي القلعة يتحدثون ثلاث لغات، الكردية والتركمانية والعربية، وبطلاقة، إلى حد أن لا أحد يستطيع أن يميز من خلال اللغة أو اللهجة ما إذا كان المتحدث عربيا أو كرديا أو تركمانيا، ثم إنني أغني الأغاني التركية والمقامات العراقية منذ فتوتي، منذ أن تعلمت الغناء، والأغاني التركية حلوة (جميلة) وأغني كذلك أغاني كردية وعربية، فكلها لها المقامات نفسها، ففي شبابنا كنا نجتمع؛ أصدقائي وأنا، بينهم الكردي والتركماني والعربي، مسلمون ومسيحيون، ونغني بمختلف اللغات واللهجات، نغني عن الحبيبات وعن الفرح والتعب، كان رأسنا باردا بلا سياسة ولا محاصصة طائفية وبلا تقسيمات، هذا كردي وذاك تركماني وعربي، لم نكن نعرف هذه المسميات، كنا سكان القلعة وبس (فقط) حيث كنا نعيش وكأننا عائلة واحدة في بيت واحد». البرزنجي يحفظ جغرافيا القلعة ويعرف مداخلها وأزقتها مترا إثر آخر، ويقول: «للقلعة أربع بوابات، هي: باب طوب قابو (باب الطوب)، والطوب يعني المدفع، وباب داش قابو (باب الحجر أو الباب الحجري)، باب يدي قزلر (باب السبع بنات) وباب الحلوجية». وأوضح أنه كانت هناك أربعة محلات سكنية تحتوي على ما يقرب من ألف بيت، وهي «الميدان، أغالق (الأغوات)، حمام مسلم، وحمام مسيحيين، ويدير هذه المحلات أربعة مختارين، والمسيحيون كانوا يسكنون خلف الكنيسة، ولا أتذكر أنه كانت هناك محلة سكنية خاصة باليهود على الرغم من أنهم كانوا موجودين في القلعة، وأتذكر أن يهوديا كان بائعا متجولا للأقمشة حيث كان يضع الأقمشة فوق ظهره ويدور بين البيوت لبيعها للنساء».

هذا الرجل السبعيني هو خير موسوعة حياتية عن القلعة، يشير إلى مكان قريب من ضريح النبي دانيال، إلى تلال من الخرائب، يشرح قائلا: «هناك، تحت هذه الخرائب، تحت الأرض كان يقع سوق قيصرية القلعة (قيلجيلر بازاري) وهو أقدم سوق في القلعة ويسمونه أيضا (قاتما بازاري) وكان فيه تجار من مختلف القوميات»، نافيا أن هذا السوق كان للصاغة اليهود.

وحسب المصادر التاريخية، فإن بناء هذا السوق تم خلال العهد السلجوقي، وتم إنشاؤه بالحجر الأحمر ويحتوي على 34، بواقع 17 دكانا متقابلين وبالأبعاد نفسها، ويفصل بينهما رواق مستطيل الشكل، وتبلغ مساحته 560 مترا مربعا، وتؤطر واجهات الدكاكين المبنية بالحجر والجص عقود صغيرة من المرمر وأرضيتها مطلية بالجص.

البرزنجي كان في طفولته تلميذا في مدرسة القلعة الأولى، يقول: «كانت هناك مدارس، القلعة الأولى، والقلعة الثانية، ومدرسة الرشيد ومدرسة الطاهرة للبنات المسيحيات»، متحدثا عن الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة، فيقول: «كانت المصاهرة شائعة بين عوائل القلعة، من غير أن يسألوا إذا كان الرجل أو المرأة من الأكراد أو التركمان أو العرب، وحتى اليوم هذا الموضوع شائع ومعمول به في كركوك»، يبتسم ويقول: «الحمد لله أنا لست متزوجا»، ويستطرد: «كان على المرأة أن تضع عباءة و«بوشي» (قطعة من القماش الأسود تشبه البرقع، تتيح للمرأة أن ترى من خلاله لكن وجهها لا يراه أحد)، إذ كان سكان القلعة متشددين في هذا الموضوع باستثناء المسيحيات اللاتي لا يضعن البوشي أو العباءة ولكنهن كن يضعن وشاحا فوق رؤوسهن لتغطية الشعر».

أقرب أصدقاء البرزنجي هو الشيخ فاروق محمد صالح (تركماني)، سادن أضرحة الأنبياء، دانيال وعزير وحنين، حيث يمضيان اليوم معا بعد أن لم يتبق في القلعة أي من ساكنيها.

يقول محمد صالح: «نحن سدنة هذا المزار بتكليف من الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، حيث سلم المفاتيح لجدنا منذ 1400 سنة»، ولدى سؤاله إن كان متأكدا من وصول الإمام علي إلى قلعة كركوك، فيجيب جازما «نعم نحن متأكدون جدا من هذا الموضوع»، موضحا أن «هذا المزار كان في الأصل كنيسة وتحول إلى جامع معروف باسم جامع النبي دانيال».

قبل أكثر من عشرين عاما كان هذا المزار واسعا وعامرا بالزوار وله منائر وقباب، لكنه اليوم عبارة عن غرفة واحدة ملحقة بأضرحة الأنبياء التي تظللها قبة وثمة منارة شبه عارية منعزلة عن المزار، يوضح سادن الأضرحة، قائلا: «لم يسلم هذا المزار من معاول التهديم في عهد صدام حسين، حيث تم تهديمه وكذلك تهديم جامع الشافعي ومنارته»، موضحا أن عمر منارة جامع النبي دانيال نحو ألف سنة وكانت في داخل المسجد وتم تهديمها مع القباب التاريخية أيضا بحجة تجاوزها على أراضي الدولة وتم إعادة تعميرها وطلائها، وأنا أعدت بناءها حيث تم تخصيص 100 مليون دينار عراقي من قبل المحافظة، وتم مد الكهرباء وطلاء الأبواب والشبابيك».

يوضح محمد صالح أن «أجمل ما في هذا المزار هو أن زواره من المسلمين السنة والشيعة والمسيحيين بكل طوائفهم، وكان في السابق يزوره اليهود لأنهم يعتقدون أن هؤلاء الأنبياء هم من اليهود لكننا نؤمن بجميع الأنبياء وليس هناك نبي يهودي أو مسيحي»، ويقول: «النساء يأتين إلى هنا ويسألون الله تعالى أن يرزقهن بالأطفال، فهن يؤمن ويعتقدن بأن هذا المزار الذي يضم ثلاثة أنبياء مقدس، وهذا صحيح، وهناك اعتقاد بأن من ترمي عباءتها من أعلى المنارة سوف ترزق بطفل إذا وصلت العباءة إلى الأرض مفروشة، لهذا كلما رزقت امرأة بطفل وكانت قد زارت هذا الضريح تقوم بإهداء خدم الضريح وجبة فاخرة من الطعام والحلويات». قريبا من جامع النبي دانيال يقع الجامع الكبير (أولو جامع)، ويسمى أيضا جامع «مريم آنا» الذي أعيد بناؤه بعد تهديمه، حيث يعتبر ملتقى السكان الأصليين للقلعة خلال صلاة الجمعة، أما جامع عريان الذي كان يقع في وسط القلعة قبل تهديمه فقد كان يعد من الجوامع الفريدة من نوعها بما يتميز به من طراز معماري فريد.

القبة الزرقاء (كوك كنبد) هي الأخرى لم تسلم من مخالب بلدوزرات التهديم على الرغم من جمال عمارتها وألوانها، لكن مجلس المحافظة أعاد تعميرها، فهي بناء مثمن الشكل ذو طراز معماري جميل، حيث تتخلله الزخارف المطعمة بالقاشاني الملون ومزينة بشريط من الكتابة يقع في أعلى البناء من الخارج وتحت القبة يوجد ضريح لرفات «بوغداي خاتون» وهي بنت أحد السلاطين السلجوقيين حيث كانت عائلتها في طريقها إلى الحج فأصيبت بالحمى وماتت في القلعة ودفنت هنا.

يأخذنا محمد صالح في جولة بين خرائب الكنيسة الكلدانية «أم الأحزان» التي كانت تعد واحدة من أجمل الكنائس في المنطقة، فقد بنيت سنة 1862 على أنقاض كاتدرائية قديمة.

يقول: «كانت هذه الكنيسة ضخمة للغاية وتضم مدارس ومسكن للراهبات والقسيسين، وكانت تتوسطها حديقة رائعة، إذ كنا ندخل إليها لنستمتع بحديقتها التي كانت تزدحم بالرهبان، وأتذكر أن جدرانها كانت عالية جدا ومشيدة بالحجر والجص وتقوم سقوفها وأروقتها على أقواس وأعمدة مرمرية ذات تيجان رائعة»، ويشير إلى التيجان المرمرية الضخمة المبعثرة هنا وهناك.

قريبا من الكنيسة التي كانت تقوم في حي «حمام المسيحي» يقع واحد من أفخم وأجمل بيوت القلعة «بيت جبار توما» الذي تم تهديم طابقه العلوي، فهذا البيت مشيد من المرمر المزخرف، وشبابيكه تطل على مدينة كركوك الحديثة.

يقول محمد صالح: «لم يكن (بيت توما) الوحيد من حيث فخامته وجماله، بل كانت هناك بيوت أغنياء القلعة، وهي بيوت كانت تعد نادرة بعمارتها، أمثال: بيت طيفور، وبيت الجلبي، وبيت سيد عبد الغني، وبيت العلاف، وبيت سيلاو».

هذه البيوت كانت دائرة الآثار والتراث قد أعادت تعميرها كونها نماذج رائعة للعمارة العراقية، إذ كانت تتكون من ثلاث دور متداخلة؛ الأولى ذات أعمدة مرمرية دقيقة ومداخل غرفها ونوافذها مؤطرة بالمرمر والزخارف، أما الدار الثانية فتتكون من مجاز ومضيف ومخبأ و«كوشك»، أما الدار الثالثة التي تسمى «بيت العروس» فتتكون من طارمة صغيرة وغرفة مستطيلة الشكل.

ويقف محمد صالح، وإلى جانبه البرزنجي، كلاهما يوزع نظراته في اتجاهات مختلفة، نظرات تمسح القلعة وتستذكر أمجادها، يقول محمد صالح: «إنه أمر لا يمكن تصديقه، فقد كان صدام حسين رئيسا للعراق، فكيف له أن يهدم كل هذه البيوت والجوامع والكنائس الأثرية الواقعة في واحدة من مدن العراق وليس في بلد معاد له، بعد أن كان قد أنفق الأموال من أجل إعادة تعميرها»، موضحا أن صدام حسين «كان قد حرم على الأكراد والتركمان امتلاك أي عقار أو بناء أي بيت جديد، بينما منح أكثر من 30 ألف دينار عراقي (وقتذاك كانت تساوي ما يقرب من 100 ألف دولار أميركي) وقطعة أرض ووظيفة مميزة لكل عربي ينزح إلى كركوك التي ألغى اسمها التاريخي وسماها محافظة التأميم».

وعن مأساة إخراجهم من بيوتهم، يقول: «لقد داهمتنا الشرطة ومعها البلدوزرات، أخرجونا بالقوة بعد أن سمحوا لنا بإخراج القليل من أثاثنا وأشيائنا المهمة، ثم بدأت البلدوزرات بالتهديم، وقد هدد بأن من لم يترك بيته فسوف يتم تهديمه عليه وعلى عائلته».

ونحن نتجول بين خرائب قلعة كركوك التقينا بأحد السياسيين الذين ولدوا في القلعة، فقد كان عرفان كركوكلي، عضو مجلس محافظة كركوك وأمين عام حزب الشعب التركماني العراقي، يتفقد كعادته البقعة التي ولد وترعرع فيها، يقول: «ولدت في القلعة، وتركت كركوك مضطرا عام 1985 عندما ألقي القبض علي وأطلق سراحي عام 1988 حيث تركت العراق لألتحق بالمعارضة العراقية في الخارج، وعدت عام 1991 بعد الانتفاضة إلى إقليم كردستان الذي كان قد انفصل عن الحكومة المركزية ببغداد».

ويوضح كركوكلي أن «نظام صدام حسين هدم القلعة بعد 1991 كونها تشكل رمزا للتآخي، ولتحجيم وجود التركمان والكرد ضمن سياسة تعريب كركوك وكونها رمزا للمحبة، فعندما كنا فتيانا عشنا العلاقات الراسخة بين مكونات الشعب، ناس تحب ناس، متمسكين بعلاقاتهم وعاداتهم، حيث كان يسكن هنا العرب والتركمان والأكراد، مسلمين ومسيحيين، كما كان يقطن القلعة عوائل يهودية حتى الخمسينات من القرن الماضي».

ويتحدث ابن القلعة الذي هو اليوم عضو الحكومة المحلية لكركوك، عن «خطط لإعادة ترميم القلعة والاحتفاظ بهذا الصرح التاريخي كونها رمزا للعراقيين، حيث طلبنا من دائرة آثار كركوك إعادة ترميم الآثار، والمحافظ مهتم بالفكرة، ونسعى مع اليونسكو لمساعدتنا».

محافظ كركوك أكد أن هناك «مشروعات صغيرة للحفاظ على قلعة كركوك، وننتظر مجيء شركات استثمارية لاستثمارها سياحيا باعتبارها منطقة سياحة تاريخية ودينية وطبيعية»، معترفا بأن «الإمكانيات المتوفرة قليلة، ونحن بحاجة إلى ميزانية أضخم ووقت أطول».