يزيديو العراق.. صراع على الزعامة والانتماء القومي

شيخهم: لا نزوج لغير طائفتنا.. ولا نتزوج من غيرنا.. ولا نأخذ ولا نعطي (الحلقة8)

يزيديون في لاليش (تصوير: كامران نجم)
TT

سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.

سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.

ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم أن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟

«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.

بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).

وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد». عندما بدأت الأرض تنبسط أكثر، حيث تركنا الجبال خلف ظهورنا، عرفنا أننا اقتربنا من لاليش، التي سنصلها عبر المرور بقضاء شيخان. بدت على يسارنا قرى صغيرة، وحسب توضيح هفال بابا شيخ، دليلنا إلى الموطن المقدس لليزيديين، فإن «هذه القرى تضم عددا من الشبك (طائفة مسلمة يسكن أتباعها القرى المحيطة بمدينة الموصل)، وعددا من اليزيديين الذين كانت سلطات النظام السابق قد هجرتهم من قراهم وأراضيهم لتفرقهم وتبعدهم عن بعضهم بعضا من جهة، ولتسيطر على أملاكهم، من جهة ثانية.

دخلنا شيخان بعيد الظهر بقليل، أشار بابا شيخ إلى مسجد البلدة، وقال: «لم يكن في شيخان أي مسجد كونها بلدة تسكنها الغالبية اليزيدية بحكم قربها من لاليش، وبعد أن سكنها الإخوة المسلمون، قامت طائفتنا بإهداء قطعة أرض وساعدت في بناء المسجد ليتسنى لإخوتنا الصلاة فيه».

فبالإضافة إلى المسجد، يرتفع وسط شيخان برج كنيسة، وفوق تل قريب جدا يرتفع هرم مخروطي حيث قبر أحد رجال الدين اليزيديين، فهذه البلدة، ومثلها قرى بعشيقة وبحزاني، ذات الأغلبية اليزيدية، تتعايش فيها ثلاثة أديان في آن، الإسلام والمسيحية واليزيدية. وفي قرية بعشيقة كان هناك مسجد بالقرب من الكنيسة. قال بابا شيخ معلقا: «هذا التعايش بين الأديان والطوائف والقوميات في العراق قائم منذ مئات السنين، لم تفرضه قوانين أو قرارات سلطة أو أحزاب سياسية، بل هو تعايش إنساني واجتماعي قام تلقائيا اعتمادا على علاقات إنسانية بحتة، وما شوه هذا التعايش هي الحكومات والسياسة».

يصف المؤرخ عبد الرزاق الحسني قضاء شيخان التي زارها وحل في لاليش سنة 1947، قائلا: «يطلق اليزيديون على قرية باعدرى وما يجاورها من القرى اسم (الشيخان) وموقعها في أرض فسيحة تكتنفها تلال كثيرة متصلة بجبل صغير يمتد مسافة أربع ساعات، وينتهي شرقي (عين سفني)، قرية مشايخ اليزيدية، ويسبح حول باعذار نهر صغير يروي أراضيها، ويسقي أهلها، ويشرف عليها قصر الإمارة المبني فوق تل كبير شمال القرية، وهو قصر بسيط لكنه واسع الأرجاء شيده المعماري عبودي سنة 1925 ميلادية، كما هو مسطور على مدخله، وقد حللنا فيه عام 1947».

بينما كانت السيارة تهبط إلى وادي لاليش، لاحت من بين أشجار الجوز والزيتون الكثيفة قمم الأهرامات المخروطية المتباينة الأحجام، تلك هي لاليش، وهذه هي أهرامات مزارات اليزيديين.

صادف وصولنا يوم الجمعة، وكانت لاليش في ذلك اليوم الربيعي المشمس تزدحم بالمئات من اليزيديين الذين جاءوا لزيارة مقدساتهم، على الرغم من أن اليوم الأسبوعي المقدس هو الأربعاء، لكن العطلة الأسبوعية في العراق هي يوما الجمعة والسبت وتتيح فرصة أوسع للزوار لقضاء أوقات طويلة هنا، وحسب توضيح بابا شيخ فإن «غالبية العوائل التي هنا اليوم تكون قد وصلت يوم الثلاثاء، أو الأربعاء وبقيت حتى اليوم، إذ ينامون في الشقق والبيوت المحيطة بمزار عدي بن مسافر والموقوفة للمزار». ولوحظ أن جميع الزوار هم من العوائل، أي ليس هناك عزاب يقومون بزيارة لاليش، أطفال وفتيات وفتية، شابات وشبان، نساء ورجال من مختلف الأعمار والمدن يختلطون هنا، يتعبدون ويتحدثون ويتعارفون، وفي الوقت ذاته يتنزهون في واحدة من المناطق الجميلة من حيث الموقع والمنظر والجو. أغصان الأشجار دائمة الخضرة تغلف المكان، بينما تنزل من قمم الجبال المحيطة شلالات من الماء البارد، النساء والرجال انشغلوا في تنظيف المكان، إذ تقوم النساء بجمع نوع من النباتات البرية المنتشرة في المكان وحوله على شكل مكنسة يدوية طبيعية ليستخدمها الرجال في كنس الشوارع والممرات وأرضيات المزارات تطوعا وتقربا.

الناس هنا يتوزعون في كل مكان حولنا وفوق السفوح، حيث تنتشر الشقق والبيوت، وكذلك المزارات. يقول بابا شيخ إن «الوضعية هكذا كل أسبوع، ويزداد عدد الزوار أو يقل تبعا للجو والمناسبات والأعياد الدينية التي يأتي خلالها عشرات الآلاف من اليزيديين إلى لاليش»، كان بابا شيخ يتحدث ونحن نأخذ طريقنا إلى مزار عدي بن مسافر، وخلال ذلك يتوقف بين لحظة وأخرى ليرد على تحية هذه وذاك، فهو معروف عندهم بصورة جيدة كونه ابن شيخ وابن شقيق شيخهم وصهره، كما أن أخلاقه السمحة وطيبة روحه ومساعدته لهم زادت من قربه من أبناء طائفته ومحبتهم له، ولمسنا أن اليزيديين هم هكذا، يتمتعون بأخلاق سمحة وروح متعاونة مع الجميع.

الدخول إلى المزار كان من خلال «باب الأمير»، وهو الباب الخارجي للمزار، كانت الباحة الخارجية للمزار تزدحم بالعشرات من الزوار، صبايا تجسد وجوههن جمال المرأة العراقية منذ بابل وآشور، جمال تختلط في تقاسيمه صفات عربية وكردية بلون قمحي خالص لا تشوبه أية مساحيق تجميل، بينما يتوزع هنا وهناك عدد من الشبان الذين تختلس نظراتهم، بخجل وحذر، جمال الصبيات، ذلك أن هذه الزيارات ومواسم الحج والأعياد هي مناسبات مشروعة للتعارف عن بعد لاختيار شريكة وشريك الحياة، والخطوبة والزواج، كما تتيح مناسبات الأعياد والزيجات الجماعية فرص الرقص التقليدي الجماعي للشباب اليزيديين وذلك عن طريق تشابك يد شابة وشاب وتكوين حلقة طويلة يتحركون خلالها بكياسة وهدوء ولكن بفرح غامر وسعادة داخلية تعكسها الابتسامات العريضة المتجسدة فوق وجوههم، وعلى موسيقى شعبية تقليدية، وهذه الرقصة لا تختلف كثيرا عن «الدبكة» الكردية، ولا عن «الجوبي» العربي، ولا عن «الدبكات» السريانية أو الآشورية، بل تجمع بينها لتؤكد بصورة غير مخطط لها أو مدروسة، الأصول الثقافية والانتماءات القومية والدينية المتداخلة لليزيديين بين العرب والأكراد.

ولنا هنا أن نستعين بالوصف الحضاري الذي كتبه أنور بن معاوية الأموي، المحتلف في إمارته لليزيديين على الرغم من اعترافه به كواحد من عائلة أمراء اليزيدية، حيث يقول: «يمكن اعتبار اليزيدية أشبه بقصر تاريخي مظهره إسلامي مزين بنقوش عربية وعبارات كردية. لكن لو أزلنا هذه الأصباغ الخارجية عن الجدار لاكتشفنا تحتها طبقة من نقوش مسيحية بأيقونات ملونة وصلبان منحوتة. ولو تعمقنا أكثر بالحفريات لاكتشفنا طبقة ثالثة من جداريات آشورية ورسومات آلهة النهرين وكتابات مسمارية. ولو تعمقنا في الحفريات سنصل إلى أعماق تاريخ المنطقة وجذورها البدائية المنسية. الحقيقة أن جميع طوائف وديان العراق وسورية تتشابه في هذه الطبقات الأثرية المخفية، لكن اليزيدية من بين الكل هي أقل الطوائف التي نجحت بإخفاء طبقاتها التاريخية، بحيث تبدو وكأنها موزاييك رائع للتراث الديني والأقوامي لبلاد ما بين النهرين». وحول مناطق سكن أتباع اليزيدية، يوضح الأموي أن مركز سكن «اليزيديين هو العراق وبالتحديد شمال العراق في الموصل ودهوك والمنطقة الممتدة من بعشيقة وبحزاني إلى منطقة الشيخان (شمال شرق) وإلى شمال منطقة دهوك وزاخو وقضاء سنجار. ويبلغ عددهم في العراق المليون نسمة تقريبا (هناك من يرجح أن عددهم أقل من ذلك في العراق)» مشيرا إلى أن «عدد اليزيديين يتراوح ما بين 300 ألف إلى 500 ألف. ويقيم اليزيديون في سورية في محافظة الحسكة وعفرين وحلب. وفي تركيا غالبا ما يوجدون في مناطق اورفا ووران شهر وديار بكر ومديات، كما توجد أعداد منهم في جورجيا وأرمينيا وروسيا وأوروبا، خاصة في ألمانيا» من غير أن يشير إلى أن وجودهم في أوروبا، وألمانيا بالذات هو وجود حديث فرضته ظروف الهجرة وطلب حق اللجوء الإنساني أو السياسي، بل إن الأموي ذاته موجود في ألمانيا بعد أن هاجر إليها واستقر بها بعد أن منحته السلطات الألمانية حق اللجوء، وفي عام 2005 أثارت حادثة سفر أمير الطائفة تحسين بك إلى ألمانيا وطلبه اللجوء هناك الكثير من السجالات والتشويش من قبل أبناء الطائفة أنفسهم، فهناك الكثير من اليزيديين من عارض لجوء أميرهم إلى دولة أوروبية، وهناك في المقابل من اعتبر المسألة طبيعية.

في حديقة صغيرة عند باحة المزار الرئيسي في لاليش، كان هناك طاووس، الرمز الديني لليزيدية، وكان إطار البوابة المرمري مزينا بنقوش مدهشة، نقوش ورموز دينية قديمة يعود بعضها إلى حضارات عراقية قديمة. ويوضح بابا جاويش، وهو رجل دين من طبقة البير، أن «اسم هذا الباب هو (بيرية قابية)، باب قديم جدا ولا نعرف تاريخه»، وعندما دعانا للدخول، بعد أن خلعنا أحذيتنا بالطبع، كدت أن أضع قدمي اليمنى على عتبة المزار لكن أصوات عدة ارتفعت بـ«لا..لا..لا» لتحذرني من أن أدوس على العتبة، مما دفعني لأتراجع عن الدخول والمحاولة ثانية، يوضح جاويش سبب هذا التحذير بقوله: «نحن لا ندوس على العتبة، فهي مقدسة بالنسبة لنا، ومنها يأتي الخير وإذا دسنا عليها فسوف ينقطع الخير عنا». القاعة كانت فسيحة مزينة بألوان قطع قماش الساتان اللماع، الأحمر والأخضر والأصفر والوردي، وغيرها أعمدتها المصنوعة من مرمر جبال كردستان الأبيض، قال جاويش، إن «هذه الأقمشة يضعها الزوار، الزائرات خاصة، تبركا بالمزار من جهة وتقربا من الشيخ عدي، ولطلب أمنية يتمناها الزائر». كانت أطراف العديد من قطع القماش هذه معقودة، أوضح رجل الدين اليزيدي أن «أي زائر له أمنية يقوم بفتح عقدة ومن ثم عقد غيرها وهو يتمنى ما يريد من غير أن يكون للون القماش أية دلالة روحانية».

القاعة مضاءة بفوانيس جميلة الشكل ومختلفة عن الفوانيس العادية، فوانيس ذات زجاج نظيف تشتعل وراءه فتائل مغمسة بزيت الزيتون الطبيعي تماما، وسوف نكتشف وجود أكثر من 44 جرة فخارية قديمة مثبته مع بعضها بعضا في قاعة طولية الشكل ومملوءة بزيت الزيتون، يقول جاويش: «نحن نتوارث تخزين زيت الزيتون في هذه االجرار، وهذا الزيت يتم استخراجه من أشجار الزيتون التي تنتشر في البساتين المحيطة بالمزار بواسطة معصرة خاصة قريبة، كما يقوم الزوار بالتبرع بقناني من زيت الزيتون الأصلي إلى المزار»، محيطنا علما بأن «هذا الزيت لا يستخدم إلا لأغراض إضاءة المزار حصرا»، وهناك على مقربة من الجرار فتائل بيضاء مصنوعة من القطن تبرع بها الزوار ومسماة بأسماء بعض الأولياء والزهاد من الديانة اليزيدية تستخدم في الفوانيس والقناديل المخصصة للإضاءة.

بعض النسوة، شابات خاصة، كن يتعاقبن على رمي قطعة من القماش على دكة قائمة في قاعة الجرار ومن مسافة لا تزيد على ثلاثة أمتار تقريبا، وبين فترة وأخرى تعلو أصوات النسوة فرحا، تكرر هذا المشهد لمرات عدة، وتوضح هناء عبد الله، من سكان قرية بحزاني التابعة لمحافظة نينوى أنها «عادة قديمة ومتوارثة، حيث تقوم المرأة برمي قطعة القماش ثلاث مرات على الدكة من مسافة ثلاثة أمتار وتنوي أو تطلب في داخلها أن يتحقق أمر ما، أو تنذر أن هذا الأمر إذا تحقق فسوف تقدم شيئا للمزار»، موضحة أن «علينا أن نرمي قطعة القماش ثلاث مرات ولا يجب أن تقع فوق الأرض، فإذا وصلت هذه القطعة إلى الدكة لثلاث مرات متتالية بنجاح فهذا يعني أن الأمنية سوف تتحقق»، كانت هناء في طريقها إلى أن ترمي قطعة القماش للمرة الثالثة، هدأت قليلا وقالت بصوت عال «يا الله» قبل أن تتكلل رميتها بالنجاح مما دفعها لإظهار مشاعر الفرح بصوت عال. تضيف هناء التي تنتمي إلى طبقة المريدين، وبلغة عربية واضحة، حيث لا تجيد اللغة الكردية، أنها تؤدي هذا الطقس كلما أتت إلى المزار.

ولم تكشف الشابة شاهناز، وهي يزيدية كردية تسكن في قرية باعدرى القريبة من شيخان، عن أمنيتها التي ترمي من أجلها قطعة القماش، تبتسم بخجل وتقول إن «ما تنويه يجب أن يكون سرا»، مشيرة إلى أنها تأتي إلى هذا المزار كل يوم جمعة تقريبا لقربه من قريتها، وهي أرملة ولها ابنة واحدة، وقد تكون أمنيتها السرية هي أن يبارك الله ابنتها وحياتهما.

في هذا المزار الذي يرجع جاويش عمره إلى 1164 سنة، يقع قبرا شيخ الطائفة اليزيدية عدي، العامة يسمونه عادي بن مسافر، والشيخ الحسن البصري، وعلى مقربة من القبرين تتدفق مياه باردة نابعة من عين تتدفق من الجبل، مياه تبقى باردة وصافية وطيبة على مدار العام. يوضح بابا شيخ أن «على كل من يزور لاليش أن يضع يديه في هذا الماء المتدفق وخلال تمريره ليديه في الماء يتذكر أحبته والمقربين إلى نفسه، الزوج والأبناء والأقارب والأصدقاء والمعارف ويدعو لهم بالخير، ويجب أن يذكر الأسماء واحدا تلو الآخر، وهناك أيضا العين البيضاء التي يجري فيها تعميد الأطفال».

كان رجل الدين جاويش يتحدث الكردية بطلاقة، بينما يجد صعوبة بالغة في شرح طقوسهم بالعربية مما اضطر بابا شيخ إلى التدخل لترجمة ما يقوله جاويش، وبسؤاله (جاويش) عما إذا كانت الديانة اليزيدية كردية أم عربية، قال معتذرا: «أنا رجل دين هنا ولا أتحدث بالسياسية»، مضيفا: «اسألني في شيء يتعلق بالدين وسأجيبك»، فحاصرته بسؤال واضح يتعلق باللغة التي كتب بها «كتاب الجلوة» و«المصحف الأسود» وبقية تعاليمهم الدينية، نظر إلي مبتسما وكأنه يعترف بأن السؤال قد أوقع به وقاده إلى السؤال الأول، فأجاب باقتضاب أن كل هذه الكتب والتعاليم كتبت باللغة الكردية.

ينقسم أتباع الديانة اليزيدية، أو الإيزيدية إلى ست طبقات دينية، وهي: الأمراء، الشيوخ، البير، المريدون، الفقراء، ثم العامة، فالأمير يتبع عائلة واحدة «هناك عائلة واحدة يتوارثون الإمارة»، يوضح بابا شيخ، ويستطرد قائلا: «وكذلك الشيخ، أو كما يلقب بـ(بابا شيخ) ويجب أن ينحدر نسله من الشيخ عدي بن مسافر، أما البير والمريد والفقير فهي طبقات دينية». وحسب توضيح الفقير برجس المسؤول عن العناية بالمزار، وما يقابله في المذهب الجعفري عنوان «الكليدار» أو السادن، فإن «الفقراء هم المسؤولون عن إدارة المزار والعناية به، وهذه المهمة الدينية منوطة بعائلته التي تتوارث كليدارية المزار، مشيرا إلى أنه «يسكن مع عائلته في بيت داخل المزار ومخصص له، ويعيش على تبرعات الزوار من أتباع الطائفة، كما أن العناية بالمزار وتعميره وإدامة خدماته تعتمد على التبرعات فالحكومة لا تقدم لهم أي شيء باستثناء حكومة إقليم كردستان ومام جلال». ويوضح برجس قائلا إن «الفقير طبقة دينية ولا تعني فقر الحالة المادية، لكنهم طبقة من الزهاد المتعبدين الذين يرتدون (الخرقة) المصنوعة يدويا من الصوف الخشن وباللون الأسود ويطلقون لحاهم وشواربهم»، وعندما سألناه عن سبب عدم لبسه «الخرقة» قال: «يجب علي أن أنقطع عن الدنيا وأتزهد، واليوم قلة من الفقراء يضعون الخرقة على أجسادهم، منهم أخي المقيم في سنجار فهناك أكثر من ألفي عائلة من الفقراء». ويؤكد برجس أن «رجال الدين وبدءا بباب شيخ والمريد كلهم ينحدرون من الفقراء، ويكنون كامل الاحترام للفقير، فإذا مشى الفقير وكان مرتديا (الخرقة) فعلى الجميع أن يمشوا خلفه لمكانته الدينية».

مع حلول المساء استضافنا بابا شيخ، أعلى رتبة دينية وشيخ الديانة اليزيدية في العالم، في باحة بيته وسط شيخان، كان بابا شيخ يجلس مهابا، مرتديا الثوب العربي الأبيض (دشداشة) مطلقا لحيته البيضاء لعنانها، وحوله يتحلق رجال الطائفة من أبنائه ومعارفه ومريدي الطائفة بلا استثناء أو تمايز. كانت تدور في ذهني بعض الأسئلة المحرجة عن الديانة اليزيدية التي أجاب عنها بروح سمحة وود وبلا أي تعصب، ومنها اتهامهم بأنهم عبدة الشيطان، قال: «كيف يمكن لأي دين أن يعبد أتباعه الشر، نحن نعبد الله الأحد، ونؤمن باليوم الآخر، ونسمي أبنائنا بعبد الله وحسن وحسين وعلي. إن كل ما هناك هو اختلاف في ممارسات العبادة لكن مصدر الأديان واحد وهو الله، ولنا كتابان مقدسان، ونقدس الشيخ عدي، شيخ طائفتنا، ونزور بعض الأضرحة التي يقدسها الإسلام، ومنهم الشيخ عبد القادر الكيلاني، بل إن غالبية من أتباعنا يزورون مراقد الأئمة عليّ والحسين والعباس».

ويزيد بابا شيخ في شرحه، قائلا: «نحن نقدس الملك طاووس، رئيس الملائكة وهو الملك جبرائيل»، هناك من رجال الدين اليزيدية من يقول إنهم يقدسون رئيس الملائكة الملك طاووس الذي رفض السجود لآدم كونه عاهد الله تعالى بأن لا يسجد إلا له، وهذا ينطبق على إبليس، لكننا لم نجد في النصوص اليزيدية المقدسة ولا في طروحات بابا شيخ ما يدل على ذلك، فلقب عبدة الشيطان أطلقه العثمانيون عليهم كون اليزيدية لم يتبعوا أوامر السلطات العثمانية.

أما رمز اليزيدية المقدس، وحسب بابا شيخ، فهو الطاووس، وتوجد منه سبعة نماذج (أيقونات) قديمة مصنوعة من النحاس أو مادة تشبه النحاس، وتحفظ عادة في بيت الأمير، ويتم إخراجها خلال الأعياد والمناسبات الدينية ليدوروا بها بين شيخان وسنجار. ويؤكد بابا شيخ على أن «هناك فصلا حادا بين طبقات أتباع اليزيدية، خاصة في موضوع الزواج، إذ لا يسمح بزواج امرأة من طبقة المريدين مثلا ورجل من طبقة الشيوخ أو العامة أو الفقراء، يجب أن يتزوج اليزيدي من طبقته وإلا عد خارجا عن الدين، ومن يخرج عن الديانة اليزيدية لا تقبل مغفرته وعودته إلى الدين ويبعد مع عائلته من المنطقة ويتم مقاطعتهم، وينطبق ذلك على من تتزوج أو يتزوج من ديانة أخرى».

ويقول شيخ اليزيدية إن «هناك رهبانا وراهبات لا يتزوجون، وهذا تقليد جديد لم يكن موجودا في ديانتنا، وهؤلاء ينذرون أنفسهم لخدمة المزار والدين، بل إن ديننا يسمح للرجل بالزواج من ستة نساء»، يعلق نجله قائلا: «والدي بابا شيخ متزوج ثلاث مرات».

في الديانة اليزيدية يسمح بالزواج طوال السنة إلا في شهر نيسان (أبريل) في التقويم الشرقي، ويوم الأربعاء وعيد رأس السنة اليزيدية فهذه أيام مقدسة ولا يجوز الزواج خلالها. ولا تختلف تقاليد الزواج لدى اليزيديين عما هو معروف في الإسلام، سوى أن مرافقة العروس ومرافق العريس (الإشبينة والإشبين) يرافقان العروسين حتى في الآخرة.