كارتر يجد سعادته في مهامه الخارجية

جاب ملايين الأميال منذ تركه الرئاسة محاربا للأمراض ومتوسطا في النزاعات ومروجا لحقوق الإنسان ومراقبا للانتخابات

TT

مشى الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، في منطقة فقيرة تتبع مدينة داغابون بجمهورية الدومنيكان، حيث كانت الماشية تهيم وراء شبكة من الأسلاك الشائكة وساد طقس حارّ يجعلك تشعر بالاختناق، في حين بدا الناموس كثيرا في الهواء. مضى ناحية جرف عالٍ يطل على نهر، وكانت أشعة الشمس تنعكس على إبزيم الحزام الذي يرتديه، وتبعته مجموعة من الأطفال الحفاة وآباء نحلتهم أشعة الشمس. كان يصافح كل شخص يلقاه في طريقه، ومن حين إلى آخر يقول عبارة «شكرا جزيلا» بنبرته الجنوبية.

وعندما وصل إلى كوخ يملكه جوان تافيريس، وهو جد عليل الصحة أصيبت عائلته بمرض الملاريا، استراح على كرسي هزاز داخله. وعلا صياح الديكة، ومشى الصحافيون بتثاقل، وبدا أنهم قد يظلون يتحدثون طوال اليوم حتى يقوم الموكب المنتظر بالصعود إلى أعلى التل. تساءل كارتر: «لا يوجد مرض الملاريا هنا، أليس كذلك؟». فأجاب جوان بحماس: «نعم». فقال كارتر: «ولن تظهر في المستقبل»، ورسم على وجهه تلك الابتسامة العريضة التي أحبها رسامو الكاريكاتير، وهي علامة تتناقض مع مدة رئاسية واحدة تثير الشعور بالإحباط.

لقد مضت نحو ثلاثة عقود على مغادرة كارتر منصب الرئيس، وهو يبلغ حاليا 85 عاما من العمر، لكنه موجود هنا، داخل هذا الركن المقفر الحار من الكرة الأرضية ليحث جارين بمنطقة الكاريبي على محاربة الملاريا، وهو المرض الذي قُضي عليه منذ وقت طويل في الدول الأغنى، حسبما أفادت وكالة «أسوشييتد برس» في تقرير لها.

وهو يبتسم لأن هذا هو العمل الذي يقوم به، فمنذ أن غادر البيت الأبيض قطع كارتر ملايين الأميال وزار عشرات من الدول خلال بعثات هدفت إلى محاربة الأمراض والتوسط في النزاعات والترويج لحقوق الإنسان ومراقبة الانتخابات. وقد شيد بذلك إرثا لا يكافئه سوى إرث عدد قليل من الرؤساء الأميركيين السابقين، هذا إن كان لدى رئيس ما يمكن أن يضاهي به ما خلفه كارتر. ويقول كارتر: «يمكن أن أقول إن هذه الحياة، خلال الـ25 أو الـ30 عاما التي تلت مدتي في البيت الأبيض، كانت الأكثر متعة والأكثر إرضاء لي».

وسيخبرك أن الدافع لديه ينبع من رغبة في حل ما يعتقد أنها مشكلات يمكن حلها بدءا بالنزاعات الدولية التي تبدو أبدية ووصولا إلى المشكلات الصحية. وسيقر أيضا أن ما يدفع في ذلك هو إحساس متزايد بقرب انقضاء الأجل، مدركا أن حياته يمكن أن تنتهي خلال أسبوع أو عقد من الزمان.

ولكن يعد عمر الرئيس السابق خير حليف له، ويشير إلى أنه يجد راحته في تدبر الأشياء المحتومة. ويدفعه ذلك لاستخلاص أفضل ما في هذه المرحلة من حياته، رغم أن الوتيرة المرهقة تذكره بالأيام الشاقة خلال طفولته داخل المزرعة. ولدى زوجته روزالين توضيح أكثر بساطة. قالت وهي تهز كتفيها: «يشعر بالبؤس إذا لم يؤدِّ شيئا».

ويقول جون ستريملو، وهو صديق قديم لكارتر يترأس برامج السلام التابعة لـ«مركز كارتر»: «إنه يريد أن يستغل كل طاقته في مساعدة من يستطيع مساعدتهم. إنه شيء ملهم ومتعب. وأعتقد أنه يفكر كل لحظة في ما يمكن أن يقوم به».

ويقول بعض أقرب أصدقاء كارتر إنه كان متشككا عندما كان يحدد الخطوط العريضة لخططه لما بعد مغادرة منصب الرئيس. ويتذكر ستيوارت إيزنستات، الذي كان مستشار كارتر للسياسات الداخلية، أن معظم الدائرة المحيطة بكارتر حسبوا أن الرئيس «ساذج» عندما كان يحلم بالتوسط لحل النزاعات الدائمة. لكن بعد مرور ثلاثة عقود على ذلك، يجسد «مركز كارتر» في أتلانتا هذا الإرث الذي يبنيه كارتر. وخلال يوم دافئ في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهو الشهر الذي بلغ كارتر فيه 85 عاما، اجتمع حلفاؤه السياسيون البارزون وأربعة أجيال من عائلته والمئات من الآخرين للاحتفال بمتحف المركز الذي أعيد ترميه مؤخرا.

ورسم كارتر وهو يمسح بعينه الجمهور من فوق المسرح نفس الابتسامة العريضة على وجهه من جديد، ولا يزال مناصروه، بعد مرور كل هذه الأعوام، يتبارون في الدفاع عنه. ويقول ولتر مونديل، نائبه عندما كان في منصب الرئيس، إن كارتر بدأ السجال السياسي، ولذا «أصبحنا أفضل حالا». ويقول أندرو يونغ، سفير كارتر لدى الأمم المتحدة: «إنه قد يحتاج المؤرخون إلى عقود أخرى ليدركوا أثر المدة التي قضاها كارتر في منصب الرئيس». ويضيف يونغ: «مضت 100 عام قبل أن يُفهم جيفيرسون، ومضت 100 عام ليُفهَم المواطنون خارج الشمال لينكولن. ونحتاج إلى 50 عاما على الأقل كي يُفهَم كارتر».

ويقول دوغلاس برينكلي، أستاذ التاريخ في جامعة رايس، والذي ألّف كتابا عن كارتر، إن رئاسة كارتر قد تبقى في الذاكرة خارج الولايات المتحدة أكثر من داخلها. ويضيف: «اختر أي دولة، وستجد أنهم ينظرون إليه على أنه واحد من أكثر الرؤساء نجاحا، فقد ساعد على تحسين صورة أميركا في مختلف أنحاء العالم، وكان قادرا على أن ينال ثقة الجميع، وقد نال هذه الثقة لأنه أمين». ويريد كارتر نفسه أن يبقى في الذاكرة للعمل الذي قام به خارج واشنطن كما يبقى في الذاكرة للعمل الذي قام به في أميركا. وتظهر عملية تجديد المتحف هذه الرغبة، فقد خصص مساحة أكبر من أي مكتبة رئاسية أخرى لما قام به خارج البيت الأبيض. ويقول كارتر: «أريد أن أكون مرتبطا بكلمات السلام وحقوق الإنسان والأمل»، ولذا فقد قضى حياته هائما في أرجاء المعمورة بطريقة قد تجهد من هم في نصف عمره.

ويقول بيل غيتس، الذي قام برحلة عام 2002 مع كارتر في أفريقيا: «لديه (كارتر) طاقة وضمير (حي) بصورة يصعب تصديقها. لم يكن هناك ترف ولا لعب على الطائرة، بل كان يعمل طوال الوقت. إنه منظم للغاية، وعامل».

ودائما ما تكون بعض رحلات كارتر محط انتقادات، مثل رحلته إلى البلقان عام 1994 في محاولة للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النيران. ولم تُثِر الكثير من سجالاته الغضب مثلما أثارت انتقاداته لإسرائيل في سعيه من أجل تحقيق سلام في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يصفها بأنها المهمة الأعظم التي لم يتسنَّ إنجازها. ومع ذلك لا يكترث كارتر بهذه الانتقادات. ويقول برينكلي المؤرخ: «يبدو من الحمق بالنسبة له أن يشعر بالقلق بسبب يقوله له وزير الخارجية أكثر مما يشعر به ضميره، ولذا فإنه ينصت إلى ما يمليه عليه ضميره». وتوجد شرفة وحيدة في مدينة بلينز، وهي مسقط رأس كارتر جنوب غربي جورجيا. جلس كارتر هناك على كرسي هزاز ينتظر بدء عرض احتفال بأهم الأشياء التي خرجت من المدينة: الفول السوداني والرئيس. ويستقبل صحافيا يقترب، ابتسامة تدل على التعرف عليه. ويسأل: «هل كنت في مجلس المدينة؟ لقد أثار ذلك بعض الضجة».

قبل أيام فجّر كارتر قنبلة مدوية خلال حلقة نقاشية بـ«مركز كارتر» غير الربحي. وعندما سُئل عن رد فعله إزاء صراخ النائب جوزيف ويلسون «أنت تكذب!» الذي قاطع به خطاب الرئيس أوباما حول الرعاية الصحية. أجاب كارتر بنبرة متوازنة حيث كان يعرف أن كلماته سيكون لها صدى سريع. قال كارتر لمجلس المدينة: «أعتقد أن أساس ذلك التمييز العنصري، فهناك مشاعر متجذرة لدى عدد كبير في هذه البلاد ترى أنه لا يجب أن يكون شخص أميركي من أصل أفريقي رئيسا للبلاد».

وعلا الضجيج في الوقت الذي كان ذاهبا فيه إلى مدينة بلينز، وهي المدينة الصغيرة التي ينادى فيها بسيدي الرئيس مثلما ينادى بالسيد جيمي. وقد تمرس كارتر على العمل السياسي داخل هذه المدينة. وقد عززته عندما كان السكان يعملون بنشاط في الولاية وعبر البلاد كلها خلال حملات كارتر الانتخابية للفوز بمنصب حاكم الولاية ومنصب الرئيس.

ولا يزال بيت كارتر داخل هذه المدينة بعد أن حوّل ملكية مزرعة العائلة إلى أطفاله وأحفاده آملا في أن تتمكن آخر أجيال عائلة كارتر من استكشاف نفس أنواع الخشب التي كان يستكشفها إبان طفولته. ولا يزال يذهب إلى مجلس المدينة ويتمشى في الشوارع التي باع فيها الفول السوداني المغلي.

ويبلغ عدد سكان المدينة 500 شخص، وهو نفس الرقم الذي كان يعيش فيها عندما كان كارتر طفلا صغيرا. وفي الوقت الحالي يطلقون على هذا الجزء من جورجيا «الطرق الرئاسية»، ويتجول السياح حول مدرسته العليا القديمة، ويتفحصون مقرات حملته المتواضعة، ويزورون الكنسية الموجودة أعلى الطريق. بنى كارتر الصليب الخشبي الضخم الذي يتدلى من كنيسة ماراناثا المعمدانية داخل ورشة النجارة بمنزله، وهناك الآنية الخشبية التي تداولها المرشدون خلال الاستراحات. وكما كان يفعل أبوه من قبل، يقوم كارتر بتدريس دروس مدرسية يوم الأحد، وهو أمر صعب، حيث إن الناس يتجمعون قبل أن يبدأ بساعتين. لكن لا يشبه ذلك ما كان يحدث في الثمانينات عندما كان المواطنون يصطفون أمام الكنسية قبل الفجر. وتتضمن دروسه قصصا شخصية، مثل تلك القصة التي تحدث فيها عن محاولته الصيام مع مجموعة من الحاخامات، والقصة التي تناولت مشيه حول السور القديم الذي يحيط بمدينة القدس القديمة قبل شروق الشمس. قال وهو يضحك: «إنها جلسة تفاخر». وقد صاغت عقيدته المسيحية شخصيته كـ«كاهن أبدي»، على حد تعبير القس جوزيف لوري، ولديه رغبة مستمرة في بذل المزيد. ويقول كارتر إنه «دافع مستمر ينبع من عقيدتي الدينية المتجذرة كي أحسن من نفسي دوما بأن أعترف بنقاط الضعف فيّ وبأخطائي». ويقول الرئيس البرازيلي السابق فرناندو هنريكو كاردوسو، وهو صديق قديم لكارتر: «إنه (كارتر) يعتقد أن من المهم السعي لمساعدة الناس. وله أسلوب مذهل لتعبئة طاقاته والتحدث بصراحة وقوة. ويكون في أسعد حالاته عندما يحقق ما يريد». ويقول إن عقيدته تجعله يشعر بالسعادة في هذا العالم المتقلب، وهو يحس به عندما يشعر أنه مشغول كثيرا.

وتتناول دروسه المدرسية في صباح مشمس بأحد أيام الأحد هذا الموضوع، وركّز في كلامه على نحيما، الذي تخلى عن عمل مربح بعد طول صلاة وقرر أن ينتقل إلى القدس لإعادة بناء المدينة. ويقول كارتر: «لدينا جميعا مشكلات ولدينا قرارات صعبة، ويجب علينا أن نقوم بمثل ما قام به نحيما: الدعاء وطلب الهداية من الله».

ومن الواضح أن كارتر من الأصول الهامة بمدينة بلينز، وتوجد علامة داخل المدينة تخبر الزوار أنهم في مسقط رأس الرئيس التاسع والثلاثين. وتبيع محلات أثريات كتب كارتر وصوره ومجموعة من الحلي الصغيرة مثل التمثال الذي يحمل ابتسامته العريضة.

وينتشر عملاء الخدمة السرية في أي مكان يجوب فيه عبر الشوارع الهادئة وسط المدينة، ولكن لا توجد أجهزة لكشف المعادن هنا. ويقول سي إل ولترز، أحد جيران كارتر: «يشعر بالضيق عندما أناديه الرئيس كارتر. إنه جزء من السكان والمجتمع في هذه المدينة. إنه مثل أي شخص يمشي في المنطقة. قد يكون هناك عميل تابع للخدمة السرية وراءه، ولكنه مثل أي شخص آخر».

في ذلك اليوم، تجمع المئات لحضور العرض، ومن الشرفة أخذ كارتر يمزح مع الجمهور ويقول لهم إن عمدة بلينز الذي يشغل منصبه منذ وقت طويل قد تجاوزه. ويقول: «الشيء الوحيد الذي لم أستطع القيام به هو أن يعاد انتخابي». ولكن لم يكن كارتر الذي انضم إلى حفل خاص بمنزل العمدة نهاية ذلك الأسبوع محور الاهتمام، بل كان بعيدا عن دائرة الضوء. لم يكن هناك جمهور متلهف إلى تحيه، ولم يعلُ التصفيق عندما دخل. أخذ كرسيا يمكن طيه قرب حمام سباحة وجلس يشاهد عشرات من جيرانه يختلط بعضهم ببعض. مشى صديق معه آيس كريم بالفول السوداني، وقال الصديق إنه إذا كان ضخما بصورة مبالغ فيها، يمكن أن يلقي به كارتر. فرد الرئيس: «سيكون ذلك بمثابة تعدٍّ». وسريعا تجمع عدد من طلاب المدرسة العليا في دائرة يتغنون حول بيتبي غودوين، زوجة العمدة والمناصرة القديمة التي يحين عيد ميلادها اليوم الذي يلي. مشى كارتر بعيدا، راسما ابتسامة على وجهه.