2009 نهاية عقد : غولدستون.. قاض يهودي أنصف الفلسطينيين

اسرائيل رفضت التعاون معه.. والتأجيل أدى لهجوم على أبو مازن

ريتشارد غولدستون يزور غزة يوم 3 يونيو الماضي (أ.ب)
TT

تقرير غولدستون الذي أدان إسرائيل بارتكاب جرائم في غزة، كان أحد أهم الأحداث التي شهدها 2009 على الساحة الفلسطينية، ولم يحصل أن كان لتقرير دولي النتائج التي ترتبت على تقرير غولدستون سواء على الصعيد الفلسطيني أو العربي أو الدولي. فبسببه، إضافة إلى وقائع أخرى، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) قرار عدم الترشح لفترة رئاسية ثانية بعد الهجوم غير المسبوق الذي تعرض له على الساحة الفلسطينية من المؤيدين قبل المعارضين له. وهو أول تقرير من نوعه يصل إلى حد إدانة إسرائيل بارتكاب جرائم خلال حربها على قطاع غزة في أواخر العام الماضي ومطلع الحالي، ويضعها في خانة «اليك».

ويبقى غولدستون اسم لن ينساه أبو مازن ما عاش. وقبل نحو الأسبوعين، وعلى وجه الخصوص في اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، في رام الله، أطلق أبو مازن على ريتشارد غولدستون، اسم «محمد غولدستون».

كان أبو مازن بسخريته المرة هذه يكشف عن عمق الجرح الذي أصابه جراء الهجمة عليه وعلى سلطته بسبب قراره تأجيل النظر في التقرير في مجلس حقوق الإنسان في جنيف في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وهو الجرح الذي كان أحد الأسباب المباشرة التي حملته على التفكير جديا في التنحي عن موقعه، وخرج بعدها الرجل ليعلن أنه لن يترشح مرة أخرى للرئاسة. طبعا لم يقل أبو مازن إن التقرير هو أحد الأسباب لكنه شعر بخذلان دول عربية شقيقة ورفقاء في منظمة التحرير وحتى في حركة فتح، ووجد أغلب الشعب الفلسطيني يوجه له شخصيا أصابع الاتهام في تأجيل بحث التقرير، مما اضطره إلى إصدار التعليمات لسفيره في جنيف بالدعوة لعقد اجتماع طارئ لمجلس حقوق الإنسان والتصويت على التقرير.

وبدأت قصة غولدستون، الذي لن ينسى أبو مازن اسمه ما عاش، عندما عين هذا القاضي اليهودي الجنوب أفريقي مسؤولا عن لجنة أممية لتقصي الحقائق في قطاع غزة بشأن احتمال ارتكاب إسرائيل جرائم ضد الإنسانية. وفي 12 يناير (كانون الثاني) 2009 اتخذ مجلس حقوق الإنسان قرارا يدين فيه الهجوم الإسرائيلي على غزة، واتهم القرار إسرائيل بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في غزة. وفي 3 أبريل (نيسان) 2009، تم تعيين غولدستون، رئيسا للجنة للتحقيق في الانتهاكات المحتملة للقانون الدولي، من قبل إسرائيل وحماس، وآنذاك أعلن غولدستون أنه «شعر بالصدمة، كيهودي».

ورفضت إسرائيل أن تتعاون مع لجنة غولدستون، على الرغم من يهوديته، فاضطر الرجل للدخول إلى غزة بعد التنسيق مع مصر، عبر معبر رفح. ودخل غولدستون غزة مرتين في الفترة في ما بين 30 مايو (أيار) و6 يونيو (حزيران)، وفي الفترة في ما بين 25 يونيو و1 يوليو (تموز) 2009؛ وبدأ على رأس لجنة محترفة يبحث ويسأل ويحقق ويدقق، وفي يومي 28 - 29 يونيو (حزيران) الماضي، عقد غولدستون عدة جلسات استماع لضحايا هجمات القوات الإسرائيلية على القطاع. وفي المقابل، منعه الإسرائيليون من إجراء مقابلات في إسرائيل والضفة الغربية المحتلة، فعقد في 6 يوليو (تموز) في جنيف جلسات استماع للمتضررين الإسرائيليين جراء إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وقدمت الإفادات بصورة شخصية، وعبر كاميرات الفيديو. بعد عودته من غزة، عبر غولدستون عن صدمته وحزنه الشديد لما شاهده هو وفريقه، في القطاع، وشرح لماذا قررت اللجنة عقد جلسات استماع لشهادات الناس كجزء من التحقيق، وقال: «نود على وجه الخصوص مساعدة الضحايا، وذلك بإتاحة الفرصة لهم لإظهار وجوههم وسماع أصواتهم للمجتمع الدولي. أعتقد أنه مهم جدا للناس، ليس مجرد قراءة الإحصاءات، والقصص، بل أن يروا بالفعل الضحايا، ونود أن نظهر تأثيرات العنف على المجتمعات، خاصة التأثيرات العقلية والذهنية على الأطفال. ونحن نود أن نقوم بذلك ليس فقط بالنسبة للضحايا في غزة، وإنما أيضا للضحايا في جنوب إسرائيل، الذين يتعرضون لسيل من الهجمات الصاروخية من حين إلى آخر».

توصل التقرير إلى ارتكاب كل من القوات الإسرائيلية والفصائل المسلحة الفلسطينية ما يمكن اعتباره جرائم حرب، وحسب ما جاء في التقرير «ربما تعتبر جرائم ضد الإنسانية».

أدان التقرير إسرائيل بشدة ووضعها في موقف حرج، وشن قادتها هجوما عنيفا على التقرير، وتوعدوا بإسقاطه. وفي أكتوبر (تشرين الأول)، انفجر تسونامي غير متوقع، جراء رضوخ السلطة الفلسطينية لضغوط لتأجيل التصويت على التقرير في مجلس حقوق الإنسان الدولي في جنيف إلى مارس (آذار) المقبل. وظهرت السلطة أمام شعبها «كأول ضحية في التاريخ تمد طوق النجاة إلى جلادها»، على الرغم من تبريرات بأنها كانت تبحث عن تأييد أكبر للتقرير، وانفجرت موجة من الغضب الشعبي والرسمي على نحو غير مسبوق، ولاحقت الاتهامات والمظاهرات أبو مازن من رام الله إلى العاصمة الإيطالية روما، ووصفته بعض المظاهرات بنعوت غير مسبوقة.

وبالطبع جندت حماس كل إمكانياتها في مهاجمة أبو مازن، وانضمت لها فصائل المعارضة، ليفاجأ أبو مازن بانتقادات حتى من فصائل في منظمة التحرير، ومن قياديين في حركة فتح.

وحمل أنصار حماس نعشا لأبو مازن في غزة وقذفوا صوره بالأحذية، ودعا محمود الزهار عضو المكتب السياسي لحماس لسحب الجنسية من أبو مازن.

وما أحرج أبو مازن أكثر من غيره أن منظمة التحرير تنصلت من قرار التأجيل وكذلك صنعت فتح والحكومة في رام الله، وظل الرجل وحيدا في مواجهة الإعلام والجماهير الغاضبة.

وقال المفوض الإعلامي للجنة المركزية لحركة «فتح» محمد دحلان إن الحركة تعارض تماما تأجيل عرض تقرير غولدستون على الأمم المتحدة وطلبت من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير البحث في أسباب طلب هذا التأجيل.

وقال دحلان: «نحن ضد تأجيل عرض التقرير على الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه لسنا من يقود السلطة الفلسطينية. استمعنا إلى تصريحات من ممثلي السلطة في الأمم المتحدة، لكننا بحاجة إلى معرفة أسباب التأجيل».

واضطر أبو مازن لتشكيل لجنة صورية للتحقيق في ملابسات تأجيل التصويت، لم تعلن نتائجها للآن، لكن بعض رفاقه الحاليين والسابقين، ومن بينهم وزير الإعلام الأسبق نبيل عمرو، حمله مسؤولية التأجيل وطالبه بتحمل المسؤولية وإلغاء لجنة التحقيق، وقالت الجبهة الشعبية إن على الرجل أن يعتذر.

ورد أبو مازن مدافعا بأن تقرير غولدستون لم يكن سيحظى بالدعم المطلوب، وعبر أبو مازن عن غضبه مما وصفه بالمزايدات الرخيصة واستغلال التقرير، وبعد ذلك تطور الموقف بين حماس وفتح لجولة ردح متبادلة.

لم ينكر أبو مازن أنه شعر بإهانة وهو يرى الهجمة تطال عائلته كذلك (أبناؤه)، وانشغلت وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية أياما في متابعة تداعيات قرار التأجيل.

وكثرت الأقاويل والتفسيرات؛ قالت مصادر فلسطينية إن السلطة سحبت اعترافها بالتقرير بعد تعرض أبو مازن لضغوط شديدة من رئيس الحكومة سلام فياض. وقيل إن تهديدا مباشرا من هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية لأبو مازن كان وراء سحب التقرير. وقيل أيضا إن رئيس جهاز المخابرات العامة الإسرائيلي «الشاباك» يوفال ديسكين زار رام الله وأقنع أبو مازن بالتنكر لتقرير غولدستون.

وهددت السلطة بفضح دول عربية تقف وراء التأجيل. وردت منظمة المؤتمر الإسلامي بتحميلها السلطة السبب، لكن أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، أقر أخيرا بأن القيادة الفلسطينية أخطأت في قرارها. وقال عبد ربه إن «القيادة الفلسطينية ارتكبت خطأ بسحب تقرير غولدستون من مناقشات مجلس حقوق الإنسان في جنيف الخاص بالحرب الإسرائيلية على غزة». وأضاف: «إننا نعترف بهذا الخطأ».