2009 نهاية عقد : مغرب 2009: نهاية المسلسل الانتخابي.. وولادة «حزب الدولة»

«الأصالة والمعاصرة» أثار الزوابع.. وخلق الحدث

مغربي يدلي بصوته في انتخابات المحليات في الرباط يوم 12 يونيو (رويترز)
TT

يمكن القول إن سنة 2009 في المغرب هي سنة «الأصالة والمعاصرة» بامتياز، فخلالها تبلور «حزب الدولة» الذي خلق الحدث، وتمكن من اختزال المسافات الطويلة بسرعة قياسية ليحتل صدارة نتائج الانتخابات البلدية ليوم 12 يونيو (حزيران) 2009، ويفوز برئاسة عمديات مدن كبرى مثل مراكش وطنجة والحسيمة، ويظفر أمينه العام، محمد الشيخ بيد الله، برئاسة مجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان)، لتتأكد حقيقة مفادها أن عرابه فؤاد عالي الهمة، كانت لديه أجندة سياسية واضحة المعالم، عقب مغادرته وزارة الداخلية عشية موعد الانتخابات التشريعية لعام 2007، عكس ما جاء في تصريحاته التي أدلى بها آنذاك.

واستطاع حزب الأصالة والمعاصرة قبل الإعلان الرسمي عن تأسيسه في أغسطس (آب) 2008، خلط أوراق المشهد السياسي في البلاد، وتحريك مياه البحيرة الحزبية الراكدة، وإثارة لغط وجدل سياسي وإعلامي غداة الإعلان عن تشكيل حركة من أجل كل الديمقراطيين، التي اعتبرت «القاعدة» الأساسية الصلبة، والخطوة الأولى في رحلة الألف ميل لحزب الأصالة والمعاصرة، هذا مع العلم أن بعض مؤسسيها ظلوا يرددون في البداية، أن لا نية لتأسيس حزب جديد، وأن الحركة هي أكبر من جمعية، وأقل من حزب. لم يكف «الأصالة والمعاصرة» عن إثارة الزوابع هنا وهناك. واعتبر من لدن فاعلين سياسيين كثر أنه «حزب الدولة»، الذي يستنسخ تجارب الماضي، ويمضي قدما على خطى الأحزاب والهيئات السياسية التي أنجبتها الدولة منذ عقد الستينات من القرن الماضي، وهي هيئات اصطلح على تسميتها من طرف صحافة المعارضة آنذاك بـ«الأحزاب الإدارية»، بينما يحاول «الأصالة والمعاصرة» إبعاد هذه الصفة عنه، مقدما نفسه كحزب منخرط في الدفاع عن مشروع مجتمعي ديمقراطي وحداثي، وترشيد المشهد السياسي، وتجاوز واقع البلقنة، الذي طغى لعقود على الحياة الحزبية في البلاد.

وتسود قناعة لدى المراقبين أن «الأصالة والمعاصرة»، الذي اختار «الجرار» شعارا له، ما كان ليستمد قوته السياسية الحالية، لو لم يكن فؤاد عالي الهمة، الوزير المنتدب السابق في وزارة الداخلية، وصديق العاهل المغربي الملك محمد السادس، عرابه والمشرف المباشر على تأسيسه.

وفي سياق ذلك، ستظل سنة 2009 بالنسبة لحزب الأصالة والمعاصرة سنة حبلى بالمفارقات التي بصمت مساره التأسيسي. فهو أول حزب في البلاد يخرج إلى صفوف المعارضة، عشية إجراء الانتخابات البلدية، ويظل أحد وزرائه (أحمد اخشيشن، وزير التربية) مرابطا في الحكومة، رغم أن الحزب سارع إلى تجميد عضويته تفاديا للإحراج، وحالة التنافي. هذا دون نسيان أن حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي أسسه أحمد عصمان، رئيس الوزراء الأسبق، وصهر الملك الراحل الحسن الثاني، بعد الانتخابات التشريعية لعام 1977، سبق له أن خرج للمعارضة، وظل وزيران ينتميان إليه في الحكومة التي ترأسها الراحل المعطي بوعبيد، في بداية عقد الثمانينات من القرن الماضي، ويتعلق الأمر بمولاي أحمد العلوي وزير الدولة، والطيب بن الشيخ وزير التخطيط.

أما المفارقة الثانية فتكمن في عدم توفر «الأصالة والمعاصرة» على صحيفة ناطقة باسمه، ومع ذلك تحتل أخباره وصور عرابه الصفحات الأولى مما يسمى في المغرب «الصحف المستقلة»، في حين تكمن المفارقة الثالثة، في استطاعته تمكين أمينه العام محمد الشيخ بيد الله، من الوصول إلى رئاسة مجلس المستشارين، عبر كسب أصوات بعض أحزاب الغالبية، وهو الحزب المعارض، وذلك في سابقة هي الأولى من نوعها. وقتذاك، قال زعيم حزب من الغالبية، فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط» إن حزب الأصالة والمعاصرة يبدو أنه شرب «حليب السباع». ولم يكتف الحزب الجديد بهذا الحد بل أصبح مبادرا في كل شيء، في السياسة الداخلية والخارجية، ويدلو بدلوه في قضايا خلافية مثل التوتر القائم بين الدولة و«الصحافة المستقلة»، وتباين وجهات النظر بين الحكومة والعاملين في قطاع النقل إزاء مشروع قانون السير، متجاوزا في ذلك أحزاب الغالبية. هذا إلى جانب رفعه راية مواجهة حزب العدالة والتنمية الإسلامي المعارض بلا هوادة. كل هذه المعطيات جعلت بعض قياديي الأحزاب الأخرى ينظرون إليه بعين الشك والريبة والحذر، والتوجس أحيانا، لاسيما بعد أن استقطب «الأصالة والمعاصرة» وجوها سياسية في إطار «الترحال الحزبي»، وبنى هياكله على أنقاض أحزاب صغيرة أخرى، قام بابتلاعها مثلما يبتلع الحوت السمك الصغير، ويتعلق الأمر بأحزاب: «الوطني الديمقراطي» و«العهد» و«البيئة والتنمية» و«رابطة الحريات»و «مبادرة المواطنة والتنمية»، علما بأن ثلاثة من مؤسسي هذه التنظيمات سرعان ما نزلوا من مركب «الأصالة والمعاصرة»، لينشئوا أحزابا أخرى بأسماء مغايرة، معلنين اختلافهم معه، بل إن بعضهم رفع الأمر إلى القضاء. وتبعا لذلك، بدا أن اختيار «الجرار» شعارا للحزب لم يكن اعتباطيا، إذ حمل الشعار في طياته إشارة إلى أن «الأصالة والمعاصرة» عازم على حرث الحقل السياسي المغربي حرثا، وهو ما تم بالفعل.

ورغم الانتقادات المدرارة التي هطلت على الحزب، فإن قطاره مضى في سكته غير آبه بما يصدر، عن حق أو باطل، من منافسيه السياسيين، واضعا نصب عينيه تحقيق نصر خلال جميع مراحل المسلسل الانتخابي الطويل، الذي عرفه المغرب خلال هذه السنة.

وبالفعل، كان «الأصالة والمعاصرة» الحزب الأكثر حركية ودينامية خلال الحملة الانتخابية (البلديات)، وسجل أعلى رقم من حيث عدد التجمعات الانتخابية التي نظمها في مختلف أنحاء البلاد.

وفي سياق ذلك، يقول الدكتور سمير بودينار، رئيس مركز الدراسات والأبحاث بمدينة وجدة (شرق المغرب)، لـ«الشرق الأوسط»: إن «سنة 2009 باعتبارها أطول سنة انتخابية في المغرب، لم تستطع أن تفرز خريطة سياسية واضحة المعالم، تتيح لنا أن نتحدث عن تبلور اتجاهات سياسية متمايزة، أو مشاريع سياسية»، مشيرا إلى «أن الذي حدث أثناء وبعد الانتخابات هو عملية استعارة متبادلة للخطابات بين الدولة والأحزاب، وبين أحزاب الغالبية والمعارضة، وبين اليمين واليسار. أما مراكمة الحزب الجديد لمكاسب على الصعيد العددي، فإن قراءتها لا ينبغي أن تتم وفق الحسابات الانتخابية، ومنطق التمثيلية المؤسساتية».

ويعتقد بودينار أن ظاهرة «الأصالة والمعاصرة»، تبقى مرتبطة بالسياق المتعلق بالاستعارة المتبادلة للخطابات بين مؤسسة الدولة والأحزاب السياسية، خاصة فيما يتصل بموضوع المؤسسات وصلاحياتها، وأهمية مبدأ الاستمرارية وغير ذلك.

ويضيف بودينار أن السياق الآخر «الذي يمكن أن نقرأ فيه الظاهرة، هو حالة تلاشي الخطاب السياسي المؤسس على رؤية مجتمعية، وهي سمة تكاد تجمع كافة الفاعلين في الحقل الحزبي في مغرب اليوم، بما في ذلك الوافد الجديد (الأصالة والمعاصرة)، مع استثناءات قليلة، مما ترك المجال واسعا لحالات السجال المتشنج، والمواقف المضادة، وردود الأفعال».

بيد أن استعمال مصطلح «الوافد الجديد»، الذي ذكره بودينار، وأطلقه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (مشارك في الحكومة)، على «الأصالة والمعاصرة»، الذي ساند الحكومة وشارك فيها، قبل أن يتحول إلى معارضتها، بدأ يتلاشى تدريجيا، عقب انتهاء المسلسل الانتخابي، لدرجة أن قياديين في «الاتحاد الاشتراكي» غيروا من لهجتهم، بل وموقفهم نحوه، ومثال ذلك ما عبر عنه جمال أغماني، وزير التشغيل والتكوين المهني، الذي قال مؤخرا في برنامج تلفزيوني: «يجب أن نكون صرحاء، الأصالة والمعاصرة حزب له نشاط سياسي، وله تأثير قوي في الساحة السياسية». ويرى حسن قرنفل، أستاذ علم الاجتماع السياسي، أن انتخابات 2009 شكلت أول اختبار حقيقي لحزب الأصالة والمعاصرة، الذي خاض غمارها بعد أن استقطب عددا من الفعاليات السياسية، سواء التي كانت تنتمي إلى أحزاب أخرى، أو بعض الأسماء المستقلة، أو ذات الحضور الوازن في المجتمع المدني، مما جعله يفوز بالمراتب الأولى في كل استحقاقات المسلسل الانتخابي، ويثبت قدمه في المشهد السياسي المغربي باعتباره حزبا أساسيا في المعادلة السياسية المغربية».

وزاد قرنفل قائلا «إن حزب الأصالة والمعاصرة فاجأ الجميع بتشبثه بموقع المعارضة، رغم أن مواقفه السياسية تتقاطع في كثير من الأحيان مع المواقف الحكومية، وهو ما جعل بعض الملاحظين يعتبرون أن المرحلة المتبقية أمام تنظيم الانتخابات التشريعية المقبلة (2012)، هي مرحلة استعداد للحزب ليتبوأ مكانة أكثر أهمية في الساحة السياسية من قبيل الوصول إلى رئاسة الوزراء، وتدبير عدة قطاعات حكومية».

ولاحظ قرنفل «أن حزب الأصالة والمعاصرة أبان خلال تدبيره لتشكيل المجالس البلدية والقروية والإقليمية، عن قدرة كبيرة على المناورة، واختار حلفاءه بكثير من الذكاء، ومارس سلوكا سياسيا يتسم ببعد النظر، إذ لم يظهر رغبة أكبر في الاستيلاء على كل المواقع، بقدر ما كان يتدخل لتوزيع وتنظيم المشهد السياسي على المستوى المحلي والإقليمي والبلدي»، مشيرا إلى أن هذا السلوك دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الحزب «ينطلق من تنسيق مسبق مع أجهزة الدولة، رغم أنه يتبنى أحيانا منطق الدولة، وينتقد، أحيانا أخرى، سلوكيات بعض مسؤوليها، لدرجة تجعل المراقبين يترددون في تصنيف الحزب، أو الحكم على سلوكه، والخانة التي يتعين وضعه فيها». لكن الكاتب الصحافي محمد حفيظ، وهو رئيس سابق للتنظيم الشبابي لحزب الاتحاد الاشتراكي، ذاع صيته جراء رفضه قبول عضويته في برلمان 1998، معتبرا أن وزارة الداخلية (أيام الراحل إدريس البصري) زورت الاقتراع لصالحه، سبق أن ذكر في مقال كتبه في صحيفة «الحياة الجديدة» المغربية الأسبوعية، عقب إعفاء منير الشرايبي، والي (محافظ) مراكش، من مهامه جراء احتجاج «الأصالة والمعاصرة» على ممارسات قام بها كانت تروم الحد من صلاحيات عمدة المدينة، المنتخبة باسمه: إن أسوأ التوقعات التي كان عدد من الفاعلين السياسيين والحقوقيين والباحثين الأكاديميين، ومواطنون مهتمون قد نبهوا إليها عند إعلان عالي الهمة عن تأسيس حزب سياسي.. هو أن يشهد المغرب مرة أخرى ظاهرة «حزب الدولة»، لكن التوقع الأكثر سوءا، يضيف حفيظ، هو أن تتحول الدولة المغربية إلى «دولة الحزب»، وهذا ما «كشفت عنه الانتخابات الأخيرة، وتؤكده تداعياتها التي لم تتوقف». وزكى حفيظ قناعاته بوجود حالة من التماهي بين الدولة والحزب الجديد، بالإشارة إلى رد فعل وزارة الداخلية السريع إزاء كل ما يصدر من انتقادات عن «الأصالة والمعاصرة» لدرجة أن الوزارة، يقول حفيظ، ظهرت مذعنة لمطالبه، وأرسلت لجنة للتحقيق في اتهامات الحزب لوالي مراكش، بينما لم يتم التجاوب مع انتقادات وملاحظات ومؤاخذات أحزاب أخرى ضمنها «العدالة والتنمية»، على ما وقع من اختلالات في مناطق متعددة من البلاد.

وفي سياق ذلك، يجزم كثير من المراقبين أن «الأصالة والمعاصرة»، رغم كل ما يقال، تفوق على سائر الأحزاب بما فيها أحزاب الغالبية الحالية، التي يبدو أنها نامت في «عسل الحكومة» لدرجة إصابتها بالعقم، وجفاف الخيال، إزاء التعامل مع المستجدات التي يعرفها المغرب في مختلف الصعد. فبينما حدد «الأصالة والمعاصرة» أهدافه ومراميه بدقة متناهية، بدت باقي الأحزاب الأخرى الوازنة فاقدة للبوصلة، ويغشى عيونها ضباب كثيف يحجب عنها الرؤية، ويجعلها أسيرة امتيازات المرحلة.