الروس يقبلون على قصة «زوجين بطلين» من جواسيس الحقبة السوفياتية

جالا العالم بهويات أخرى وتسللا لهوليوود.. والدولة رفضت إبلاغ ابنهما بمهامهما السابقة

TT

لم يكشف إلا عن القليل من المعلومات بشأن المهام التي اضطلع بها ميخائيل ويلزافيتا موكاسي، المعروفين باسمي زيفير وإليزا، لكن رغم ذلك، تحول العميلان المخضرمان اللذان جالا العالم إلى بطلين على الصعيد الوطني في روسيا. على مدار خمس سنوات، وبينما رزح العالم تحت ويلات الحرب، سار الزوجان الروسيان جنبا إلى جنب مع شخصيات أمثال والت ديزني وأورسون ويليز. كما حضرا تصوير فيلم «الديكتاتور العظيم» بدعوة من تشارلي تشابلن.

أطلق المسؤولون عن التعامل مع الزوجين عليهما زيفير وإليزا. من لوس أنجليس، انطلق الزوجان في مهام سرية، تنقلا خلالها عبر عشرات الدول، من إسرائيل حتى تشيكوسلوفاكيا؛ حيث عملا كجاسوسين لصالح الاتحاد السوفياتي. طيلة عقود طويلة ضاعت قصة الزوجين في خضم الحرب الباردة؛ إلا أنها ظهرت مجددا على السطح هذا العام، بعد تفجير وسائل الإعلام الرسمية الروسية لها. وجاءت وفاة يلزافيتا هذا الخريف، كأرملة في الـ97 من عمرها، لتمنح المسؤولين الروس فرصة للتباهي بالمغامرات الشجاعة للزوجين. ووجدت القصة جمهورا متشوقا؛ حيث يشتهر الروس بعشق القصص المثيرة المتعلقة بالجواسيس، خاصة إذا كانت تنتمي لأيام المجد في عهد الاتحاد السوفياتي والحرب العالمية الثانية. ومع إضافة لمسة نجومية من هوليوود، تزداد القصة بريقا. على الرغم من تصاعد الاهتمام بالزوجين، فإن الحقائق الموثوق منها بشأنهما شحيحة. وأشار نجلهما، أناتولي موكاسي، 71 عاما، إلى أن مسؤولي استخبارات أبلغوه أن الدولة الروسية لن تكشف كامل المعلومات الخاصة بالمهام التي نفذها والداه قبل 50 عاما. ولا يتوافر حتى الآن سوى قصص أخبرها الزوجان لأطفالهما، وذكريات مشتتة وثقها الزوجان في صورة مطبوعة. وقال أناتولي موكاسي، أثناء تناوله قدحا من الشاي داخل مطعم ستاربكس قرب شقته في موسكو «لا أعلم الكثير عن عملهما، والاحتمال الأكبر أنني لن أعلم عن ذلك أبدا».

خلال سنوات نشاطات والديه السرية بعد رحيلهما عن لوس أنجليس عام 1943، عاش أناتولي موكاسي وشقيقته، إيلا، من دون والديهما في موسكو. ولم يخبرهما أحد بمكان والديهما، وإنما كل ما علماه أنهما في الخارج ومشغولان للغاية. في تلك الأثناء، عاش الطفلان تحت رعاية النظام السوفياتي؛ عاشت معهما جدتهما، تانيا. وكان هناك أشخاص يطلق عليهم اسم «مشرفون» كانوا يمرون من وقت لآخر على الطفلين للتعرف على مستوى تطورهما الأخلاقي والفلسفي. في بعض الأحيان، ومن دون سابق إنذار، كان أحد الوالدين أو كلاهما يظهر على أطراف فناء اللعب أو على أعتاب المنزل. ووصف موكاسي هذا الظهور المفاجئ بقوله: «كانت زيارات قصيرة للغاية. أتذكر أنهما كانا يبدوان مثل والدي، لكن قدرتهما على التحدث بالروسية كانت ضعيفة للغاية؛ بسبب عدم نطقهما كلمة روسية واحدة لسنوات طويلة». ومثلما جرت العادة مع الأطفال الروس المهذبين، شعر موكاسي وشقيقته أن من الأفضل الامتناع عن طرح كثير من الأسئلة. وقال موكاسي «بدأنا نعي الأمر؛ لأننا تلقينا رسائل مطبوعة على الآلة الكاتبة من أمي وأبي، بجانب صندوق من الهدايا كل عام أو ثلاثة أعوام. وأدركنا أن هذه الهدايا أجنبية، وأنهما عاجزان عن كتابة الرسائل بخط أيديهما، وأن هذا كله جزء من عملهما؛ وبذلك أدركنا أن عملهما خطير». المؤكد أن حياة والديه ستغلفها السرية إلى الأبد، بل حتى اللقاء الأول بين الزوجين داخل مقهى للطلاب في سان بطرسبرغ (لينينغراد حينذاك) محاط بتفاصيل سوفياتية مثالية؛ لدرجة تجعل من الصعب تمييز الأحداث الحقيقية عن الأخرى المختلقة. من جانبهم، أشار مسؤولون استخباراتيون إلى أن نيكولا دولغوبولوف، نائب رئيس تحرير صحيفة «روسيسكايا غازيتا»، يعتبر المصدر الأمثل للمعلومات بشأن الزوجين. كان دولغوبولوف قد أجرى أبحاثا ومقابلات مكثفة مع أفراد أسرة موكاسي، وأبدى إعجابا شديدا بالزوجين. وتسير قصته عن أول لقاء بينهما على النحو التالي: كان عام 1932، وكانا طالبين ينتميان لأسرتين فقيرتين، ويعيشان بعيدا عن أهلهما. كان زيفير نجل أسرة يهودية تعيش فيما يعرف الآن باسم روسيا البيضاء. وقال عنه دولغوبولوف: «فتى من مكان صغير، كانت كل هرة وكلب به يتعرض للقتل خلال فترة الاحتلال الفاشستي، وكان يتحدث خمس أو ست لغات».

أما إليزا، فتنتمي إلى أسرة من المزارعين في وسط روسيا، وقال دولغوبولوف عنها: «كانت جميلة للغاية؛ فحتى عندما قابلتها وكانت متقدمة في العمر كانت جميلة للغاية». لفتت أنظار موكاسي الشاب شابة جميلة يبدو عليها الشحوب، تسير عبر غرفة الطعام المزدحمة؛ اقترب منها وسألها إلى أين تتجه. كانت تسير باتجاه الشارع للمشاركة في مسيرة؛ احتفالا باليوم العالمي للعمال في الأول من مايو (أيار). ورد موكاسي بالقول إنه ينبغي عليها عدم الإقدام على ذلك؛ لما يبدو عليها من إعياء. واستشف موكاسي أنها تتضور جوعا؛ لذا قدم لها طعاما. ومنذ تلك اللحظة، بقيا معا حتى نهاية العمر.

في عام 1939، انتقل موكاسي وزوجته وطفلاه الصغيران إلى لوس أنجليس. وكانت أول وآخر مرة يعملان فيها في الخارج بهويتهما الحقيقية. وعمل موكاسي خلال تلك الفترة في منصب نائب قنصل بالبعثة السوفياتية. اختلط الزوجان بحرية بنجوم هوليوود، الذين انجذب الكثير منهم إلى القيم المثالية التي آمن بها الزوجان والمتعلقة بالشيوعية، وراودتهم رغبة قوية في انضمام الحكومة الأميركية إلى القتال ضد هتلر. كانت لدى الزوجين شبكة من العملاء وعمدا إلى جمع معلومات منهم، لكنهما لم يفصحا عن هوية أي من المتواطئين معهما إلا من ألقي القبض عليهم ومثلوا أمام المحاكم الأميركية منذ زمن بعيد، وذلك في إطار مذكراتهما التي نشرت بعنوان «زيفير وإليزا: جاسوسان سريان». نجح الكتاب في اجتذاب حلقة صغيرة من القراء، لكنه لم يحظ بأي اهتمام إعلامي. في مذكراتهما، ألمح الزوجان إلى أنه كان هناك متعاونان آخران معهما لم يُكشف النقاب عنهما قط. ثم رحلت الأسرة عن هوليوود واستقلت سفينة إلى فلاديفوستوك، متقهقرين إلى ما وراء «الستار الحديدي»، وسرعان ما وجد الطفلان نفسيهما في موسكو، بينما اختفى والداهما وانطلقا في مهام سرية. تضمنت مهام الزوجين السفر عبر سويسرا إلى دول أخرى في أوروبا الغربية بهويات زائفة؛ حيث سافر موكاسي باعتباره مقيما في تشيكوسلوفاكيا من أصل سويسري، بينما ادعت زوجته أنها بولندية. كتبت إليزا في مذكراتها أنه «طبقا للهوية المختلقة، كان لدي طفل توفي أثناء الحرب. وقد وفر لي ذلك ذريعة لزيارة أي كنيسة كاثوليكية أو مقبرة بأي مدينة». تدربت إليزا في موسكو على الإذاعة. وما بدا أنه سلك ممتد من المكنسة الكهربائية الخاصة بها كان في حقيقته هوائي راديو ممتدا حتى الغرفة العلوية بالمنزل؛ حيث تعلق الملابس. وأشار الزوجان في مذكراتهما إلى أن إليزا «بدت كربة منزل تقوم بالغسيل». عندما تزوجت ابنتهما في أواخر الخمسينات، سمح للزوجين بالعودة إلى موسكو لمدة شهر. ولا تزال الأسرة تتذكر تلك الفترة باعتبارها فترة راحة رائعة من رحلة غياب طويلة موحشة.

وحرص الزوجان على الاستفادة من هذه العطلة بأقصى صورة ممكنة. وعندما ألمح رؤساؤهما إلى إمكانية تدريب طفليهما ليسيرا على نهجيهما، انتاب موكاسي وزوجته الفزع. قال موكاسي الابن: «رفضا هذا الأمر على نحو قاطع. وقالا لا نود أن يرحل ولدانا بعيدا ويعانيا ما عانيناه». واضح أن ميل الزوجين للعمل في المجال الفني امتد حتى نهاية العمر؛ فلدى عودتهما إلى موسكو، عثرت يلزافيتا على عمل كسكرتيرة بأحد المسارح، وأصبح الزوجان من العناصر البارزة على الساحة الفنية. وقد توفي ميخائيل العام الماضي. وقال أناتولي، الذي أصبح واحدا من أشهر المصورين السينمائيين في روسيا، إنه في السنوات الأخيرة من عمر والديه، كان يلح وشقيقته عليهما بالسؤال «لماذا تظهر قصص جواسيس آخرين في التلفزيون بينما لا يسمع بكما أحد؟». وأضاف «قال والدي: في مهنتنا يا بني، فقط الذين يفضح أمرهم، يصبحون مشاهير. ونحن لم تفضح حقيقتنا قط. إننا لم نقترف خطأ قط».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» خاص بـ«الشرق الأوسط»