2009 نهاية عقد: المقرحي.. يعود إلى ليبيا

البعض ربط قرار إطلاق سراحه بثروة بلاده النفطية.. وآخرون ربطوه بالإصلاحيين

المقرحي على سلم الطائرة في طريقه إلى ليبيا (أ.ب)
TT

يعتقد البعض أن عودة المدان في تفجير لوكربي الليبي عبد الباسط المقرحي، مرتبطة بثروة بلاده النفطية. لكن يعتقد آخرون أن رجوعه إلى ليبيا، هو ثمرة من ثمار بدأت تطرحها في عام 2009، شجرة الإصلاحيين في ليبيا، كما يحلو للبعض أن يسميها. ومع أنه يصر على أن الرجل بريء، سلم القذافي، المقرحي إلى بريطانيا لمحاكمته، قبيل نهاية التسعينات، أمام محاكم دولة ثالثة هي هولندا، في محاولة منه لرفع العقوبات الدولية المفروضة على بلاده. لكن المقرحي أدين بتهمة تفجير طائرة بان أميركان فوق لوكربي الاسكوتلندية في عام 1988، وهي الحادثة التي وقع ضحيتها 270 شخصا، معظمهم من الأميركيين.

ويقول المقرحي إنه بريء، وأن لا علاقة له بالحادث. لكن الإفراج عنه لم يكن بسبب براءته أو بسبب إصابته بالسرطان فقط، بل ربما بسبب عقود تجارية وقعتها ليبيا مع بريطانيا، وهو ما نفته لندن في حينه. هذا الأمر أثار الأميركيين، وانبرى مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» بالقول إن إطلاق المقرحي يبعث الراحة في نفوس «الإرهابيين». واعتبر ساسة وقضاة غربيون الإفراج عن المدان الليبي «استهزاء بالقانون».

ولد عبد الباسط المقرحي في الأول من أبريل (نيسان) عام 1952، في العاصمة الليبية، ودرس في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا خلال سبعينات القرن الماضي. وهو متزوج ولديه خمسة أبناء، وتنقل بين عدة أعمال قبل شهرته التي سببتها له قضية لوكربي، حيث عمل مديرا للمركز الليبي للدراسات الإستراتيجية، ثم رئيس أمن الطيران بشركة الخطوط الجوية الليبية في مطار بمالطا. وتعود قضية لوكربي إلى عام 1991 حين وجهت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى كل من المقرحي وزميله في العمل بالخطوط الجوية الليبية، الأمين خليفة فحيمة، تهما بمسؤوليتهما عن تفجير الطائرة الأميركية فوق لوكربي. وبسبب رفض ليبيا في البداية تسليم المطلوبَين تعرضت لعقوبات اقتصادية وعسكرية، بقرار من مجلس الأمن عام 1992. ومثل المقرحي وفحيمة أمام المحكمة في عام 2000، وبينما قررت المحكمة تبرئة فحيمة في العام التالي، قررت إدانة المقرحي بالمسؤولية عن تفجير الطائرة، واتهمه الادعاء الاسكوتلندي بالعمل لصالح المخابرات الليبية، وصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد. وتقدم محامو المقرحي بعدة طلبات لاستئناف الحكم، لم تقبل. إلا انه عاد إلى بلاده طليقا لأسباب صحية، بقرار من السلطات القضائية الاسكوتلندية في 20 أغسطس (آب) 2009، وذلك قبل أن يتقدم باستئنافه الأخير، الذي يقول المقرحي إنه يثبت براءته من التهم المنسوبة إليه. وكانت وجهة نظر السلطات القضائية الاسكوتلندية في الإفراج عن المقرحي، أنه مصاب بمرض سرطان البروستاتا، في مراحله المتأخرة، وأنه من الأفضل أن يقضي المقرحي نحبه في ليبيا، لا في سجون اسكوتلندا.

كانت مسألة الإفراج عن المقرحي نقطة فاصلة عاد بها سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي، إلى دائرة الضوء مرة أخرى، بعد أن خرج من البلاد غاضبا من جبهة المحافظين الرافضة لمطالبه بدستور جديد للبلاد، والتصالح مع المعارضين. وبينما بدا سيف الإسلام، عقب رجوعه لدائرة السياسة، قويا، كان الوهن يدب في أوصال المقرحي وهو يرقد فوق سرير في الطابق الأول من منزله المجاور لمصرف الجمهورية في حي دمشق الجديد بالعاصمة طرابلس.

وبينما كان نجل القذافي يعيد ترتيب أوراقه لاستئناف نشاطه في الأوساط الليبية، وفيما كان المقرحي يرد على زواره بهمهمات غير واضحة، بسبب المرض، كان الغرب يعلن عن غضبه من مظاهر الاحتفالات الشعبية التي صاحبت عودة المقرحي، من أول مطار طرابلس الدولي، حتى بيته جنوب غرب العاصمة. وحيث أنه من غير المعتاد في ليبيا انتقاد السياسات الداخلية والخارجية لنظام الحكم، فقد انصب الغضب المعلن بين زوار المقرحي على ابتزاز الغرب للدولة الليبية رغبة في الحصول على مكاسب، أي النفط الليبي الغزير الواعد النقي.

وبمناسبة عودة المقرحي والزخم المحلي والدولي الذي صاحب هذه العودة، أصبح يوجد اعتقاد راسخ بين غالبية الليبيين بأن السبب في اهتمام العالم بليبيا وبمستقبل منظومة الحكم فيها، يتعلق بالحرص على مصالح الدول الغربية، وتتركز هذه المصالح مرة أخرى على النفط، وليس أي شيء آخر.

وخرجت تكهنات كثيرة حول وجود صلة بين الإفراج عن المقرحي ومستقبل استثمار الشركات الغربية على رأسها بريطانيا التي لها في ليبيا شركة بي. بي، وخصصت هذه الأخيرة نحو مليار دولار للتنقيب عن النفط والغاز في الصحراء هناك.

أما على الصعيد المحلي فيبدو أن عودة المقرحي تهدف إلى مصالح أخرى، هي تحسين وجه مجموعة الإصلاحيين. هذا كان في اللحظة التي تجلت أمام عدسات المصورين: انفتح باب الطائرة.. ظهر منه سيف الإسلام وهو يحتضن المقرحي، قبل أن يهبطا الدرجات إلى أرض الوطن. الطريقة التي يعبر بها الليبيون عن فرحتهم بعودة المقرحي، تعكس مدى التغير الجاري على الساحة السياسية هناك.. من قبل كان الفضل كل الفضل ينسب لرجل واحد، وزعيم واحد، هو معمر القذافي الذي قاد انقلابا على ملك البلاد قبل أربعين عاما. لكن في عام 2009 أصبح من الممكن أن تسمع في المنتديات الليبية العامة مديحا لشخص العقيد معمر القذافي، مقرونا بمديح لنجله سيف الإسلام.

ودفعت الاحتفالات بعودة المقرحي بعض أنصار القذافي الابن لرفع لافتات قماشية خضراء مكتوب عليها عبارات تؤشر على زعامة نجل الابن الشاب، باعتباره من الجيل الجديد، ومن جيل الغد، وهكذا. مثل هذه اللافتات لم تكن ترفع من قبل إلا لـ«الأخ قائد الثورة».

وتجلت المكاسب التي حققها ما يطلق عليهم «الإصلاحيون» في تولي سيف الإسلام مواقع مهمة هذا العام تجعل منه الرجل الثاني في البلاد. كان الوضع في الخارج مختلفا.. انتقادات وغضب من جانب حكومات غربية ترى أن طرابلس استقبلت «قاتلا مدانا استقبال الأبطال». ونظر بعض المحللين الغربيين إلى الأمر على أنه لا يزيد على محاول مداهنة للحرس القديم القويّ من جانب مجموعة الإصلاحيين.. كما أن فتح المجموعة الأخيرة الأبواب أمام مصالحة مع الغرب سوف يعزز من قوتها مستقبلا.