2009 نهاية عقد: استمرار تخلي الإسلاميين المتشددين عن رفع السلاح

قطار المراجعات يطوي العنف في 2009 داخل المحطة الليبية

TT

ركبت الجماعة الإسلامية المقاتلة قطار المراجعات الفكرية، لتغير من منهجها المسلح في معارضة الدولة، إلى المنهج السلمي، في عام 2009. والتحقت بذلك بمن سبقوها من إسلاميين متشددين في عدة بلدان عربية، أعلنوا تخليهم عن العنف، والجنوح إلى السلم، وأطلقوا وثيقة باسم «دراسات تصحيحية في فهم الجهاد».

كانت قيادات الجماعة الإسلامية المقاتلة بدأت بالعودة من الحرب (الجهاد) في أفغانستان في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. وكان يمكن أن ترى عددا منهم، ومن أنصارهم وهم يقفزون، في ذلك الوقت، فوق الحواجز الأمنية في عدة مدن ليبية، خصوصا في المناطق الشرقية، في مواجهات مع رجال الشرطة والجيش. وكان عدد الليبيين الذين سافروا إلى أفغانستان يصل إلى نحو 2500، عاد معظمهم إلى البلاد في بداية العقد الماضي.

في عام 1993 بدأت عمليات الجماعة الإسلامية المقاتلة، منطلقة من منطقة الجبل الأخضر، قرب مدن بنغازي وإجدابيا ودرنة، شرق البلاد، وهي منطقة معروف عنها مناوأتها التاريخية لأي سلطة مركزية موجودة في طرابلس. ومنذ عام 1995 تمكنت السلطات الليبية، كما الحال بالنسبة للسلطات في عدة دول عربية، من نصب الشباك على الطرقات والهجوم على المكامن، لاصطياد الدعاة المتشددين والمقاتلين، من بينهم من هم مدربون تدريبا جيدا على التفجير والقنص وحرب الشوارع.

وألقي في كثير من البلدان، خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، القبض على الآلاف من هذا الفصيل الإسلامي الجهادي المتشدد الذي ينتمي إلى نوع من الفصائل المثيرة لصداع الدول العربية والأجنبية. كما أعلنت الجماعة الإسلامية في مصر، عن مراجعات فكرية تخلت بموجبها عن العنف ضد الدولة (1997)، تبعتها كذلك جماعة الجهاد (2007)، في مقابل خروج الآلاف من أعضاء مثل هذه الجماعات من السجون. نجاح التجربة في مصر، أغرى أنظمة ومتشددين بتكرارها، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وهي الأحداث التي أعطت مشروعية لملاحقة الإسلاميين المتشددين، وترقب تصرفاتهم وحثهم على التخلي عن العنف، والاندماج في المجتمع.

الظروف العامة الجديدة محليا ودوليا، التي شهدت تغيرا كبيرا مقارنة بالوقت الذي كان المتشددون يرفعون السلاح ضد معارضيهم، جعلت الإسلاميين في السجون يدركون عدم جدوى استمرارهم محبوسين بين الجدران الباردة، بعيدا عن ذويهم. لقد اختلفت الأحوال السياسية والاجتماعية التي نتج عنها تيار الإسلام المتشدد، ويلعب اليوم الإسلام السياسي المعتدل دورا في امتصاص الغضب وفي تراجع الأصولية العنيفة، في مقابل الحوار ومقارعة الحجة بالحجة، دون اللجوء إلى إراقة دماء الخصوم. ويوجد خيار آخر بالنسبة لمن يقولون إنهم اضطروا إلى التوقيع على المراجعات دون اقتناع بها، وهذا الخيار هو التزام الصمت، والانزواء بعيدا عن التيار العام في المجتمعات العربية الذي أصبح يميل إلى الاعتدال، بعد أن عاش رعب التفجيرات المفاجئة في مصر والمغرب والجزائر والسعودية والعراق ولبنان وغيرها. وتقول الجماعة الإسلامية في بداية الوثيقة الخاصة بمراجعاتها الفكرية التي تخلت بموجبها عن العنف: «لا يختلف أبناء المسلمين اليوم، في أن نجاتهم وخروجهم من ضعفهم لن يكون إلا بما ارتقى به أسلافهم، أولئك الأقوام الذين فتحوا قلوب الناس قبل الأقطار، ونشروا المبادئ والقيم النبيلة في الآفاق، فما من مسلم يرى حال الضعف الذي أصاب الأمة والتأخر والتقهقر الذي عانت منه إلا وأورثه ذلك حزنا وأرقا، وزرع بداخله الرغبة في النهوض بأمته.. لذا حاول كثير من الغيورين والمتحمسين، أن يسهموا بشكل أو بآخر في خدمة الدين والنهوض بالأمة، ولما كانت جهودهم بشرية، واجتهاداتهم إنسانية، كان لا بد أن يشوبها الخلل، ويعتريها النقص والزلل، لأسباب كثيرة منها: غياب العلماء عن ساحة التوجيه، وحداثة التجارب، وقلة الخبرات».

وتقول أيضا إنه «كان لزاما على من يظهر له شيء من ذلك القصور، وتتكشف له تلك الأخطاء من نفسه أو من غيره، أن يبادر إلى إصلاحها وتقويمها بما يستطيع، ابتغاء مرضاة الله تعالى، وحذرا من سؤاله وعقابه، ونصحا للأمة، وحرصا على أبنائها ممن قد لا يدركون ما أدركه، أو لم يسلكوا ما سلكه، أو قصرت تجاربهم عن تجاربه، فالمسلمون جسد واحد وأمة واحدة».

ويمكن لأعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا، وهم من آخر الإسلاميين العرب ممن أجروا مراجعات في 2009، وبدأوا في الخروج من السجون، أن يتبعوا عدة طرق، سبقهم إليها تائبون مصريون وغير مصريين، منها الانخراط في الحياة السياسية السلمية، أو الاكتفاء بتأسيس مواقع إلكترونية وطرح أفكارهم، الملتزمة بدستور الدولة، في تلك المواقع. أو الاكتفاء بالاستمتاع بدفء البيت وصحبة الأسرة، بعد سنوات من الغياب في السجون.

في المغرب مثلا انخرطت حركة التوحيد والإصلاح مع الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية، والحركة من أجل الأمة أسست حزبا ملتزما بالمنهج العام في البلاد.. وسبق هذه المبادرات الإيجابية بالنسبة للنظم، وللمجتمع أيضا، توجهات بتأسيس أحزاب رسمية لإسلاميين مصريين من جماعة الإخوان ومن الجماعة الإسلامية ومن جماعة الجهاد، لكن الموافقة على التأسيس لم تخرج إلى النور بعد، ربما لرغبة السلطات في التأكد من حسن نوايا هؤلاء الإسلاميين.

وأسست قيادات أخرى من الجماعة الإسلامية في مصر موقعا على الإنترنت يحمل اسم الجماعة، ويتفاعل مع الحراك الاجتماعي العربي العام، من خلال فتاوى وتعليقات وأعمال أدبية إبداعية، وكذا نشر رسوم كرتونية، وصور، وإصدار بيانات تعبر عن توجهات الجماعة، تدعو فيها، إجمالا إلى نبذ العنف والتعصب الأعمى، والجنوح إلى الحوار والنقاش. ويشترك غالبية أعضاء الجماعات المتشددة، بعد الانتهاء من مراجعاتهم، في عدة نقاط منها الاستمرار في رفض الديمقراطية على اعتبار أنها من الغرب الكافر، في الوقت نفسه الذي تلتزم فيه كذلك بالابتعاد عن العمل السياسي، والاكتفاء بالدعوة.

وجاء الإفراج عن قرابة 200 عضو من أعضاء الجماعة الإسلامية في ليبيا، في 2009، بعد نحو 20 شهرا من حوار أجري بين الحكومة الليبية وقادة من الجماعة داخل السجون، أسهم في نجاحها وسطاء من شيوخ مقربين من الدولة الليبية ومن شخصيات ذات حيثية مثل سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي.

ويصف الشيخ علي الصلابي، المفكر الإسلامي الليبي المقيم في قطر، مراجعات الجماعة المقاتلة في ليبيا بأنها «ربما تفوق مراجعات الإسلاميين في مصر لقوة الصياغة، وحضور الأدلة، وروعة البيان». ويعارض تنظيم القاعدة انخراط الإسلاميين في المراجعات. ولا تأتي قضية المراجعات على هوى قادته المختفين في جبال باكستان. ومنذ البداية قابل هذا التنظيم المولود من رحم السلفية الجهادية، وثيقة «ترشيد العمل الجهادي» للشيخ سيد إمام، منظّر تنظيم الجهاد في مصر، بالرفض والهجوم أيضا.