2009 نهاية عقد : باكستان.. حرب الداخل

هجمات انتحارية شبه يومية انتقاما من المؤسسة العسكرية وللرد على عمليات وزيرستان

باكستاني يحاول اخماد النيران نتيجة عمليات انتحارية بسيارات ملغمة في أحد الأسواق عام 2009 (أ.ب)
TT

خلال ست ساعات من الهجوم الإرهابي الذي ضرب مسجدا يرتاده العسكريون في روالبندي في الرابع من ديسمبر (كانون الأول) أبلغ ولي الرحمن محسود، قائد جماعة طالبان الباكستانية، الصحافيين الباكستانيين عبر هاتف جوال يعمل عبر الأقمار الصناعية بأن رجاله هم من نفذوا الهجوم. وأوضح قائد طالبان خلال المحادثة القصيرة أن التفجير يأتي انتقاما من المؤسسة العسكرية ردا على عمليات جنوب وزيرستان. وسكان القاعدة العسكرية في روالبندي لديهم أدلة قوية على وحشية طالبان، فقد قتل 17 طفلا بين ما يزيد على 40 قتيلا في التفجير الانتحاري على مسجد القاعدة العسكرية الواقعة خارج إسلام آباد خلال صلاة الجمعة. يقع المسجد الذي شهد الهجوم في منطقة سكنية في القاعدة حيث يقطن غالبية المسؤولين العسكريين والمتقاعدين في الجيش الباكستاني. وكان غالبية القتلى من مسؤولي الجيش وأطفالهم الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة. بعد أن فجر الانتحاري نفسه في المسجد فتح المهاجمون النار بصورة عشوائية من أسلحتهم الأوتوماتيكية على المصلين. وقد اهتم المهاجمون باستهداف الأطفال بشكل خاص، وقال أحد الناجين من الهجوم: «عندما فر الأطفال إلى الساحة الخلفية للنجاة بأنفسهم انطلق المهاجمون خلفهم وقتلوهم. وقد صاح أحد المهاجمين خلال قتله الأطفال بدم بارد: سنقضي على ذريتهم». يأتي هجوم المسجد كدليل جديد على أن الحرب للسيطرة على منطقة القبائل الباكستانية ستنتقل إلى المدن الباكستانية الكبرى مثل إسلام آباد وروالبندي وبيشاور ولاهور. وما من يوم يمر من دون وقوع حادث إرهابي كبير في واحدة من هذه المدن الكبرى. في البداية، كان المقاتلون يختارون أهدافا قوية مثل المنشآت العسكرية والأشخاص البارزين في الجيش الباكستاني، غير أن المدنيين صاروا أهدافا لهذه الهجمات خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. وقال اعتزاز إحسان، العضو البارز في حزب الشعب الحاكم: «الأمة كلها في حالة حرب». ونظرا لتحول المدن الكبرى الباكستانية إلى أهداف للهجمات الإرهابية، تحولت حياة المدنيين إلى حالة من الخوف المستمر. فقد أغلقت المؤسسات التعليمية أبوابها قرابة شهر في أعقاب بداية العمليات العسكرية في جنوب وزيرستان. أما مراكز الأعمال والتسوق فلم تكن أفضل حالا، وحصنت الحكومة نفسها داخل المكاتب الحكومية والتجمعات السكنية شديدة الحراسة. ويشير الخبراء العسكريون إلى أن تفوق الجيش الباكستاني سواء من ناحية العدد والعدة كان عامل حسم في عدم إقدام قادة طالبان على مقاومة القوات المتقدمة، وكان الخيار الوحيد المتاح بالنسبة لهم شن حرب عصابات. ويشير البريغادير المتقاعد والمحلل العسكري جاويد حسين، إلى أن القوة العسكرية للجيش سواء أكانت على الأرض أو في الجو تفوق حرب العصابات التي يمكن أن تقوم بها طالبان. وقال جاويد في حديثة لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يملكون الأسلحة الأوتوماتيكية والبنادق وبعض القنابل، ولأنهم ليسوا جنودا نظاميين تقليديين فسيتركون المناطق التي كانوا يسيطرون عليها على الأرض ويلجأون إلى الجبال والملاذات الأخرى، وقد يعبرون إلى بلوشستان أو أفغانستان لإعادة تنظيم صفوفهم والقيام بالأساليب القديمة من الكر والفر». ويعبر سكان جنوب وزيرستان عن الرأي ذاته بشأن التفوق العسكري للجيش الباكستاني وقدرة طالبان على القيام بحرب عصابات ضد الجيش الباكستاني لأجل غير مسمى. ويقول كارام علي، أحد سكان مدينة لادا في جنوب وزيرستان: «محاربة الحكومة مثل من يرطم رأسه بالجبل». والمنطق الذي يحملونه بسيط للغاية؛ فالحكومة كما يقول كارام، «تملك الطائرات والمدفعية وكما هائلا من الذخيرة، وسيأتي وقت تنتهي فيه ذخيرة طالبان». غير أن عددا آخر من سكان المنطقة يشعرون بأن طالبان لديها القدرة على شن حرب عصابات لأجل غير مسمى. فيقول الملا علي خان: «ستعمد طالبان إلى القتال على هيئة حرب عصابات. في الوقت الحالي يملك الجيش اليد العليا في القتال، لكنهم سيدركون سريعا أن طالبان ستبدأ في علمياتها في الليل».

* أين توجد قيادة طالبان؟

* في الوقت الذي يتحرك فيه الجيش الباكستاني للسيطرة على المدن الرئيسة والقرى والمرتفعات الاستراتيجية في وزيرستان، ظن قادة وزعماء جماعة طالبان أن الاستراتيجية الأمثل بالنسبة لهم الهروب إلى المناطق الأخرى من المناطق القبلية الباكستانية المحاذية لأفغانستان. ويعتقد المسؤولون الباكستانيون أن زعيم طالبان حكيم الله محسود انتقل إلى الغابات الكثيفة القريبة من حدود شمال وزيرستان التي توفر له الحماية من هجمات الطائرات الأميركية من دون طيار. وقد أعرب المسؤولون الباكستانيون في الوقت ذاته عن اعتقادهم بأن حكيم الله محسود لا يزال يواصل عمليات توجيه المقاتلين في مقاومة الجيش في جنوب وزيرستان. وفي منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 زعم المتحدث باسم الجيش الباكستاني أنه نتيجة للاستراتيجية الفاعلة للجيش الباكستاني تضاءلت المقاومة في إقليم وزيرستان بصورة كبيرة وأن غالبية قادة طالبان فروا في أعقاب استشعار الهزيمة إما إلى مناطق أخرى أو إلى الاختباء. وقال إن قدرات الإرهابيين على تسديد ضربات كقوة مؤثرة تراجعت بشكل كبير، فقد قتل عدد كبير من الإرهابيين بالفعل، وقطعت خطوط الإمدادات عنهم. ومن المتوقع أن يهربوا عبر المناطق الجبلية إلى المناطق المتاخمة. وقال إن التقارير الاستخباراتية تظهر اختباء قادة طالبان في مناطق جنوب وزيرستان. قبل بداية العمليات العسكرية كان حكيم الله محسود وولي الرحمن محسود يتوليان قيادة الحركة في أعقاب مقتل قائدها بيت الله محسود في غارة أميركية بطائرة من دون طيار في أغسطس (آب) عام 2009. ونظرا لأن أيا منهم لم يشارك في القتال في جنوب وزيرستان فلم يتأكد أحد من التغيرات التي دخلت على قيادة طالبان في الأشهر الثلاثة الماضية.

فاعلية حكيم الله كقائد لجماعة تحريك طالبان لم تختبر بعد، وقد أثيرت تساؤلات حول شبابه وخبرته. وسواء تمكن من قيادة العديد من الفصائل الأخرى التي دخلت تحت مظلة تحريك طالبان والحفاظ على السلام مع ولي الرحمن باتت موضع شكوك بعد نجاح الاستخبارات العسكرية في إقناع قادة طالبان المقيمين في جنوب وزيرستان بالبقاء على الحياد في القتال في المنطقة. بالنسبة للمحللين والخبراء الأمنيين، فإن صعود حكيم الله محسود كزعيم جديد لجماعة تحريك طالبان باكستان كان أمرا غير متوقع على الإطلاق، فقد كان يعمل قبل خمسة أعوام كحارس شخصي وسائق لزعيم الجماعة بيت الله محسود. وقال مسؤول بارز بالحكومة الباكستانية طلب عدم ذكر اسمه: «قبل أن يتولى مسؤولية الجماعة الإرهابية أظهر قسوة في قتل الأبرياء وأحدث خسائر واسعة في صفوف القوات الأمنية الباكستانية وقوات الناتو في أفغانستان».

لم يتلق حكيم الله تعليما رسميا لكنه دخل المدرسة الدينية حيث درس بيت الله. ويقال إن هذا المقاتل ترك الدراسة لينضم إلى طالبان بعد الغزو الأميركي لأفغانستان في عام 2001. أما التفاصيل الأخرى التي تعرف عنه قبل توليه عمل المتحدث الرسمي باسم طالبان فهي أنه عمل كسائق لبيت الله لبعض الوقت. في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2008 سيطر حكيم الله محسود على مدينة أوراكزي القبلية مع ألفين من مقاتليه قاموا خلالها بقتل معارضيهم بوحشية بالغة. من هذا المكان بسط سيطرته على المدن المجاورة مثل خيبر وكورام، كما نجح أيضا في تشكيل تحالف مربح مع بعض العصابات الإجرامية التي كانت عمليات الخطف التي تقوم بها المصدر الرئيسي لتمويل الجماعة. ولرغبته الكبيرة في إنزال التدمير بالولايات المتحدة نجح حكيم الله محسود في تعطيل طريق إمدادات قوات الناتو إلى أفغانستان الذي يمر عبر مقاطعة خيبر القبلية وبات مسؤولا عن تدمير مئات الشاحنات وسيارات الهامفي وأثار إحباط القوات المتحالفة. لا عجب في أن يقول أقرب مساعديه: «إنه صاروخنا النووي الذي نستطيع الضرب به متى شئنا في أي وقت وفي أي مكان». ونظرا لتمكنه من التعامل مع الأسلحة كافة؛ بدءا من المسدس إلى قاذفات الصواريخ، تباهي خلال زيارة نظمها للصحافة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 في قاعدة أوراكزي: «لدينا رغبة في السيطرة على المدن الباكستانية حتى إسلام آباد إذا ما واصلت الحكومة الباكستانية وجيشها حماية المصالح الأميركية».

من ناحية أخرى، كان الرجل الثاني في قيادة طالبان ولي الرحمن محسود ذا صلات واسعة بقادة «القاعدة» والأفغان العرب الذين يختبئون في المناطق القبلية الباكستانية. كان ولي الرحمن محسود يرفض الظهور أمام وسائل الإعلام ومن ثم ظل بعيدا عن دائرة الضوء على الرغم من كونه المحرك للعمليات الإرهابية التي طالت المدن الباكستانية خلال العام الأخير. وخلال الزيارة الأخيرة إلى مدينة ديرا إسماعيل خان التي تقع شمال غربي باكستان على حدود جنوب وزيرستان التقت «الشرق الأوسط» بعضا ممن كانوا على صلة في السابق بولي الرحمن محسود الذين تحدثوا عن حياته بدءا من نشأته حتى وصوله إلى قيادة طالبان، مثل محمد عمران الموظف الحكومي في براوان جنوب وزيرستان الذي عمل عن قرب مع قائد طالبان ولي الرحمن خلال عمل الأخير كمدرس في المدرسة العليا قبل أن يبدأ عمله كقائد عسكري. ويستدعي محمد عمران إلى ذاكرته وصول العرب والأوزبك إلى المدينة في أواسط التسعينات وتدريسهم للأفكار الدينية المتطرفة «وقد أدى ذلك إلى خلق توتر في العلاقات الوثيقة التي جمعتني بولي الرحمن. وقد بدأت المشكلات في هذه الفترة حيث بدأوا في فرض وجهات نظرهم على الآخرين». لكن عمران استمر في العيش في مسقط رأسه كارانا خلال العمل كزميل لولي الرحمن محسود. وقال عمران: «حاولت مرات كثيرة إقناع ولي الرحمن بعدم الدخول ضمن شبكة المقاتلين العرب لأنها ستشكل خطرا عليه لكنه دعاني بـ(رالفي)، (وهو ما يعتبر نعتا سيئا يطلق على معارضي طالبان)».

* مستقبل طالبان

* يتفق الخبراء العسكريون والأمنيون على أن الانتصار على طالبان سيكون تطورا ثانويا إذا ما أجبرت باقي البلاد على الدخول في مواجهة مع طالبان. لذلك يشير الخبراء الأمنيون إلى أهمية القضية الرئيسة المتعلقة بالاستراتيجية الأفغانية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الأميركي باراك أوباما. وقد عبر بعض المسؤولين في المؤسسة الأمنية الباكستانية بالفعل عن استيائهم من التأثيرات المتوقعة للاستراتيجية الأميركية بشأن أفغانستان على باكستان. فأشارت الدكتورة مليحة لودي الخبيرة الأمنية البارزة والسفيرة السابقة في واشنطن إلى أن زيادة القوات الأميركية في أفغانستان ستؤثر بالسلب على المناخ الأمني في المناطق القبلية الباكستانية المحاذية لأفغانستان.

ويرى الخبراء الأمنيون الباكستانيون في قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بإرسال 30.000 جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان بنهاية ديسمبر (كانون الأول)، أنه سيجبر طالبان أفغانستان إلى عبور الحدود إلى باكستان والتعاون مع إخوانهم الباكستانيين. وتقول الدكتور مليحة: «الأمر الثاني هو خلو استراتيجية أوباما الجديدة من أي آلية سياسية للتعامل مع الموقف». ويسري اعتقاد راسخ بين الخبراء الأمنيين الباكستانيين أن مشكلة تمرد طالبان لا يمكن حلها ببساطة باستخدام الوسائل العسكرية. ويتفق كبار الخبراء بشأن المناطق القبلية الباكستانية المضطربة على أن الاستراتيجية الأميركية للمنطقة كارثة من وجهة نظر إسلام آباد. فيقول رستم شاه مهمند وزير الداخلية الأسبق والسفير الأسبق لدى أفغانستان والخبير الأمني البارز، إن «باكستان ستتحول إلى ساحة حرب إذا ما استجابت حكومتنا لاستراتيجية أوباما». فيما حذر رحيم الله يوسفزاي الصحافي وخبير الشؤون الأفغانية والمناطق القبلية من أن استراتيجية أوباما ستؤدي إلى الاضطرابات في باكستان وقال: «ستكون هناك حرب مفتوحة في الحقول والشوارع في كل مدينة باكستانية».

ويرى الخبراء الأمنيون أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الدولة الباكستانية في الأيام المقبلة سيكون في كيفية السيطرة على التهديد الإرهابي الذي تواجهه المدن الباكستانية. وقد أثبتت طالبان أنها قادرة على التكيف مع الظروف الجديدة لكي تعزز من وجودها بصورة أكبر وتوسيع نطاق عملياتها ليصل إلى البنجاب ومدن إقليم الحدود الشمالي الغربي. ويرى مسؤولو الشرطة الصلة بين «طالبان البنجاب»، وهي منظمة جهادية خارجة عن القانون تركز على العنف الطائفي وتقاتل الهنود في كشمير، وأفراد جماعة تحريك طالبان باكستان كتهديد بارز للبلاد. ويرى هؤلاء الخبراء الأمنيون أن المعركة على جنوب وزيرستان ستدور رحاها في المدن الباكستانية مثل إسلام آباد ولاهور وروالبندي وبيشاور، خلال الفترة القادمة.