2009 نهاية عقد : رحيل المفكر مصطفى محمود في 2009

الباحث عن لغز الحياة

TT

بمقدمة الناي الحزينة في سهرة الاثنين على التلفزيون المصري من كل أسبوع، كان العالم العربي على موعد حفظه عن ظهر قلب لبرنامج «العلم والإيمان» لصاحبه المفكر والطبيب مصطفى محمود. بصوته الهادئ المميز يبدأ حلقاته بـ «أهلا بكم»، مقدما عبر تاريخه 400 حلقة من برنامجه العلمي الشهير الذي أثر في ذاكرة قطاع عريض من أبناء هذا الجيل.

هكذا كان ينقل صورة نابضة للكائنات المحيطة بالجنس البشري.. يقدم فلسفته في كبسولات أسبوعية يهتم بها الكبير والصغير في العالم العربي.

ولد مصطفى محمود في عام 1921 بمحافظة المنوفية شمال القاهرة، ونشأ إلى جوار مسجد «السيد البدوي» بمدينة طنطا، الذي يعد أحد أهم المزارات الدينية في مصر، الأمر الذي ترك أثرا كبيرا على نشأته الروحية وتحولاته الفكرية والفلسفية. كان متفوقًا في الدراسة. وحين التحق بكلية الطب اشتُهر بـ«المشرحجي»، نظرا لوقوفه طوال اليوم أمام أجساد الموتى، طارحا التساؤلات حول سر الحياة والموت.

وبظهور الفلسفة الوجودية في مصر، لم يكن بعيدا عن هذا التيار الغريب على الثقافة الشرقية. انطلق يبحث عن إجابة للغز الحياة. يقول عن ذلك في أحاديث قبل وفاته: «احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، لأقطع الطرق الشائكة إلى لغز الحياة والموت، إلى ما أكتب اليوم على درب اليقين». واتهم محمود بأن أفكاره وآراءه السياسية متناقضة. وأقر بأنه لم يكن على صواب في بعض مراحل حياته، ما اعتبره الكثيرون اعترافا من باب الشجاعة التي يفتقر إليها الكثيرون.

خلال حياته تعرض لأزمات كثيرة، أشهرها أزمة «كتاب الشفاعة»، عندما قال إن الشفاعة الحقيقية غير التي يروج لها علماء الحديث. وقدم للمحاكمة بسبب كتابه «الله والإنسان»، باعتبارها قضية كفر، واكتفت المحكمة بمصادرة الكتاب الذي أعيدت طباعته في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في سبعينات القرن الماضي.

خلال حياته رفض مصطفى محمود عرض الرئيس السادات بتولي وزارة الثقافة معللا ذلك بأنه فشل في إدارة أسرته وطلق مرتين فكيف له أن يدير وزارة. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد أثرى محمود المكتبة العربية بسلسلة من المؤلفات المتنوعة وصلت إلى 89 كتابا، من أبرزها «علم نفس قرآني جديد»، و«الله والإنسان»، و«الإسلام السياسي والمعركة القادمة»، و«رجل تحت الصفر»، و«شلة الأنس». وكُرم الدكتور مصطفى محمود في حياته فحصل على الميدالية الذهبية في عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وعلى جائزة الدولة التشجيعية عام 1970، ووسام الفنون والعلوم من الدرجة الأولى في عهد الرئيس السادات، وجائزة الدولة التقديرية 1996. وفي عام 2003 تعرض محمود إلى جلطة في المخ قام من بعدها باعتزال دائرة الضوء، مفضلا العزلة متجنبا خلالها مشاهدة التلفاز أو قراءة الصحف، مكتفيا بأصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وفيروز والشيخ محمد رفعت، لتؤنسه في خلوته.

واشتهر الدكتور محمود بذائقة أدبية مميزة. وكان دمث الخلق، يركز على نوازع الخير والحب في التواصل مع الناس. وبهذا الدافع أنشأ في عام 1979 مسجده في القاهرة المعروف باسمه في ضاحية المهندسين، ويتبعه ثلاثة ‏مراكز‏ ‏طبية‏ تهتم بعلاج الفقراء وذوي الدخل المحدود. وهو نفسه المركز الطبي الذي تلقى فيه علاجه في رحلة طويلة مع المرض.. انتهت بنهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام عن عمر يناهز 88 عاما.. ليصل قطاره المحطة الأخيرة من رحلة الشك إلى اليقين.