لبنان: الهموم المعيشية غلبت العناوين السجالية.. والحصول على الكهرباء المطلب الأبرز

الشارع الشعبي يائس من سياسييه ولا يبالي بقضاياهم

TT

يعيش اللبنانيون حالة تناقض بين «الهدوء الحذر» و«اللا مبالاة» حيال ما يجري حاليا على الصعيد السياسي، وأسباب هذا التناقض تعود إلى ضياع البوصلة لدى شرائح كبيرة منهم، وإذا سألت مواطنا في أحد شوارع بيروت عن رأيه في «إلغاء الطائفية السياسية»، أو «آلية التعيينات»، أو «طاولة الحوار»، أو مؤتمرات «الصمود والتصدي ودعم المقاومة ونضال الشعب الفلسطيني» يجيبك بأن همه الأكبر استمرار الاستقرار وتأمين موارد العيش والحصول على الكهرباء 24 ساعة كل يوم، وعدم الوقوع في شباك أزمة السير.

وإذا ألححت في الأسئلة، فقد تواجه بردود فعل متوترة أو أجوبة ساخرة، مما يؤكد أن اللبنانيين في واد وزعمائهم في واد أخر، باستثناء قلة لا تزال تحاول التحليل والاجتهاد والارتكاز على العصبية لتبرير المواقف. وقد يعبر شارع واحد عن «يأس» اللبنانيين من السياسة والسياسيين، كما الحال في منطقة بربور ذات السمة التعددية، حيث يمكن قياس «النبض الشعبي» في أحد محلات السمانة، فصاحب المحل كان طوال السنوات الماضية متحمسا ليدافع عن وجهة نظر زعيمه إلى حد كان يزعج جيرانه، كما كان يتحين الفرص ليطرح مواضيع ساخنة، ويحول دكانه إلى برنامج «توك شو» مفتوح للسجالات بين أبناء الطوائف في الشارع. إلا أن حماسته انحسرت، وأصبح يفضل متابعة مسلسل تركي أو مباراة كرة قدم على الاستماع إلى مسؤول سياسي يتحدث عن خلفيات طرح رئيس مجلس النواب نبيه بري لإلغاء الطائفية السياسية وأبعادها. ولدى سؤال «الشرق الأوسط» له عن رأيه في الأمر، يقول: «فليفعلوا ما يريدون، المهم أن تتحسن نسبة البيع. تعبنا من لعبهم بنا وكأننا كرة بين أيديهم، ليتخاصموا أو يتوافقوا عندما تستدعي مصالحهم ذلك». وعند سؤاله: وماذا عن التعيينات؟ أجاب: «لست موظفا، ولا علاقة لي بالموضوع. حتى إذا فكرت في الأمر، الأمل مفقود؛ لأن لا وساطة لدي. يعني لا وظيفة ولا فائدة من طرق أبواب الزعماء، لأن لكل زعيم حاشيته، وغالبية الشعب لا حظ لها في اختراق هذه الحاشية».

بائع الزهور الذي كان يوقف المارة من أهل الحي ليسألهم عن رأيهم في خطاب «السيد» - أي الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله - فضل أيضا متابعة المسلسل التركي مع جاره بائع السمانة، ويبدو أن له شركاء في اختياره هذا، فلا مفرقعات ولا مكبرات للصوت رافقت كلمة نصر الله الأخيرة خلال افتتاح «الملتقى العربي الدولي لدعم المقاومة»، كما جرت العادة. ويفسر أحد مؤيدي الحزب ذلك بالإشارة إلى «عدم حصول تعبئة لإعلام المواطنين أن نصر الله سيلقي كلمة في الملتقى»، ويكفي استطلاع بسيط للرأي لاكتشاف أن الغالبية لا تعرف شيئا عن الملتقى.

والأهم أن لا أحد يريد أن يفكر في احتمال خوض لبنان غمار حرب مع إسرائيل. والأمر لا يقتصر على منطقة واحدة، ففي حين يفضل الشباب البحث عن فرص اللهو والتسلية، إضافة إلى متابعتهم دراستهم أو التزامهم بأعمالهم، تبين الجولة الميدانية في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث التحفظ واضح في تجاوب الناس مع الأسئلة الصحافية، أن وقع فكرة الحرب ثقيل على السمع. يقول هادي: «لا نريد حربا. نحن بالكاد استطعنا العودة إلى بيوتنا. على أي حال إسرائيل مهزومة، ولا تستطيع مواجهة المقاومة، وهي تهوِّل فقط». يتدخل رفيقه ليعقب بحماسة: «إذا فكرت إسرائيل في الحرب، فسنكون لها بالمرصاد، وسنبيدها هذه المرة»، لكن هادي يجره لينسحبا من الحوار ويتوجها إلى أحد المقاهي لتدخين النارجيلة.

هادي ورفيقه لا يعرفان شيئا عن دورات «التأهيل السياسي» التي نظمها حزب الله. هما يتابعان اختصاصهما الجامعي، ويريدان الحصول على فرصة عمل جيدة في إحدى الدول العربية بعد تخرجهما.

فرصة العمل هذه تشكل الهم الأساسي من هموم الشباب وذويهم في لبنان، أيا كانت انتماءاتهم الدينية والحزبية، ولها الغلبة على أي موضوع سياسي يطرح. يقول عدنان، وهو رب عائلة من منطقة الطريق الجديدة، أنه «يبحث يوميا في صفحات الإعلانات المبوبة عله يعثر على وظائف لأولاده الثلاثة الذين تخرجوا في الجامعات، ولم يجدوا بعد أي وظيفة في لبنان». ويضيف: «السياسة لا تنفعنا كما الحال في الماضي، فقد تظاهرنا وتقاتلنا ونسينا همومنا من أجل الهم الوطني ومعركة السيادة والاستقلال. لكن النتيجة أننا لم نعد نفهم ما يجري. عندما نسمع الزعماء نشعر بالجنون.. تصريحاتهم انقلبت رأسا على عقب، ولم نعد نعرف الحليف من الخصم». ولدى سؤاله عن استعداده للمشاركة في ذكرى اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) المقبل، يجيب: «هل سيحتفلون بها كما فعلوا في الأعوام الماضية؟ من سيهاجمون في خطاباتهم هذه المرة؟ ومن الزعماء الذين سيشاركون؟»، ثم يستدرك: «لدي ابن تخرج في كلية العلوم السياسية، هل يمكن التوسط له ليجد عملا في الصحافة أو أي مكان آخر؟».

أسئلة الشارع البيروتي تتشابه في شرق العاصمة وغربها، ربما مع تغيير طفيف بسبب الجغرافية والطائفة. يقول جورج من منطقة فرن الشباك ذات الأكثرية المسيحية: «لم أعد أتابع الأخبار. لا علاقة للمواطنين بما يفعله الكبار، ولا قدرة لزعمائنا على حمايتنا من قوى الأمر الواقع التي تريد إلغاء كل شيء لتبقى وحدها على الساحة.

الرحيل يبقى الحل الأمثل، فعائلتي كلها في كندا وأستراليا، وأنا سأبيع متجري هذا وألحق بها. ذلك أفضل من انتظار الأسوأ هنا». لا يفسر جورج، الحائز على شهادة في إدارة الأعمال وصاحب محل لوازم إلكترونية، ما الأسوأ. لكن الواضح أن فئة كبيرة من المسيحيين عادت إلى حال الإحباط والخوف من فرض التبعية عليها في لبنان، ولا تجد في القوى السياسية التي تمثلها القدرة على مواجهة هذا الخوف.