هايتي: فن التعايش مع الدمار.. بخطوات بسيطة

أطباء يجرون العمليات وسط الركام وشرطيون نسوا أحزانهم ويحاربون النهب.. ودروس للطلاب في السراديب

TT

تحيط الأنقاض تقريبا بكل جناح داخل مستشفى «سانت فرانسوا دو سيلز»، لكن مع ذلك حوّل 68 طبيبا وممرضة ما بقي من المستشفى إلى مركز لعلاج المصابين أجريت من خلاله 17 عملية على الأقل في يوم واحد. وحوّل انهيار مدرسة «لوسي ماري جين» للفتيات المبنى إلى سرداب للعشرات من الطالبات، لكن مع ذلك تذهب فرق العمل إلى هناك بصورة يومية للبحث بين الأنقاض عن من يمكن إنقاذه من أجل إعادة افتتاح المدرسة. وقتل 12 ضابطا بعد أن سوى الزلزال الذي وقع الأسبوع الماضي مقر الشرطة في «32 ديلماس» بالأرض. ولكن، يعمل الباقون لفترات خدمة إضافية ويعقدون لقاءات مع السكان المحليين لمناقشة استراتيجيات تجنب أعمال النهب. وبعد مرور أكثر من أسبوع على الكارثة التي ألحقت الدمار بالعاصمة بورت أوبرنس والمناطق المحيطة بها، حسبت قائمة الخسائر داخل هايتي في الأغلب بعدد الأرواح المفقودة. ولكن، تعرضت مؤسسات هايتي، التي كانت تعاني من الضعف الشديد، إلى أضرار بالغة أيضا. وبعد قضاء يوم في متابعة كفاح مواطني هايتي من أجل التعامل مع الوضع الحالي، يظهر أن غياب هذه المؤسسات ترك فراغا واضحا. وتقول رئيسة الوزراء السابقة ميشيل بيير لويس: «كانت البلاد تعاني من اختلال وظيفي نوعا ما من قبل. كانت المؤسسات تعاني من الضعف، وكان المواطنون يعتمدون على أنفسهم إلى حد بعيد. ولكن قضى ذلك على كل شيء».

في الوقت الذي تسارع فيه دول العالم من أجل إنقاذ المحاصرين تحت الأنقاض، وتوفير المساعدات لعشرات الآلاف الذين يعيشون بلا مأوى ولا طعام ولا مياه، يسارع الشعب الهايتي أيضا من أجل المساعدة في جهود الإغاثة وبدء مهمة كبيرة لاستخراج ما يمكن استخراجه من تحت الركام. وقد كانت الجهود الأولية جلية داخل بيغيوفيل، حيث قامت القيادات بتنظيم آلاف المواطنين الذين لا مأوى لهم في لجان مسؤولة عن كل شيء بدءا من توفير الأمن ووصولا إلى حرق النفايات. تطوع مواطنو هايتي داخل كارفور مع مبشرين للمساعدة في إدارة برامج توفير الطعام ومحطات تنقية المياه. وداخل جامعة هايتي، استدعى الأساتذة الطلبة عبر رسائل نصية، وطلبوا منهم مساعدة السكان المصدومين على تجاوز الصدمة. ويقول تيرون جويل، 24 عاما، وهو طالب يدرس علم النفس: «لقد دمرت الدولة، وتحطم الشعب، ولكن هذا هو وقت التعبئة. يمكن أن نجلس وننتظر المساعدة من أصدقائنا في الخارج، ولكن يمكن أيضا أن نستخدم مواهبنا ونتولى المسؤولية عن جزء من هذا الوضع».

انتشر المواطنون الذين جرحوا بسبب الزلزال في جميع الأركان داخل فناء مستشفى «سانت فرانسوا دو سيلز». ويقول خبراء طبيون إن المستشفى كان يعد مركزا هاما داخل البلاد، وإنه كان يوفر دورات تدريبية للعشرات من الأطباء والممرضين وفنيي المعامل كل عام. كان المستشفى الذي أسسته راهبات مطلع القرن التاسع عشر قد خصص نصف الأسرة داخله للفقراء، علما بأنه يحتوي على 140 سريرا. ومنذ وقوع الزلزال، تم تحويل جناح من مبنى إقامة العاملين إلى غرف للعمليات تتولى إدارته ممرضة تبلغ من العمر 73 عاما تدعى ماكسيس أستيفيلن. وتقول الممرضة إنها فخورة بالطريقة التي تجمع بها زملاؤها من أجل إنقاذ الأرواح. عبّرت عن هذا بينما كانت تبتعد عن منضدة بغرفة العمليات حيث كان الأطباء يخيطون جرحا في رأس طفل يبلغ من العمر 8 أعوام. وتقول الممرضة إن جثة زوجها لا تزال تحت أنقاض منزلها، ولكنها تذهب إلى المستشفى كل يوم من أجل المساعدة على استمرار العمل. وتضيف: «لا نحصل على الكثير، وليس لدينا جميع المعدات التي نريد. ولكننا نبذل وسعنا بما وفره الله لنا».

وضرب الزلزال مقر الشرطة في «32 ديلماس» خلال ساعة تغيير نوبات العمل، ويعتبر الضباط هناك أن معجزة قد حدثت، إذ نجا جميع الضباط قبل انهيار المقر سوى 12. وبعد أيام من الاضطراب، مضى الضباط إلى المركز يوم السبت لدفن أحد القادة و11 زميلا في حفرة خلف مخزن الطعام. وفي ظهيرة اليوم ذاته، كان الضباط في الخارج راكبين درجات بخارية يبحثون عن وقود لسيارات الشرطة وفي المساء كانت قوة صغيرة تقوم بدورية. ويبدو أن الخوف من حدوث أعمال نهب على نطاق واسع ينمو بمرور الأيام، فلفترة طويلة كانت العصابات الإجرامية تفوق الشرطة في العدد والعتاد. وكان يتوقع أن يقوم المفتش ثيليماكو ديلف بقبول مساعدات من الخارج. وربما لم يكن نظام المياه داخل هايتي قبل الزلزال جيدا أو مثاليا، وكانت المناطق الثرية والفنادق تحصل على مياه معالجة بالكلور من خلال مجموعة من المواسير، فيما كان الجميع يعتمد على مياه المدينة التي تضخ لفترة من اليوم، ومعها شاحنات المياه التي كانت تظهر يوميا داخل المناطق. بيد أنه كان معظم المناطق داخل المدينة يمكنه الحصول على مياه. والآن، لا يبدو أن شبكة المياه الحكومية تعمل داخل العاصمة بورت أوبرنس. وداخل أحد مكاتب الشبكة، أنشأ فريق مكون من 10 ألمان نظام فلترة مياه لإنتاج مياه يمكن شربها، ويأتي ذلك ضمن كثير من الجهود التي تهدف لإصلاح الشبكة التالفة. ولكن لم يتمكن الفريق من العثور على الصهاريج التي يمكن استخدامها لنقل المياه إلى المناطق الأشد تعرضا للضرر داخل المدينة. وكانت هذه إشارة أخرى إلى أن حكومة هايتي كانت توفر الخدمات حتى الأسبوع الماضي، وتكابد مؤسسات الإغاثة الأكثر كفاءة من أجل مجاراتها في ذلك. ويقدم جمع القمامة مثالا آخر، فقبل الزلزال كان هذا من النقاط المضيئة بالنسبة للحكومة، حيث كان يتم وضع صناديق بلاستيكية ضخمة لجمع القمامة في معظم المناطق كل أسبوع أو كل يوم في بعض الأماكن، وكانت هناك بعض الصعوبات البسيطة. وفي هذه الأيام، أصبح المتعهد الحكومي المسؤول عن جمع القمامة المصدر الرئيسي الذي يقوم بجمع الجثث، ولا تظهر شاحنات القمامة سوى في أماكن متفرقة فقط من أجل إزالة القمامة. وداخل مدرسة «ماري جين»، كانت مديرة المدرسة تفتح عينيها بالكاد من التعب ووضعت منديلا على أنفها وكانت تجري مرتدية «شبشبا» ناحية المدخل المفتوح لتدخل إلى مدرستها التي تحطم نصفها تقريبا وتعطي تعليمات للعمال وهم ينتشلون أجهزة الكومبيوتر من بين الأنقاض التي احتوت أجساد بعض من طلابها. وتقول المديرة فرانسيكا بوليكارب: «كنت هنا، وأعاني من تبعات هذا الزلزال، فقد كانت هؤلاء الفتيات في مسؤوليتي، ولذا أشعر بالإحباط الشديد. ولكن علي أن أنقذ ما يمكن إنقاذه. وعلي أن أنتشل نفسي من مأساتي لأنه ربما يكون هناك مستقبل لمدارسنا في هايتي».

وقد تحول كثير من المدارس التي لا تزال أبنيتها قائمة إلى أماكن لإيواء المشردين. وتعد القراءة والكتابة والحساب هي آخر الأشياء التي تأتي إلى تفكير أي شخص تقريبا، ومع ذلك لا تزال إحدى طالبات مدرسة «ماري جين» تذهب إلى الفصل في كل صباح. وتنتشر في فناء المدرسة الكراسات والكتب والأحذية السوداء بعد أن كانت تجوب فيها الفتيات في الصفوف العليا والمتوسطة وهن يرتدين الملابس المدرسية. ولم ينهرْ سوى مبنى واحد في مجمع المدارس الحكومي، وتعتقد بوليكارب أنه لم تتح فرصة أمام معظم طلبة فترة الظهيرة البالغ عددهم 2000 كي ينجوا بأنفسهم. ولا يزال بعض الطلبة يذهبون للدراسة داخل فصول بالطابق الأرضي سويت بالأرض، فيما يأمل بعض الآباء، مثل جين تلسيد، أن يتم استخراج جثث أبنائهم في يوم ما. وتقول بوليكارب إن الطعام والمياه والمأوى والمساعدات الطبية أكثر أهمية من الجبر والتاريخ. وتضيف: «من الصعب تصور عودة المنظومة المدرسية خلال العام الحالي، لكننا نحتاج على عجل إلى فرق من المساعدين لإعانة الناس على تجاوز الصدمة ونحتاج إلى خلق بيئة تعليمية أمام أطفالنا. وفي الوقت الحالي، لا أعرف كيف يمكنني العثور عليهم وتقديم أسباب الراحة لهم».

*خدمة «نيويورك تايمز»