قضية الحجاب تثير نزاعا حول قيم التعايش في إسبانيا

تعكر صفو منتجع «كونيت» المشمس على ساحل البحر الأبيض

TT

يتمتع هذا المنتجع الصغير المشمس على ساحل البحر الأبيض المتوسط بمكانة متميزة في نفوس راغبي قضاء العطلات الأسبوعية، والساعين إلى الهرب من زحام مدينة برشلونة القريبة، من أجل جرعة من رمال الشاطئ ونسيم البحر.

لكن كونيت اكتسبت في الآونة الأخيرة بعدا آخر، حيث تشتهر في إسبانيا بأنها المدينة التي تعيش فيها مسلمة من أصل مغاربي، تحمل درجة الماجستير، تقول إنها تلقت تهديدات من أصوليين إسلاميين لأنها خلعت حجابها، وحاولت العيش على الطريقة الإسبانية.

ودفع خضوع فاطمة غايلان للعلاج، البالغة من العمر 31 عاما، قاضي التحقيق إلى توجيه الاتهامات إلى محمد بن إبراهيم، أحد الشيوخ المحليين، وعبد الرحمن الأوصري، رئيس الاتحاد الإسلامي والشخصية البارزة في المجتمع الإسلامي في كونيت.

وقد تمخضت القضية أيضا عن مطالبات باستقالة عمدة المدينة الاشتراكية الليبرالية غوديت ألبريتش، التي قال عنها خصومها السياسيون إنها خضعت لناخبيها من المسلمين على حساب القانون.

أظهر النزاع الحالي، الذي يعكر صفو كونيت وسكانها البالغ عددهم 1,200 نسمة، أن الإسبانيين ليسوا استثناء من الصراع المتنامي في أوروبا الغربية حول المهاجرين المسلمين، الذين يسعون إلى الحفاظ على أساليب حياتهم في بلادهم الأم، وأحيانا فرض القوانين الإسلامية المحافظة، في مجتمعات تقوم على الديمقراطية العلمانية، والتقاليد المسيحية. وقد أصبح هذا القلق قضية سياسية رئيسية في فرنسا، حيث تحاول الحكومة إيجاد سبيل لمنع النساء من ارتداء النقاب من دون انتهاك الدستور. وفي سويسرا، وافق الناخبون في استفتاء أجري مؤخرا على حظر بناء المآذن، وهناك التماس آخر بالاستفتاء على ترحيل المهاجرين المدانين في جرائم.

يبلغ عدد سكان الجالية الإسلامية في إسبانيا نحو مليون نسمة، يأتي غالبيتهم من أصول مغاربية قدموا عبر مضيق جبل طارق، من أصل 47 مليون نسمة هم عدد سكان إسبانيا. ويعد الرقم ضئيلا مقارنة بعدد مسلمي فرنسا، البالغ عددهم أكثر من 5 ملايين نسمة، الذين يعدون أكبر جالية إسلامية في أوروبا. ونتيجة لذلك، لم تضطر الحكومة الإسبانية إلى أن تتعامل مع التوتر كقضية قومية، كما فعلت فرنسا وسويسرا.

لكن القضية الحالية في كونيت كشفت عن استياء كبير بين كثير من السكان، الذين اعتقدوا أن القيم الأوروبية التقليدية يتم تحديها من قبل الأصوليين الإسلاميين.

وقال إيفان فاتشيا سيرانو، عضو مجلس مدينة كونيت: «الأمر خطير، هناك قسم كبير من السكان لا يبدون ارتياحا في التعايش مع هؤلاء المغاربة».

وباتت فاطمة غايلان بصورة غير متوقعة نموذجا للتكيف مع المجتمع، عندما وصلت إلى كونيت كمراهقة، وكان والدها إماما لأحد المساجد في المغرب، وكانت ترتدي وشاحا على رأسها.

لكن الأمور بدأت في التغير قبل عدة سنوات، عندما نالت فاطمة درجة الماجستير من برشلونة. وكانت قد خلعت حجابها قبل وقت طويل، وتركت شعرها ينسدل بحرية، وبدأت قيادة سيارتها الخاصة.

فيما بعد حصلت فاطمة على وظيفة في مجلس المدينة، وعهد إليها بالتعامل مع ما يقارب 1,000 شخص، غالبيتهم من المغاربة المسلمين، كوسيط ثقافي. وكانت مهمتها تشجيع المسلمين، وبخاصة النساء المسلمات المنعزلات عن المجتمع، على المشاركة في الحياة في المدينة، والحصول على دورات لغة، وترك منازلهن لحضور الاحتفالات.

هذا الدور هو ما جعلها تدخل في النهاية في مواجهة مع بن إبراهيم والأوصري. وكممثل لمجلس المدينة، تمتعت غايلان ببعض السلطة على مجتمع المهاجرين، وهو أمر لم يستطع قبوله بعض التقليديين، خصوصا أنه يأتي من امرأة رفضت تغطية شعرها.

قدم بن إبراهيم التماسا يطلب فيه عزل فاطمة من منصبها. وقالت فاطمة إن الخلاف تصاعد فيما بعد، حيث قدمت شكوى رسمية ضد بن إبراهيم في نوفمبر (تشرين الثاني) تتهم فيه بالتعرض لها بمضايقات وتهديدها والهجوم عليها وعلى عائلتها. دفعت تلك الشكوى محكمة محلية إلى إصدار قرار يحظر على الشيخ الاقتراب من فاطمة أو عائلتها، وفتحت تحقيقا رسميا تقتضي فيه الإجراءات وضع بن إبراهيم رهن الاعتقال. ولكن عمدة المدينة، ألبريتش تدخلت، على حسب قول فاطمة فيما بعد، لمنع الاعتقال قائلة بأن ذلك سيعكر صفو العلاقات مع المجتمع الإسلامي في كونيت.

وقالت العمدة في مقابلة معها، إنها لم تمنع قرار الاعتقال لكنها ناقشت القضية مع مدير الشرطة، الذي قرر أنه سيكون قرارا سيئا.

في الوقت ذاته، قامت ألبريتش بدور الوساطة المباشرة مع بن إبراهيم. وترى، من وجهة نظرها، أن القضية نزاع شخصي، وليست صداما للقيم، وقالت: «لا توجد مشكلة تعايش في كونيت، فنحن لم نعرف ذلك على الإطلاق».

استمرت حالة التوتر، لكن الأمور كانت هادئة حتى أعلن القاضي قبل أسبوعين أن تحقيقه انتهى، وأوصى بضرورة سجن بن إبراهيم خمس سنوات على خلفية الاتهامات بتشويه السمعة والمضايقات والتهديدات، وسجن الأوصري أربع سنوات للمضايقات وتشويه السمعة.

بدأت الصحافة الإسبانية في التركيز على القضية، ووصلت أطقم المحطات التلفزيونية. بعد ذلك، قال أصدقاء فاطمة إنها تعرضت لتهديدات في الشارع مرة أخرى من أتباع بن إبراهيم هذه المرة. ولم يتمكن من الوصول لفاطمة، التي أدخلت المستشفى لتعرضها لهجمات نفسية، للتعليق على ما حدث. لكن فاطمة كانت قد تحدثت إلى الصحافيين المحليين الأسبوع الماضي قائلة إن العمدة ألبريتش قد تقدمت إليها باقتراح بعد قرار القاضي، تقوم فيه بسحب شكواها لتدعيم العلاقات المتقدمة مع المجتمع الإسلامي وتناسي الخلافات.

وقد كانت هناك مزاعم بتدخل ألبريتش للحيلولة دون مثول القيادات الإسلامية أمام القضاء القضية الرئيسة التي تمخضت عن المطالبة باستقالتها.

وقالت مونسرات كاريراس غارسيا، عضو مجلس المدينة، وغير الراضية عن أداء ألبريتش: «من المهم بالنسبة إلى القادة السياسيين وضع حدود واضحة حتى يعلم المسلمون أن عليهم التعايش مع القيم الإسبانية».

بيد أن ألبريتش قالت في المقابلة التي أجريت معها إنها لم تطلب التنازل عن الشكوى، لكنها أدركت أن مهمة فاطمة ستكون صعبة إذا ما خضع بن إبراهيم والأوصري للمحاكمة، والمجازفة بدخولهم السجن. وتمضي فاطمة في الوقت الحالي إجازة مرضية. وقالت ألبريتش: «عندما تعود، سنناقش الأمر».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»