كارثة بيئية وإنسانية في «سلة خبز» الهند

أمراض فتاكة تستهدف سكان البنجاب بسبب المبيدات الزراعية

هنود يتظاهرون أمام هيئة تعنى بحماية البيئة، احتجاجا على استخدام المبيدات الضارة، في مدينة شاندغار الشمالية (رويترز)
TT

يتسبب الاستخدام غير المنضبط للمبيدات الحشرية في الإضرار بصحة القرويين في ولاية البنجاب شمالي الهند، التي تقطنها أغلبية من السيخ. كانت ولاية البنجاب، التي تدعى «سلة الخبز» في الهند، تتباهى «بالثورة الخضراء» في ستينات القرن الماضي عندما ازدهر فيها إنتاج المحاصيل الزراعية بفضل البذور المهجنة وسهولة استخدام المبيدات الحشرية. ولكن يبدو أن الولاية تحصد حاليا ثمار تلك «الثورة الخضراء»؛ حيث تعاني من كارثة بيئية متعددة الأبعاد، تتجلى في شكل وباء لم يسبق له مثيل من الأمراض الفتاكة. تتمثل هذه الأمراض في أن الأطفال يفقدون أبصارهم، ويزداد الشيب في شعرهم، ويعانون من التهاب المفاصل، وفوق كل ذلك يحصد مرض السرطان المميت مزيدا من أرواح البشر. لا يعتد بالسن كمعيار عندما يتعلق الأمر بالوفيات التي تحدثها الإصابة بالسرطان، حيث وافت المنية بوبي، 7 أعوام، وغولاب سينغ، عام واحد، وهاربريت، 11 عاما، وأمارجيت سينغ، 4 أعوام، جراء الإصابة بهذا المرض خلال الأشهر الأخيرة في قرية واحدة فقط.

خط الشيب شعر رامانديب، 14 عاما، وهي في سن الرابعة، أما إيشار سينغ فقد عانى من مشكلة نادرة في المفاصل مثل تلك التي عانى منها عمه الذي يبلغ من العمر 21 عاما، كما أن جاسويندر لديه ثلاثة أطفال معاقين ذهنيا وسنهم أربعة وستة وثمانية أعوام.

ويُرجع الخبراء هذه الأضرار إلى الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية التي تسربت في نهاية المطاف إلى التربة والمياه الجوفية. ويذكر تقرير صادر عن الحكومة الهندية أن ولاية البنجاب تستهلك 20% من إجمالي المبيدات الحشرية المستخدمة في جميع أنحاء البلاد.

يذكر أن الثورة الخضراء اجتاحت ولاية البنجاب ومعظم أنحاء قارة آسيا في ستينات وسبعينات القرن الماضي. ولكن في ذلك الوقت لم يكن مصطلح «الخضراء» يشير إلى ما نعنيه هذه الأيام، أي وسائل الزراعة العضوية الخالية من استخدام المبيدات الحشرية. قادت هذه «الثورة الخضراء» شبكة فضفاضة من السياسيين والعلماء في الولايات المتحدة وغيرها من الدول بدافع يمزج بين الحماسة الإنسانية وسياسات حقبة الحرب الباردة.

كانت هذه الشبكة مقتنعة بأنه إذا تحول المزارعون في الدول النامية مثل الهند من تبني الطرق التقليدية إلى استخدام الطريقة الأميركية في الزراعة، التي تتمثل في استخدام المبيدات الحشرية والسماد والبذور التي تحقق إنتاجا عاليا، فسيكون بمقدورهم محاربة المجاعة ومنع تحول المنطقة إلى الشيوعية. ساعدت «الثورة الخضراء» الهند على التحول من دولة كانت تتسول باستمرار المعونات الغذائية إلى دولة مصدرة للحبوب في كثير من الأحيان. لكن كثيرا من المزارعين في البنجاب يتساءلون الآن ما إذا كانوا يدفعون ثمن ذلك.

ومن المحتمل أن تكون الآبار المتدفقة في البنجاب والماشية المليئة بالحليب وعربات النقل المحملة بالخضراوات والمتجهة إلى الأسواق في المدن ملوثة بالسموم؛ حيث تعاني الولاية من أزمة بيئية، وقليلون لديهم أفكار لمعالجتها. كانت بالجيت كاور، القاطنة بقرية غيانا في حزام الأراضي المزروعة بالقطن في ولاية البنجاب تصارع السرطان على مدار الأعوام العشرة الماضية. في بادئ الأمر، توفي زوجها بعد معاناة من سرطان القولون، وتعاني هي الآن من سرطان المريء. وتتلقى حاليا جارتها مختيار كاور العلاج بعد إصابتها بسرطان الثدي.

كانت الأسرة تستخدم مضخة مياه يدوية في المنزل للحصول على احتياجاتها اليومية من المياه، لكنها لم تعد تستخدم هذه المضخة بعدما أبلغهم مسؤولون في الصحة أن المياه ملوثة بالسموم. والآن يحصلون على مياه الشرب والطهي من قناة مياه غير مكررة. وتقول بالجيت: «هل يعرف أحد ما إذا كانت المياه هي التي أصابتني بهذا المرض؟ كل ما أعرفه هو أن عشرات الناس في قريتي يموتون جراء الإصابة بالسرطان».

والمفارقة هي أنه في كثير من القرى، خاصة في حزام الأراضي المزروعة بالقطن في منطقة مالوا، توجد حالة وفاة من السرطان في كل بيت تقريبا. وبعيدا عن السرطان، يجد المرء عددا كبيرا من الشبان وقد خط الشيب رؤوسهم، ويعانون من آلام مبرحة في المفاصل ومشكلات في العمود الفقري.

قبل نحو أربعة أعوام، قرر معهد البحث والتعليم الطبي للدراسات العليا، الذي يتخذ من منطقة تشانديغار مقرا له، بحث المسألة عندما بدأت التقارير تتوالى من منطقة مالوا في ولاية البنجاب بشأن ارتفاع عدد الوفيات التي سببتها الإصابة بالسرطان. واكتشفت دراسة أولية أعدها المعهد أنه «بسبب الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية، أصبحت المياه في أنحاء الولاية ضارة لدرجة أننا أطلقنا بحثا علميا لدراسة ما إذا كانت هذه المياه تحدث تغييرات في الحمض النووي (DNA)،» وذلك حسبما ذكر جيه إس ثاكور، الأستاذ المساعد بالمستشفى التابع للمعهد. وبالفعل أخذ فريق من الأطباء من إنجلترا عينات من الضحايا لإجراء دراسة متعلقة بالحامض النووي. وفي الدراسة تكشفت حقائق مذهلة، حيث إن 88% من عينات المياه الجوفية أظهرت مستويات مزعجة من الزئبق، وكانت أكثر من 50% من عينات المياه الجوفية ومياه الصنبور ملوثة بالزرنيخ. واكتُشف أن خضراوات مثل البامية والجزر والقرع والقرنبيط والفلفل بها مستويات سامة من الرصاص والكادميوم والزئبق. ومن المعروف أن الزرنيخ والزئبق مواد مسرطنة، كما أن الزئبق يؤثر على الجهاز العصبي. وأظهرت 65% من عينات الدم تحورا في الحمض النووي؛ وكانت هناك زيادة حادة في حالات السرطان، والاضطرابات العصبية وأمراض الكبد والكلى والتشوهات الخلقية والإجهاض.

إن المشكلة واضحة تماما، حيث إن شبابا مثل سيواك سينغ وغورجيوان سيننغ وهارجيت سينغ من قرية سخبورا بحي باتيندا، وجميعهم في العشرينات من عمرهم، من المفترض أن يمثلوا الدعم المستقبلي لآبائهم الفقراء، إلا أنهم يعانون من الشلل، ولا يقدرون حتى على إطعام أنفسهم. وتقول جدتهم: «من الأفضل أن يموت أحفادي على أن يتحملوا الجحيم الذي يعيشونه الآن».

وتقول مينا سودان، رئيسة قسم الأورام في مستشفى «سري غورو رام داس روتاري» للسرطان في أمريستار، إن عدد الحالات تضاعف ثلاثة مرات في السنوات الخمس الماضية. وتضيف: «اعتدنا تلقي حالتين أو ثلاثا في المتوسط كل يوم. لكننا الآن نتلقى من ست إلى ثماني حالات، لذا فإنك تفحص 50 حالة كل أسبوع. إن ذلك أمر مخيف».

ويقول ناقدون إن قادة الحكومة كانوا يدعمون «الثورة الخضراء» قبل أن يتخذوا التدابير الوقائية لحماية السكان. وعلى الرغم من وجود عبارات تحذيرية مكتوبة على عبوات المبيدات الحشرية، فإن كثيرا من المزارعين في دول مثل الهند لا يجيد القراءة. ويعقد وكلاء الحكومة ورش عمل لتعليم المزارعين كيفية استخدام المواد الكيميائية على نحو آمن، لكن هذه الدروس غير المنتظمة لا يتم استيعابها.

وتعمل إحدى المنظمات غير الحكومية الناشطة في مالوا، وتسمى «بعثة البنجاب خيتي فيراسات»، على توعية المزارعين بشأن قضايا الصحة والبيئة، لدرجة أنها تطلب منهم أن يتعهدوا بألا يستخدموا المبديات الحشرية والأسمدة لصالح الزراعة العضوية. ويقول الخبير البيئي فيسال من نيودلهي إن مشكلة البنجاب ما هي إلا غيض من فيض؛ فحتى الآن لا يعرف أحد على نحو أكيد إذا ما كانت هذه المبيدات تقتل الهنود في ولايات أخرى أم لا.