تفاقم الخلافات بين مفتي لبنان والسياسيين ينذر باهتزازات على الساحة السنية اللبنانية

«طفح كيل» عمر كرامي من المفتين وبدأت تصفية الحسابات

TT

تتفاقم الاتهامات التي توجه إلى مفتين لبنانيين، حتى يبدو أنها تتدحرج ككرة ثلج، منذرة باهتزازات وتصدعات تحدث على الساحة السنية اللبنانية. ويقول أحد الإسلاميين في طرابلس إن «الاتهامات التي يوجهها سياسيون سنة لمفتين على صفحات الجرائد، والشتائم المتبادلة، باتت كنشر الغسيل الوسخ للطائفة السنية على الحبال، وهذا مؤلم ومخجل».

وكان رئيس الوزراء السابق سليم الحص، قد أصدر بداية فبراير (شباط) الجاري، بيانا ضد مفتي الجمهورية اللبنانية محمد رشيد قباني يدعوه فيه إلى تبرئة نفسه من التهم المالية الموجهة إليه أو الاستقالة، كي لا «تهدر كرامة الطائفة». وأول من أمس، شن رئيس وزراء سابق آخر، وهو عمر كرامي، هجوما عنيفا على مفتي الجمهورية قباني ومعه مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار، من خلال صحيفته «الرقيب». فقد تصدّر الصفحة الأولى للجريدة عنوانان فقط: الأول «عمامة لبنان بخير» خصص لتعداد «الأخطاء الكثيرة» التي وقع فيها المفتي قباني، الذي يعتبر كرامي «أن الاتهامات المالية الموجهة إليه موثقة». أما العنوان الثاني فهو «هل يسمع المفتي الشعار: طفح الكيل». وفي المقال، مطالبة للمفتي الشعار «بأن لا ينتهج مسلك المفتي قباني في السكوت والمكابرة وأن يبادر إلى الرد على كل اتهام».

وتتبنى المقالة شعارات حملها أساتذة التعليم الديني الأسبوع الماضي أثناء اعتصام أمام دار الإفتاء في طرابلس للمطالبة برفع أجورهم تقول: «لا للاختلاس، نعم لدفع الحقوق»، «نريد أن نعرف ماذا حل بالوقف الإسلامي، ولماذا هذا التعتيم؟»، «نريد معرفة مصير الأموال التي وُهِبت لدار الفتوى من المملكة العربية السعودية». وتقول المقالة: «ثمة أسئلة صارخة لا تزال ضمن الغرف المغلقة حول مواكب المفتي الشعار وسياراته ومرافقيه وبيوته، وأن الأذن الطرشاء في هذا المجال ليست مما يوصف بالحصانة والحكمة».

وقال المفتي مالك الشعار لـ«الشرق الأوسط»: «الوحيد الذي يشن علينا هجوما هو الرئيس عمر كرامي، وهو وحده من يرفض حضور اجتماعاتنا من بين السياسيين في طرابلس. نحن على علاقة ممتازة مع كل الزعامات في المدينة. الرئيس نجيب ميقاتي (رئيس وزراء سابق) - مثلا - لا يستطيع حضور اجتماعاتنا بسبب أسفاره، لكنه عندما يعود يتصل ويسأل عما استجد وما تم الاتفاق عليه. حركتنا السياسية لا تُغضب غير الرئيس كرامي، فيما يرى الآخرون أن عملنا يجمعهم». يتابع المفتي الشعار: «نحن ماضون في عملنا، ويوم الأحد ستجتمع كل القوى الإسلامية في طرابلس، فقد دعوناهم جميعا، لإنشاء «أمانة عامة»، تعمل على التقارب الديني ومن أجل وحدة القرار السياسي».

وعن خلفية النزاع بين الرئيس كرامي والمفتي مالك الشعار، يتفق أكثر من مصدر مطّلع في المدينة، على أنها ذات أبعاد سياسية. وأمر دار الفتوى في طرابلس مختلف عما يحدث في دار الفتوى في بيروت، حيث القضايا المالية هي الطاغية. فمالك الشعار وصل إلى دار الفتوى؛ لأنه مرشح الرئيس كرامي، والآن بدأ يميل إلى الرئيس سعد الحريري، وهو ما يُغضب كرامي ويرى فيه طعنة في الظهر.

ويقول مصدر قريب من كرامي في طرابلس لـ«الشرق الأوسط»: «لقد ارتكب المفتي الشعار أخطاء عديدة، من بينها أنه فقد حياديته عندما حضر إعلان لائحة (14 آذار) في طرابلس أثناء التحضير للانتخابات النيابية الأخيرة. وكان يفترض من المفتي أن يبقى حياديا. هذه كانت الشرارة الأولى، أما الأمر الثاني والأهم الذي أزعج كرامي فهو دعوة مالك الشعار للنائب عن القوات اللبنانية فريد حبيب، إلى غداء كان قد أقامه تكريما للمطران أفرام كرياكوس. علما بأن المفتي يعلم بالحساسية الفائقة للرئيس كرامي من القوات اللبنانية، بسبب اتهامه سمير جعجع (قائد القوات اللبنانية) بمقتل أخيه رشيد كرامي».

ويضيف المصدر: «لقد بالغ المفتي الشعار في الاحتفالات الاجتماعية والبهرجة الفولكورية، فما مدعاة - مثلا - أن يقيم تكريما لمطران يدعو إليه القوات اللبنانية، بينما هو يهمل وضع المشايخ، ولا يرفع الصوت لإنصافهم؟ الشعار ليس مفتيا عاديا، إنه رجل قوي ويستطيع أن ينجز أمورا عديدة لو أراد لكنه لم يفعل، وفتح على نفسه أبوابا كان بغنى عنه». ويقول المصدر مستدركا: «بالنسبة للتهم المالية التي وجهها كرامي للشعار، فليس من وثائق تسندها، ولم نسمع من مشايخ المدينة أن ثمة دليلا عليها. الشعار رجل ميسور سبق له أن عمل في الإمارات، وربما أنه يصرف من أمواله الخاصة، لكن مشكلته الأساسية مع كرامي هي في المواقف والميول». وعن إمكانية وصول المفتي الشعار إلى منصب مفتي الجمهورية اللبنانية، قال المصدر القريب من كرامي: «هذه شائعة يبثها الشعار نفسه، وهو يعلم أن أهالي بيروت سيغلقون محلاتهم ويعلنون إضرابا مفتوحا لو أن هذا حصل. فهذا أمر لم يحصل سابقا، وأهالي بيروت لن يقبلوا بغير مفت بيروتي يخرج من بينهم».

ثمة من يقول في طرابلس إن كرامي استفاد من الأجواء المحمومة ضد مفتي الجمهورية في بيروت، فأشعلها في الوقت ذاته ضد المفتي الشعار في طرابلس، وإن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد. فالرئيس كرامي - بحسب ما يقول هؤلاء - لن يوفر مفتي عكار أيضا، أسامة الرفاعي الذي يعتبر «أن مواقفه كانت منحازة بشكل سافر مع فريق (14 آذار) خلال السنوات الأربع السابقة، وتصفية الحسابات بين السياسيين ورجال الدين الذين تورطوا في السياسية، لن تنتهي بالسرعة التي يتصورها البعض».

يقول النائب السابق عن الجماعة الإسلامية أسعد هرموش لـ«الشرق الأوسط» تعليقا على مسلسل الاتهامات المتلاحقة التي توجه من سياسيين إلى مفتين: «رأي الجماعة بالنسبة لدار الفتوى في بيروت أنه لا بد من إصلاح. هناك لجنة مكلفة تقوم بدورها، وشركة محاسبة موكلة التدقيق، وننتظر التقرير النهائي. أما عن دار الفتوى في طرابلس فالوضع مختلف. نحن نتبنى مطالب أساتذة التعليم الديني، فلا يصح أن يكون أجر الشيخ متدنيا على النحو الذي هو عليه. أما الاتهامات المالية في طرابلس، فلا نستطيع أن نحكم عليها من دون دليل، لكن هناك إثارة للشبهات، وهذا يعني أن الوضع السني في خطر، ولا بد من عملية استنهاض، وتصحيح لسمعة العاملين في المؤسسات الإسلامية؛ لأنها باتت في الميزان». ويضيف هرموش: «للأسف، التجارب الماضية لم تكن مشجعة، لذلك نقول: لا بد من إصلاح».

مصدر إسلامي في طرابلس رفض الكشف عن اسمه يقول: «ما يحدث سنيا ليس سيئا في المطلق، فثمة مياه آسنة بحاجة لمن يحركها. مفتي طرابلس مالك الشعار قَبِل حضور إعلان لائحة انتخابية تضم كتائب وقوات لبنانية. وأنا كمسلم أرى أن المفتي يجب أن يترفع عن الميل إلى هذه الجهة أو تلك، وأعتبر أن عليه أن يحفظ توازن الطائفية، ويجمعها بحكمته. الشيخ مالك الشعار، يشعر اليوم أنه أخطأ، وثمة محاولات منه للعودة إلى الاعتدال».