اليمن بعد الحرب السادسة (الحلقة الأخيرة) : قصر الإمام يحيى.. توافقات للسنة والشيعة

يمنيون في دار الحجر يعتبرون الحكم الإمامي تراثا من الماضي يمكن زيارته فقط.. ويتبرأون من حرب الحوثيين

قصر دار الحجر («الشرق الأوسط»)
TT

يقف طالب يمني أزهري يتجادل مع أحد خدام المسجد الشيعي الملاصق لقصر دار الحجر، قصر حاكم اليمن الأسبق، الإمام يحيى، جنوب غرب العاصمة صنعاء.. كان كل منهما يسند ذراعه على جدار بناه عمال من السنة والشيعة اليمنيين قبل مئات الأعوام. وستحل صلاة الجمعة بعد نحو نصف ساعة من الآن. ويطلب خادم المسجد إلى هذا الطالب السني أن يدعو المسلمين من زوار القصر، الذي حولته الحكومة إلى متحف عام، إلى الصلاة في المسجد الوحيد هنا. كان أغلب الزوار السنة يصلّون في الخلاء عادة قرب مبنى القصر، بسبب الصبغة الشيعية التي يتسم بها دعاء شيخ المسجد، وكأنهم يعبّرون بذلك عن رفضهم لما يقوم به الحوثيون من تمرد شيعي ضد الدولة.

واتسعت حلقة الجدل بين عدد من اليمنيين، السنة والشيعة، لكن الخليط الغفير من الناس توجه مرة واحدة إلى حيث المسجد، وصلّوا جميعا هناك. ولم يتضح ما إذا كانوا قد توافقوا على أن يكون إمام الصلاة سنيا، أم أنهم طلبوا إلى الإمام الشيعي أن يخطب ويصلي ويدعو بطريقة لا تغضب السنة، ولا تغضب الشيعة، ولا تثير الفتنة. وهذا ما كان، حيث خرج المصلون من الباب وعلى وجوههم نوع من الرضا والاطمئنان، فيما كان مكبر الصوت فوق المسجد ما زال يدعو للنبي والصحابة وعلي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء.

ليست توافقات السنة والشيعة وحدها ما يمكن أن تلمسها هنا داخل قصر الإمام يحيى، ابن أسرة حميد الدين، أو فيما حوله من مبان وزوار وسكان محليين، بل توافقات من جانب الزوار الجمهوريين والإماميين، أنصار حكم الإمامة المنتهي عام 1962، الذين أصبحوا يتعاملون مع قصر الإمام يحيي، حكم من 1904 إلى 1948، كمتحف وطني لليمنيين جميعهم، يحمل ذكريات من الماضي، وتظل كما هي ذكريات من الماضي، لا يمكن أن تعود، حتى لو حاول المتمردون الحوثيون في صعدة، شمال غربي البلاد، الزعم بأحقيتهم، كشيعة ينحدرون من آل البيت، في حكم اليمن، كما كان الإمام يحيى يحكمها.

«الإمام كان رجل دولة، فمن هؤلاء الحوثيون؟ لا يمكن مقارنة هذا بذاك.. الحركة الحوثية ترفض أن يتولى أي يمني ليس من آل بيت، وليس من الشيعة، المواقع القيادية العليا والوسطى فيها، لدرجة أنهم حاربوا القبائل أيضا، لأنها سنية، وهذه الحساسيات لم تكن موجودة أيام الإمام يحيى»، هكذا يقول الدليل السياحي محمد منصور، وهو يشرح لخليط من السياح اليمنيين القادمين من شمال البلاد وجنوبها، وإلى جانبهم عدد من السياح العرب والأجانب. لكن أحد أحفاد الإمام يحيى، ويدعى الأمير علي، 70 سنة، ويعيش منذ الإطاحة بالنظام الإمامي وإعلان الجمهورية عام 1962، في الخارج، وصف الزعيم الذي أشعل التمرد في صعدة، حسين بدر الدين الحوثي، كمخلّص، أو كمهدي منتظر، قائلا: «أراد حياتهم فقتلوه».

قصر جده، دار الحجر، يرجع عهد بنائه إلى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، على أنقاض حصن قديم كان شيده الحميريون قبل 5 آلاف عام، أي في عام 3000 قبل الميلاد، وتعرض للتدمير بسبب حوادث الدهر، الطبيعة والحروب، قبل أربعمائة عام. وقام ببناء قصر دار الحجر الفنان والمهندس علي بن صالح العماري، بأمر من ملك اليمن في ذلك الوقت، حيث أراد أن يتخذ منه مقرا صيفيا يعينه الاسترخاء داخله على إدارة شؤون الحكم، إلى أن قتله فيه خصومه حينذاك، هو وحراسه، ودفنوه جواره.

ومثلما مرّ ذلكم الحاكم، وكان يسمى الإمام المنصور، بخلافات مع عدد من القبائل اليمنية، اجتاز الإمام يحيى التجربة نفسها، لكن على نطاق أوسع، حيث تقاتل مع جيرانه، ومع بريطانيا، ومن خلال إعلانه قيام المملكة المتوكلية اليمنية في العقد الثاني من القرن الماضي، حاول الدخول في تحالفات دولية، ليس لبسط سلطانه على مناطق القبائل اليمنية جميعها فقط، بل للتوسع والهيمنة، وهو ما أدى إلى إنهاك قواته في أكثر من جبهة للقتال، وهو ما ظل الإمام يدبر الأمر فيه طيلة أيام وليال في هذا القصر المرتفع المشرف على الوديان الخضراء.

وتكاد الجدران هنا تنطق بما كان.. لكن، على أي حال، يمكن الآن أن تتأمل أن بناء القصر غلب عليه في البداية النحت في الصخرة الكبيرة التي يقوم فوقها، حيث توارثه الكثير من الملوك اليمنيين عبر عقود عدة، إلا أن الحالة التي عليها القصر حاليا، لم يكن قد تم استكمالها إلا حين آل إلى الإمام يحيى بن حميد الدين، بداية القرن العشرين، حيث قام بترميم القائم منه، وإضافة مبان جديدة، وبناء المسجد الذي كتب عليه «بناه لله المتوكل على الله».

ويتكون قصر دار الحجر، بتصميمه المعماري العجيب، من سبعة طوابق، تضم 35 غرفة، وهو قائم أعلى صخرة ناتئة من بين سفوح الوديان، جنوب غرب العاصمة. وبعد أن تجتاز الطرق المرصوفة خارجا من صنعاء، لا بد أن تسلك طريقا ترابيا يجري تعبيده، يهبط بك رويدا رويدا، لتجد نفسك بين رؤوس عالية من الجبال، ومنحدرات عميقة من الوديان.. إلى أن تصل، من بين شق واسع مفتوح بين جبلين، إلى واجهة القصر الذي سُمي باسم الصخرة المبني فوقها، حيث يبدو لك للوهلة الأولى بألوانه الرمادية والبُنية والبيضاء، كأنه جزء منها. يحيط بالقصر عدد من البيوت من الطراز اليمني، كانت تابعة لحاشية الإمام فيما مضى كوزراء الإمام وكتّابه وحراسه. ومن خلف ذلك كله ترى فوق رؤوس الجبال المحيطة بالمكان بقايا لحاميات ونقاط حراسة كانت تكشف الآفاق جميعها التي يمكن أن يأتي منها أي عدو أو غريب.

شجرة ضخمة، زرعها شخص ما منذ نحو سبعة قرون، تفرد أوراقها على مدخل القصر، ولا بد من المرور عبر الباب الرئيسي للدخول.. الباب خشبي سميك، له مصراعان يمكن فتحهما على اتساعهما بما يسمح بمرور شاحنة، لكن أحدهما أكبر من الآخر، وفي المصراع الأكبر يوجد باب صغير مخصص لدخول الأفراد. هذا الباب العملاق مكون من خشب ثقيل الوزن مصفوف بالطول، وعليه، من الداخل، كتل أخرى بالعرض، مدكوكة في بعضها بمسامير حديدية طويلة وعريضة، ويقف أمامها حارس أمن، يدعى عدنان الزهيري، يرحب بالسياح بلا كلل. أما الجدران المحيطة بهذا الباب، فيصل عرضها إلى أكثر من متر ونصف المتر، سواء كانت من جانبي الباب أو من العتبة التي فوقه.

تضع الباب خلفك، وتمشي داخلا عبر أرض صخرية صاعدة إلى أعلى، وتجد عن يمينك مقار كانت مخصصة للحراسة والأمن. وتواصل السير قُدما لتبلغ الطابق الأول.. هنا يمكن أن تلتقط أنفاسك، حيث تدخل جناحا للاستقبال وصالة للضيوف وغرفا أخرى، لمن يريد من أسرة الإمام يحيى وحاشيته، أن يختلي بالحديث مع أحد الزوار، وبخاصة للحديث في بعض الأمور السياسية السرية، مثل مشكلة ترسيم الحدود في الجنوب بين الإمام والاحتلال البريطاني، أو لحل بعض المشكلات القبلية والأسرية، أو للتفاوض من أجل الوصول لحلول وسط، كما يحدث عادة في عمل الحكام والساسة.

صعود الدرجات للتنقل بين طبقات القصر أمر مجهد لكبار السن والأطفال، بسبب ارتفاع كل درج عن الآخر بأكبر مما هو معتاد في المباني الحديثة. في الطابق الثاني تستقبلك ردهة فسيحة، يمكن من خلالها أن تتجول أفقيا أو صاعدا بين دور القصر وفسحاته الداخلية، وكل جدار عريض منها مزين بنوافذ خشبية وزجاجية ذات أضلاع ودوائر ملونة، تعكس أضواء صفراء وحمراء وخضراء على الجدران الصخرية البيضاء، وتنشر جوا من البهجة والارتياح والرضا والطمأنينة.

ومن كل فتحة أو نافذة، من أي طابق، ومن أي اتجاه، يمكنك أن ترى الوديان الفسيحة والأشجار تعلو فيها.. هنا كان الإمام وحاشيته يستوحون الأفكار التي أطاحت بحكم أسرته في نهاية المطاف.. ومن هنا أيضا ترى المزارعين يقودون حميرهم هناك، وفتيات يجلبن الماء من البئر. وترى كذلك إذا كان الحراس يقفون يقظين في أبراج حراساتهم المبعثرة على القمم البعيدة أم لا.

«هذا كان في الماضي».. يقول رجل الأعمال أحمد الحبيلي، القادم من محافظة تعز، جنوب اليمن، مع أسرته، وهم يشاهدون من نافذة قصر الإمام، الأطراف المترامية من الأرض اليمنية حول القصر، ويشير إلى البعيد، وهو يضع يده على رأس أحد أطفاله، قائلا إن آباءه كانوا من مبايعي أسرة الإمام يحيى.. «كانوا من السادة الذين يحق لهم حمل السلاح، والعمل لصالح الدولة (في الزمان الغابر)»، وإن عددا من أشقائه ما زالوا يعتبرون أنفسهم من أتباع الإمام، و.. «بعضهم حارب مع الحوثيين، لكن أنا أحاول أن أغير وجهة نظرهم. نحن الآن جمهورية، ولدينا دستور، ولا بد أن نتوحد على هذا الأساس، حتى لا يسخر منا الناس (في الخارج).. نريد أن نعتاد على شيء آخر غير الحروب والفتن».

على أية حال.. يمكن، قبل أن تترك هذا الطابق، الوصول عبر سرداب منخفض، إلى الجهة الأخرى من هذا الجانب، حيث مطبخ القصر وغرف العجن والخدم، وخلافه.. وأكثر الدرجات عددا داخل القصر هي تلك التي توصل بين نصفه السفلي بملحقاته، حيث الحريم والمطابخ، ونصفه العلوي، حيث مجالس الرجال وغرفهم. وأثناء الصعود من هنا إلى أعلى، تجد على يسارك غرفة كأنها محفورة في الصخور من الداخل، هي غرفة الدويدار، أي القائم على المراسلة، مستخدما صوته، ومن مكانه، ومن هذا الخن، لإبلاغ الأوامر والطلبات بين نصفي القصر.

وتوجد في الجزء الملحق بالمبني غرف الجواري، ومطحنة لطحن الحبوب، وكذا منشر لنشر غسيل ملابس القصر.. وفي أول طابق، فوق غرفة الدويدار، أي الرابع، تجد جناحا لغرف والدة الإمام، وفي الطابق التالي جناح لولي العهد، الذي سيستعيد حكم أبيه من الثوار قبل أن يفقده مرة أخرى إلى الأبد، مكونا من غرف عدة بمستلزماتها. ومن الطابق التالي، سيكون أمامك اتجاهان، الأول تصعد من خلاله، وعبر درجات عالية، إلى جناح علوي خاص بالإمام، حيث كان يختلي إلى نفسه للتفكير والقراءة والكتابة.. أو إلى الجناح الضخم المخصص لنساء القصر، حيث النوافذ هنا عبارة عن مشربيات تسمح بالرؤية من الداخل للخارج، وليس العكس.

في الطابق الأخير، وهو الطابق السابع، يوجد مكان مفتوح من الجهات كلها للجلوس، ويمكن من هذا المكان رؤية كل ما يحيط بالقصر، والتأمل في الحياة بالنظر إلى المناظر الخلابة والمتناقضة أيضا، من خضرة وجمال في الوديان، مستمرة طوال العام، إلى اصفرار وخشونة على الجبال، وما بين هذا وذاك من ألوان متدرجة ومشاهد متباينة، تشبه تباين التقاطعات التي تعصف باليمن بين حين وآخر، سياسيا وقبليا ومذهبيا.

ومن الملحقات المهمة المجاورة للقصر، يوجد في الجهة المقابلة، من الداخل، الشذروان الذي هو عبارة عن جناح استقبال صيفي مزود بمغطس يشبه حمام السباحة الصغير، وفي وسطه تقف ثلاث نافورات تضخ المياه إلى أعلى، فتزيد المكان انتعاشا. والمبنى، بشكل عام، مزود بالكثير من المقار الإدارية الصغيرة التي كان يستعين بها الإمام في شؤون الحكم، منها: المحكمة وخزانة المال والأوراق المهمة، وكذا حمام بخار خاص بالإمام، وغيرها من أدوات.

لكن كيف بدأ حكم الإمام يحيى وأولاده؟ وكيف انتهى؟ وما موقف أحفاده الذين يعيشون الآن خارج البلاد، من قضية التمرد الحوثي الشيعي الذي أنهته القوة العسكرية اليمنية في شمال غرب البلاد الشهر الماضي؟

الإمام يحيى بن حميد الدين، ولد عام 1869، وعُرف وهو يعيش في هذا القصر، باسم إمام اليمن، خلفا لوالده الإمام الملقب بالمنصور بالله، محمد بن يحيى، الذي توفي عام 1904. وحين يثير أتباعه المذهبيين والموالين فكرة أن يكون الحكم لهم، فإنهم يثيرون انقسامات في المجتمع اليمني، كما حدث في صعدة.

نعود إلى أجواء اليمن في بداية القرن الماضي.. فحين لم تعترف الدولة العثمانية المحتلة لليمن، بإمامة الإمام يحيى، نشبت حرب بين الطرفين انتهت عام 1911 بالاعتراف به «إماما»، وأجرى محاولات حثيثة لتوحيد عموم اليمن تحت سلطته، كما حاول تحديث المؤسسة الحكومية والعسكرية، لكن معارضي حقبته يقولون إن فترة حكمه كانت مثالا على التخلف والفساد، وهو ما ينفيه حفيده بقوله إن جده كان محدثا وعادلا.

وشهد هذا القصر خلافات بين الأبناء.. وخرجت منه قرارات غيرت مستقبل الوطن شمالا وجنوبا.. وهنا، اليوم، ومن بين مئات السياح اليمنيين والعرب الذين يفدون إلى قصر الإمام، لا تكاد ترى إلا عددا قليلا من وجوه الأجانب الغربيين أو الآسيويين، والسبب يرجع إلى الحرب التي خاضتها الحكومة ضد المتمردين الحوثيين طوال السنوات الست الأخيرة، وكذلك إلى حوادث تقع بين حين وآخر بين الانفصاليين في مديريات جنوبية عدة، إلى جانب حوادث اختطاف وقتل سياح أجانب مرات عدة في السنوات العشر الأولى من هذه الألفية، مما كلف البلاد خسائر بمليارات الدولارات.

وربما أدى غياب الأجانب عن هذا المعلم السياحي، قصر دار الحجر، إلى حالة من النقاش بين يمنيين وعرب قادمين من مناطق عدة داخل اليمن، ومن دول عربية عدة، وبخاصة من منطقة الخليج.. وللنقاش بين هذه الجدران العتيقة والآثار القديمة مذاق خاص.. يتناولون كل شيء: خلافات السنة والشيعة في اليمن والمنطقة، وما يمكن أن يصلوا إليه من توافقات، وما ينبغي لرجال الدين عمله، وما يجب على الناس في اليمن أن يقوموا به لنزع فتيل أزمة الشمال، ونزع فتيل دعاة الانفصال، والتخلص من تنظيم القاعدة، الذي دمر مستقبل هؤلاء المرشدين السياحيين وأصحاب المحال السياحة الموجودة في القصر الأثري.

الناس من الزوار اليمنيين والعرب هنا، أكثر هدوءا وعقلانية وزهدا، ربما هذا يرجع إلى ما تفرضه أجواء القصر الذي يشير كل ركن فيه إلى أن الإنسان إلى زوال، وأن ما قام به من أعمال هو ما سيبقى، وبخاصة لو كانت أعمالا حسنة. لكن البعض ما زالت لديه، مثل الدولة، هواجس بأن أسرة حميد الدين ومن يبايعونها في الداخل، تريد العودة إلى الحكم.. ويقول الأمير علي: «الإمامة اختيار، والأمر عائد للأمة، ولو كانت الانتخابات في اليمن صحيحة، فمن انتخبته الأمة هو الإمام، بوسائل أكثر تطورا وحداثة، ولكن للأسف التطبيق غير النظرية.. نحن لا ندعي وراثة أي حق في الحكم عن غيرنا من اليمنيين».

ويتنقل الأمير علي، بحسب ما بثه موقع «المصدر» اليمني منتصف العام الماضي، بين دول عربية وأجنبية عدة. وكان الأمير قد ولد في دار شهيرة في العاصمة صنعاء، تابعة لجده الإمام اسمها دار السعادة، تحولت بعد الثورة إلى متحف شعبي يضعه السياح على أجندة زياراتهم قبل أن يغادروا قصر دار الحجر هنا.

«كان السياح الأجانب يتدفقون على هذا المبنى»، يقول بشير محمد العزي، الذي يدير محلا صغيرا مستأجرا من وزارة السياحة، وهو أول محل تقابله في مدخل القصر، ويبيع العزي الصناعات الحرفية اليمنية. ويضيف: «تضررنا من نقص عدد السياح الأجانب، لكننا نأمل أن تشهد هذه السنة حجوزات معقولة.. الأكثر الآن هم السياح اليمنيون والعرب».

ويضطر العزي إلى تخفيض الأسعار، ويمكن أن تنتقي الخنجر اليمني الذي تقدر قيمته بنوع مقبضه، والذي كان يبيعه في مواسم السياحة الغنية بنحو 60 مليون ريال (الدولار يساوي نحو 200 ريال)، بأقل من هذا المبلغ بكثير. ويشتري السياح المحليون خناجر متواضعة، لا يزيد ثمنها على 100 ألف ريال، لماذا؟ «لأن مقبضها عادي، ليس مصنوعا من قرون الغزلان، أو قرون وحيد القرن»، كما يقول العزي.

وبينما تضع النقاب على كامل وجهها، ولا ترى منها غير العينين، تصف الفتاة اليمنية، إشراق، أدوات صنعتها أيدي نساء يمنيات لملابس ومفارش تراثية، وكذا مشغولات معدنية طوعها حرفيون يمنيون في تشكيلات هندسية بديعة، وتبيع أيضا مشغولات مستوردة من الهند.. وتبيع إشراق الـ«معوز»، وهو رداء يشبه المئزر، بنحو 1800 ريال، لكنها تعرض معاوز أخرى بأسعار تصل إلى 30000 ريال، في حال وجود سياح مقتدرين يقدرون قيمة التطريز اليدوي فيه. وتخاف إشراق من فقد عملها هنا مستقبلا في حال استمرت القلاقل في البلاد، واستمر تراجع السياح الأجانب.

وقبل أن تمر أمام هذا المحل للوصول إلى غرف القصر وباحاته، يذكرك صاحب متجر آخر مجاور، ويدعى نوح، بأن هناك من سيدعو لصلاة الجمعة بعيدا عن المسجد الملحق بالقصر، وأن هذا لا يصح، لأن المسجد هو بيت لله، ويسع الناس كلهم، ما داموا ينطقون الشهادتين. ويكتفي نوح بالابتسام، رافضا أن يفصح عما إذا كان سنيا أم شيعيا.. «لكن غالبية الناس هنا شيعة، وهم جيران للسنة، ويعملون معهم في زراعة الوديان، ويصلّون معا في هذا المسجد». يقول المرافق السني، وينصح بعدم طرح مثل هذا السؤال مجددا «حتى لا ينفر منا الناس، فهم مسالمون، هنا، بطبيعتهم».

واغتيل الإمام يحيى على يد ثوار مناوئين لحكمه عام 1948، إلا إن ابنه، أحمد، تولى الإمامة من بعده، وأنشأ كليات عسكرية، تخرج فيها ضباط سيشارك بعضهم في ثورة ضد حكمه، متهمين إياه أيضا بالرجعية. وعقب وفاة هذا الرجل بأسبوع، متأثرا بجراح أصيب بها في محاولة اغتيال سياسي، تولى ابنه محمد البدر، آخر حكام ما كان يعرف بـ«المملكة المتوكلية اليمنية»، حكم البلاد لمدة أسبوع، قبل أن يعلن الثوار الإطاحة به، والإعلان عن قيام الجمهورية في 26 سبتمبر (أيلول) عام 1962، فيما توفي الإمام البدر في لندن عام 1996.

وفي عام 2004، وعلى بعد نحو 400 كلم شمال غرب هذا القصر الذي أصبح أثرا، خرج حسين بدر الدين الحوثي، من محافظة صعدة، متمردا على الدولة، داعيا إلى عودة النظام الإمامي الزيدي الذي قضت عليه ثورة 1962. والمذهب الزيدي مذهب شيعي، تحول على أيدي قيادات حوثية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي إلى مذهب متوافق مع المذهب الشيعي، الذي تستند إليه الثورة الإيرانية الحاكمة في طهران. واعتبر حسين الحوثي السلطة اليمنية خارجة على الإسلام، وأعلن عليها الحرب، قبل أن يلقى مصرعه في مواجهات عسكرية في 2004، ويخلفه شقيقه عبد الملك الحوثي الذي خاض خمس حروب أخرى ضد الدولة، كان آخرها الحرب السادسة التي اعتدى فيها المتمردون على الحدود السعودية، وأجبرتهم الحكومة اليمنية على وقف إطلاق النار الشهر الماضي.

وبحسب تصريحاته الأخيرة تعليقا على اتهامه بـ«أن لكم يد في حرب صعدة، وأن هناك من يريد إعادة الإمامة عن طريق ترويج الحوثيين لمشاريع رجعية، يقول الأمير علي إنها أقاويل، لا تملك الحد الأدنى من المنطق والحجة، مستبعدا في الوقت نفسه عودة أسرة آل حميد الدين إلى اليمن «في ظل هذه الظروف»، قائلا عن موقفه من الأحداث في البلاد، إنه لا يريد أن يتكلف كلاما قد يدخله «في تفسيرات بعيدة عن حقيقة منطلقاتنا».

أما زوار قصر جده هنا، قصر دار الحجر، من السياح المحليين والعرب، فيتداولون مثل هذه العلاقات، معتبرين أنها أصبحت جزءا من الماضي، بما فيها «فتنة التمرد الحوثي بمطالبها المذهبية»، التي أنهتها الدولة أخيرا.. وبعد قليل، أي قبل أذان صلاة الجمعة بنحو نصف ساعة، كانت هناك حلقة، أمام حمّام سباحة الإمام يحيى، تجمع فيها عدد من اليمنيين والعرب.. كان الطالب الأزهري يتجادل مع خادم بالمسجد الشيعي، وكل منهم يسند ذراعه على الجدار. كان الكل يريد أن يصل إلى «توافقات»، لكي لا تكون صلاة الجمعة صلاتين، صلاة للشيعة وصلاة للسنة، بل صلاة واحدة للجميع. وهو ما كان في نهاية المطاف.