فرنسا تسعى للتخلص من شبح مذبحة رواندا

تريد طي صفحة الماضي سياسيا.. لكن وجود متهمين على أراضيها يحرجها

TT

لعدة سنوات كان شبح مذبحة رواندا الجماعية التي وقعت عام 1994 يطارد فرنسا، حتى وصل في الآونة الأخيرة إلى هذه الضاحية الهادئة بمدينة بوردو ومنزل الدكتور سوسين مونيمينا الهادئ. فقد ألقي القبض على مونيمينا، وهو طبيب نساء حصل على تدريبه في فرنسا، هنا في يناير (كانون الثاني) الماضي، بناء على مذكرة توقيف دولية أصدرتها الحكومة الرواندية التي كانت تبذل مساعي مستمرة لتسلمه من فرنسا حتى تتمكن من محاكمته بتهم ارتكابه جرائم اغتصاب، والمشاركة في المذبحة الجماعية، والتخطيط لارتكابها، والتعاون مع المجرمين (على ارتكابها). وقد أطلق سراح الطبيب، 55 عاما، بانتظار نتيجة جلسة الاستماع المقرر إجراؤها في يونيو (حزيران) المقبل.

لم يكن من الممكن أن يكون توقيت محاكمة مونيمينا، التي أثارت مجددا قضية الموقف الفرنسي المنتقد تجاه المذبحة، أسوأ من ذلك. فبعد سنوات من الفتور في العلاقات، يبذل زعماء فرنسا ورواندا جهودا من أجل المصالحة رغم التوتر الدائم بشأن الصلة العسكرية والدبلوماسية التي تربط بين فرنسا والحكومة التي كان يديرها الهوتو، والتي ألقي على عاتقها اللوم في المذبحة التي يقدر ضحاياها بنحو 800 ألف من قبائل التوتسي خلال الحرب الأهلية عام 1994.

وبالنسبة لرواندا، التي يهيمن عليها حاليا التوتسي، يمثل ذلك التقارب فرصة لعقد صفقة مع أحد اللاعبين السياسيين والاقتصاديين الأساسيين في أفريقيا، التي تحظى فيها فرنسا بالكثير من الحلفاء والنفوذ. ومن جهة فرنسا، يحمل تجديد العلاقات رسالة أخرى؛ حيث إنه يمثل الأمل في وقف الاتهامات سواء الداخلية أو الأفريقية المتعلقة بتورط قيادات سياسية وجنود فرنسيين في مقتل الآلاف من التوتسي.

وأفادت نتائج التحقيقات الرواندية الرسمية قبل عامين أن فرنسا كانت «مشاركة سياسيا وعسكريا» في المذبحة الجماعية. لكن التحقيق الفرنسي الذي قام به البرلمان عام 1998 أكد أن الحكومة التي كان يرأسها فرانسوا ميتران ورئيس الوزراء إدوار بالادور في ذلك الوقت لم ترتكب أي أخطاء.

وفي ظل تلك الخلفية المتوترة، تعهد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته التاريخية إلى العاصمة الرواندية كيغالي والرئيس الرواندي بول كاغام خلال الشهر الماضي بأن يضعوا ذلك الجدل المتعلق بالمذبحة خلف ظهورهم، أو على الأقل يتصرفان وكأن تلك المرحلة قد انتهت. وبلغة مدروسة بعناية، أقر ساركوزي لأول مرة أن فرنسا وقواتها في رواندا ارتكبت «أخطاء» أثناء تعرض التوتسي للقتل على يد حلفاء فرنسا من الهوتو. وفي المقابل، أرسل كاغام، أحد زعماء المتمردين التوتسي سابقا، سفيرا إلى باريس ووعد بالعمل مع فرنسا على إقرار السلام في الكونغو وغيرها من المناطق التي ترزح تحت وطأة الحرب بمنطقة البحيرات العظمى في وسط أفريقيا.

من جهة أخرى، قال مونيمينا، من الهوتو، ويعيش حاليا في فرنسا مع زوجته، إنه لا يؤمن بجهود المصالحة لأنها تعتمد على «الكثير من الكذب». كما أن الكثير من الناس، سواء في فرنسا أو رواندا لديهم ما يخفونه. بالإضافة إلى أن كلا من فرنسا ورواندا، التي يحكمها التوتسي الآن، ليس لديها إلمام بكل ما وقع خلال الأشهر الأربعة الدموية.

وفي حوار أجري معه، قال مونيمينا إن الإدعاءات الموجهة ضده جاءت نتاج صداقة فاسدة، حيث قرر زميله التوتسي في جامعة بوردو بعد المذبحة الانتقام من مونيمينا لكونه من الهوتو. وأضاف مونيمينا أنه بناء على نصيحة صديق سابق، قام نشطاء في مجال حقوق الإنسان بالذهاب إلى رواندا؛ حيث جمعوا شهادات مفبركة تربط بينه وبين المذابح التي ارتكبت في تومبا التي كان يعمل بها في ذلك الوقت. وقد وصلت الكثير من تلك الشهادات إلى المحاكم الرواندية، التي حكمت على مونيمينا غيابيا بالسجن مدى الحياة عام 2008. وإضافة إلى حالات غير محددة من الاغتصاب، كان طلب تسليم مونيمينا يتهمه بقتل ثلاثة أشخاص في الحرم الجامعي لـ«بوتير» وبالتعاون مع بعض الزعماء المعروفين المشاركين في المذبحة بالتخطيط في الكثير من عمليات القتل الأخرى. وأضاف مونيمينا: «كل تلك المعلومات خاطئة. كما أن هناك من الأشخاص الذين وردوا في ذلك التقرير من لا أعرفهم من الأساس، فيما ذكر آخرون أعرفهم، لكنني لم أكن على صلة بهم. مما لا شك فيه أنني أعرف بعض الأشخاص المتورطين في المذابح، ولكن هل يجب أن أتحمل مسؤولية ما فعلوه؟». وأضاف مونيمينا أن التقرير الأساسي الذي زعم تورطه في المذابح ثبت لاحقا أنه يضم تهما غير رسمية ولم يكن تقريرا للأمم المتحدة كما زعموا. لكن الضرر كان قد وقع، وتعرضت سمعته التي بناها عبر 16 عاما من الدراسة والممارسة الطبية في فرنسا للانهيار.

من جانبهم، فإن محاميي مونيمينا جعلوه يتوقع أن يحصل على حكم لصالحه. وحتى الآن، رفضت المحاكم الفرنسية كل طلبات التسليم التي تشبه القرار الذي يجابهه في الوقت الراهن، حيث كانت المحاكم الفرنسية تصر على أن نظام القضاء في الحكومة الرواندية التي يديرها التوتسي لا يضمن للهوتو محاكمة عادلة.

من جهته، قال ألين غوثيير الذي يترأس «هيئة الادعاء المدني المشتركة» التي تمثل الناجين من المذبحة إنه إذا لم توافق المحاكم الفرنسية على تسليم المتهمين بالمشاركة في المذابح، فيجب على الحكومة الفرنسية محاكمتهم في فرنسا. وأضاف أن هناك عدة روانديين تمت محاكمتهم في بلجيكا وسويسرا لكن نظام القضاء الفرنسي كان بطيئا في اتخاذ إجراءات. بل إنه كان في الحقيقة بطيئا للغاية حتى إن «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان» اتهمت فرنسا بالتباطؤ في التعامل مع القس ونسيلاس مونيشياكا المتهم بالتحريض على المذبحة في أبرشيته بكيغالي، والذي لجأ إلى فرنسا ويعيش حاليا في غيسورز بشمال غربي باريس.

ومع ذلك، قال غوثيير المتزوج من امرأة توتسية رواندية، كانت هناك الكثير من الإشارات الطيبة خلال الشهور الأخيرة؛ حيث بدأت فرنسا ورواندا التفاوض بشأن المصالحة. وقد سافر أربعة قضاة إلى رواندا لجمع الأدلة ووعدت وزارة العدل بتجهيز زنزانة خاصة للتحقيق في مثل تلك الجرائم بمزيد من السرعة والفعالية.

بالإضافة إلى أن الشرطة الفرنسية اعتقلت أغاثي كانسزيغا أرملة جوفينال هابياريمانا، الرئيس الرواندي المقتول، بناء على مذكرة تتهمها بالمساعدة في التخطيط للمذبحة بعد اغتياله، وعلى غرار مونيمينا، مثلت أمام المحكمة الفرنسية لكي تنظر في قرار تسليمها وهي في انتظار الحكم حاليا.

وقد وجهت هيئة الادعاء المدني الاتهامات ضد 16 روانديا يعيشون في فرنسا، لكنها أشارت إلى أن أضعاف ذلك العدد ربما يكونون موجودين في البلاد دون التعرف عليهم. ويقول غوثيير، إن بعضهم خاصة الضباط في الجيش والذين كان لديهم أصدقاء في القوات الفرنسية كانوا قد خرجوا من رواندا في طائرات تابعة للجيش الفرنسي بعدما اتضح أن جماعة كاغام المتمردة على وشك الاستيلاء على السلطة. وأضاف في حوار أجري معه بمنزله في رانس: «لم تفتح الحكومة قضية واحدة. لا يريد أحد في فرنسا أن تحدث كل تلك الأشياء». وذكر أنه في الحقيقة كانت أكثر القضايا التي قدمتها الحكومة الفرنسية أهمية هي الاتهامات الموجهة ضد كاغام، التي اتهم فيها بالمشاركة في حادثة إطلاق النيران في أبريل (نيسان) 1994 على طائرة تحمل هابياريمانا. وكان مقتل هابياريمانا قد أثار غضب زعماء الهوتو وأصبح الشرارة التي تسببت في المذبحة.

* خدمة «واشنطن بوست» - خاص بـ«الشرق الأوسط»