«أربع حيطان».. حلم أكبر من الوطن

مساعي العثور على سكن في مصر تصطدم بنقص المعروض وشروط البنوك

TT

«مصر هي أوضتي (غرفتي)» اسم مقترح لفيلم سينمائي جديد لواحد من نجوم الصف الأول في السينما المصرية. لكن الاسم، وحسب مصادر مطلعة، أثار غضب جهة أمنية طلبت تغييره، فقد بدا «ساخرا.. ومستفزا»، بقدر ما يختزل مساحة الوطن في «أربع حيطان»، على الرغم من كون أزمة الإسكان في مصر تشكل عصبا عاريا يؤرق الجميع.

وهو ما جعل توفير هذه «الأربع حيطان»، بعد أن حملت أسماء رنانة من قبيل «ابن بيتك»، جزءا رئيسيا من البرنامج الانتخابي للرئيس حسني مبارك، في أول اقتراع حر مباشر على مقعد الرئاسة في البلاد، حيث التزم مبارك بتسليم نصف مليون وحدة سكنية خلال ست سنوات، وقد أعلن وزير الإسكان بعد مرور 4 سنوات من انطلاق المشروع عن الانتهاء من تنفيذ ‏212‏ ألف وحدة سكنية.

لم تكن أي منها من نصيب محمد سليمان، وهو شاب مصري، 32 عاما، يعتقد أن «الأربع حيطان» حلم ربما أكبر من الوطن، فسليمان كان قبل قرابة الشهر يحمل الوطن في قبضته عَلَما وسط حشود المصريين خرجوا احتفالا بفوز منتخبهم الوطني لكرة القدم بكأس الأمم الأفريقية، لكنه افتقر كما قال إلى أربع حيطان يعلق عليها صورة عائلية.

وما كان يبدو لسليمان خطابا غائما عن مستقبل تتناوله النخب السياسية وتتناقله وسائل الإعلام أصبح أرقاما ومشاريع قوانين وجداول ميزانية تفتش في جيبه عن قليل يغامر به. فـ«منذ أن تعرض بيتي لهبوط بالتربة أبحث عن مكان آخر، كانت شقة إيجار قديم (عقد غير محدد المدة)» قالها بنبرة تشي بالأسى على الرغم من كونها شقة في الطابق الثامن في بناية من دون مصعد.

المفارقة أن هبوط التربة الذي تأثر به منزل سليمان جاء نتيجة النشاط الملحوظ لحركة البناء من حوله، والذي أثر على نسب المياه الجوفية في باطن الأرض وهدد منزله، ليبدأ رحلة بحثه عن سكن، وسط غابة من الأبراج اختفى خلفها بيته ومدن جديدة شبه خالية.

من الصعب الحصول على أرقام رسمية محددة عن الوحدات السكنية الخالية في مصر، وبحسب تصريحات لرئيس جهاز التعبئة والإحصاء نشرتها صحيفة «المصري اليوم» وصل عدد الوحدات المغلقة والخالية في مصر إلى 7.8 مليون وحدة، لكنها وفق تقديرات شبه رسمية تتراوح بين 7 ملايين وحدة وحتى 9 ملايين وحدة سكنية خالية، من بينها يأمل سليمان في العثور على واحدة.

بحماس البدايات انطلق سليمان للبحث عن سكن، معتمدا على دخل شهري كان يعتقد أنه يضعه في الحيز الدافئ لذوي الياقات البيضاء، فكان اختياره للتجمعات السكنية التي تكفل ببنائها القطاع الخاص، والتي ترسم قوسا هائلا، حول خاصرة القاهرة الكبرى، يعين نمط التمايز الاجتماعي بها.

لكنها تجربة أجبرت سليمان على إعادة التفكير في مكانته على السلم الاجتماعي، ما إن استعلم عن شروط الحجز بهذه التجمعات. قال: «كان أول احتكاك حقيقي لي مع تلك المشروعات. كانت مجرد إعلان يصادفك في الصحيفة أو على شاشة التلفزيون وأصبحت فجأة سؤالا وجوديا».

«الرقص على السلم» تعبير مصري دقيق يشخِّص حالة الفرد الذي لم ينجح في الانتماء الآمن والاطمئنان لهوية تشكل نمط سلوكه، وهو التعبير الذي استخدمه سليمان لوصف أزمته. وأكمله: «لا اللي تحت شافونا ولا اللي فوق سمعونا». كل ما يطلبه «بيت أمامه شجرة»، وأوضح أن الأمر يتعلق بابنه الذي يسأل دائما عن «شكرة (شجرة)»، أقصى ما استطاع سليمان تحقيقه هو وضع صورة شجرة على (سطح مكتب) جهاز الكمبيوتر الخاص به حيث يقيم في منزل والده بشكل مؤقت حاليا، وحيث لا يوجد متسع لغرس شجرة في غابة الإسمنت التي تحاصره.. «أهي أربع حيطان والسلام».

وعلى غرار المثل الشعبي «باب النجار مخلع» يبدو أحمد السيد، 27 عاما، مفتقرا لهذا السلام، فالقدر وضعه في مفارقة لا يستطيع تجاوزها، فهو يعمل بإحدى كبريات شركات المقاولات المصرية كمحاسب، ويتابع بحكم عمله الدورة الجهنمية لسوق العقارات (240 مليار دولار حجم الاستثمار العقاري في مصر) دون أن يتمكن من ملاحقتها. فقرر تجربة حظه في مدينة جديدة تدعمها الحكومة المصرية وتقبل السداد عبر التمويل العقاري، وتشيدها شركة منافسة للشركة التي يعمل بها.

تقدم بالأوراق المطلوبة وبينها مفردات دخله الشهري، وتسلم إفادة من شركته أن دخله الشهري 2000 جنيه. قال: «طيب يا ريت.. أنا كل اللي بأقبضه مش معدي 1400 جنيه». لكن شروط الحجز لغير المتزوجين أن لا يتعدى دخله 1500 جنيه كحد أقصى.

وبعد خلافات مع زميلته التي ينوي خطبتها، بعد أن رفض بنك التمويل العقاري طلبه لمخالفته الشروط، قرر مقابلة أسرتها، كان الحل الوحيد المتاح هو القانون الجديد (عقد محدد المدة بمقابل شهري كبير نسبيا بالنسبة لمتوسط الدخل في مصر). وقال: «أعمل إيه طيب، لكن بدأت أفكر في المستقبل.. فتراجعت عن فكرة القانون الجديد، اكتشفت أنه سيلتهم ثلث دخلي ولا يسمح بالاحتفاظ بمكان للغد. فماذا أفعل بعد عشر سنوات مثلا. سأكون في الشارع».

الخوف من هذا المصير لا يقف أمام المقبلين على الزواج حديثا، فتحت إلحاح الرغبة والأمر الواقع يبحث أحمد معوض، 28 عاما، عن شقة إيجار جديد. ما يقف أمام معوض الآن ليس توفر المعروض منها، إنما إصرار أصحاب هذه الشقق على عقد محدد بسنة واحدة. وقال: «العفش (الأثاث) جديد بتاع عروسة ومين عالم؟!! جائز جدا بعد سنة لا يتم التجديد وساعتها سأكون مجبرا على الانتقال بالعفش. يعني بهدلة». وأضاف: «شوية الخشب دول جهد السنين الماضية».

«في البداية فكرت في التمويل العقاري.. لكنني اكتشفت الخدعة». هكذا قال معوض الذي قرأ نحو ثلاثين صفحة هي مجمل قانون التمويل العقاري رقم 148 لسنة 2001 ولائحته التنفيذية، وخرج دون أن يكتشف كيف يمكن لهذه السطور أن توفر له أربع حيطان.

الابتسامات الدائمة لموظفي البنوك الذين ودعوه خلال الأيام اللاحقة بعدما قاموا بحساباتهم بسرعة خاطفة على جهاز حاسب آلي صغير شعر تجاهه بكراهية حقيقية فلا واحد من تلك الأجهزة أظهر تعاطفا معه، وأصبح على قناعة كاملة أن الظرف العام غير موات، وأن ما هو مؤقت قد يدوم.

فما يتم تقديمه لك كـ«واحد من محدودي الدخل» هو 60 مترا مربعا مقابل 155 ألف جنيه، «يعني سعر المتر لشاب في بداية حياته يقف بنحو 2600 جنيه.. ومطلوب مني في الشهر قسط 1200 جنيه أنا بـ(أقبض) كام بقى.. تحب تعرف!!».

لم يكن هناك داع، فمتوسط دخل الموظف الشاب في مصر لا يتجاوز 60 دولارا في الشهر، وإذا غامر بالبحث عن شقة فإنه أن يواجه جيشا من الوسطاء وسماسرة الأحلام، وفسادا كان كفيلا بأن يضع عددا من المسؤولين الكبار في وزارة الإسكان في مصر رهن التحقيق، وربما محاكمات قد تقودهم إلى أربع حيطان من نوع آخر. بعد سنوات من احتجاز أحلام الشباب داخل غرف صغيرة يعلنونها وطنا ويصبح شعار «مصر هي أوضتي»، كنوع من المفارقة، وعلى سبيل الاستعارة والمشاكسة الأدبية للأغنية الشهيرة «مصر هي أمي».