البصرة: الأهالي يحبون النخلة لدرجة العشق.. والفلاحون يتخلون عنها

توجهوا لتكثيرها في حدائقهم والأرصفة بعد تراجع أعدادها«بشكل مخيف»

مزارع يجني التمر في بستان نخيل في مدينة البصرة (رويترز)
TT

منذ أكثر من ثلاثة عقود تخلى الفلاحون والمزارعون في محافظة البصرة عن غرس النخيل وتطوير بساتينه التي اشتهرت بها المدينة، فيما لم يألوا الأهالي ودوائر الزراعة والبلدية جهدا في غرس الفسائل الجديدة في المساحات الفارغة في حدائقهم وأمام مساكنهم وفي الجزرات الوسطية للشوارع والحدائق العامة. وإذا ملك المزارعون من الأسباب ما يبررون به هذا العزوف بكثرة الحروب التي ذبحت الآلاف من أشجار النخيل المثمرة  وتقصير الدولة في تعويضهم وغياب  الحوافز لإعادة إعمار وتطوير البساتين وتوفير وسائل مكافحة الآفات ومنع تهريب الأمهات وفسائل الأنواع النادرة  وشح وارتفاع نسب الأملاح وطول مدة انقطاع المالكين عن متابعة بساتينهم ومعرفة أحوال الفلاحين  وزحف الأحياء السكنية عليها، فإن الأهالي ومسؤولين حكوميين  أعربوا عن خشيتهم من اختفاء رمز مدينتهم واعتزازهم بشجرها،  فأقدموا بشكل عفوي على تكثيره كلما سنحت الظروف بزراعة واحدة أو أكثر منها.

يشتهر سوق المقام وسط منطقة العشار ابتداء من النصف الثاني من شهر مارس (آذار) وحتى نهايته من كل عام بعرض أنواع من لقاح النخيل ومن أشهره (الغنامي) الذي يتحول في أوج نضوجه إلى دقيق أبيض له رائحة الإنسان، حيث يبدأ «ديخ» الطلع الحاوية على العذوق بالتفتق معلنة موسم التلقيح ، ومن مفارقات السوق تحول رواده من الفلاحين إلى أصحاب الحدائق من مربي النخيل. وأجمع المعنيون بالنخيل في حديث لـ«الشرق الأوسط» بالقول إنه لم تكن النخلة كغيرها من الأشجار المثمرة لدى أهل المدينة، بل تحتل الصدارة في اهتماماتهم، وإن لعبت  العوامل المناخية دورا كبيرة في تكاثرها وجودة أنواع تمورها حيث تنمو بالأجواء الحارة الرطبة صيفا، فهم  يتباركون بوجودها داخل منازلهم ويطعمون الآخرين من تمرها، ويتباهون بسخاء إنتاجها، ويرددون الآيات الكريمة التي وردت فيها، ومحاسنها في السيرة النبوية، ودورها في حياة المسلمين الأوائل في حلهم وترحالهم، وقبل ذلك ما وجده الآثاريون  في حضارة وادي الرافدين من نقوش على الجدران وتماثيل للنخلة  تعود لأكثر من خمسة آلاف سنة.

ويرى عبد الجبار علي، مشرف درس الفنية أن «أكثر المواضيع التي يجيد رسمها طلبة الصفوف الأولى بالدراسة الابتدائية هي النخلة، إذ يجمعون على رسم سعفها باللون الأخضر وجذعها  بالبني ورطب عذوقها باللون الأصفر، وبعضهم يضعها بجانب نهر، وآخرون يرسمون خلفها شمسا أو عصفورا قريبا منها»، مؤكدا أن «ذلك يدل على  تأثير النخلة في المشهد اليومي للطفل».

وإذا كانت بساتين  النخيل الممتدة من البصرة إلى الفاو على الطريق الخارجي  لم يبق منها منذ الحرب العراقية الإيرانية إلا جذوع نخل خاوية لم ترفع حتى اليوم جثامينها، وبقيت كشاهد جرمي على فداحة الحروب، فإن العشرات من البساتين في أبي الخصيب أخذ نخلها بالاصفرار والهلاك لشح وارتفاع نسبة الأملاح في مياه شط العرب  بعد إغلاق إيران لمجرى نهر الكارون.

وتحدث عبد الحسن راهي، فلاح، عن عوامل تداعي زراعة النخيل بالقول إن «أشهر بساتين النخيل تعود ملكيتها لعوائل بصرية معروفة غادرت المدينة منذ أزمان بعيدة أو لمالكين من دول الخليج، وخاصة من الكويتيين، ولما خاب أمل فلاحي تلك البساتين في الحصول على تشريع حكومي بتمليكهم إياها لانقطاع المالكين عنها مستغلين الظروف السائدة عام 2005، لم يهتموا إلا بالقدر الذي يسد حاجاتهم الذاتية من تمرها، إضافة إلى استحواذ أعداد كبيرة من العشوائيين عليها حيث شيدوا عليها دورا للسكن». وأضاف لقد «توجه أغلب الفلاحين إلى أعمال أخرى غير الزراعة لتوفير مردود مادي سريع نتيجة لتدني أسعار التمور ودخول المستورد الرخيص من المحافظات الأخرى ودول الجوار إلى المدينة مضافا إليها استفحال  الأمراض والأوبئة التي أصابت النخيل مصحوبة بارتفاع أسعار المبيدات الزراعية وشحتها وعدم قدرة المزارعين على توفيرها،  مما أدى إلى تناقص خطير في أعداد النخيل».

ويرى كاظم محمد، متقاعد، أن «الكثير من أهالي البصرة يحبون النخلة إلى درجة العشق، إذ لا تخلو حديقة منزل من واحدة أو أكثر، فيما يستثمر آخرون الأرصفة التي أمام مساكنهم لتزيينها بالنخيل»، وأوضح «إذا كان الفلاحون ينظرون إلى النخلة من جانب مردودها المادي فإن الأهالي يتباركون فيها فهي شجرة خير ونعمة وبركة».

ومن جهته، قال عامر سلمان عبد الحسين، مدير زراعة المحافظة، إن «المعنيين في كلية الزراعة  ومركز تكاثر النخيل بالجامعة ودوائر البلدية تنبهوا إلى المخاطر التي تتعرض لها النخلة في المحافظة وتناقص أعدادها بشكل كبير، مما حدا بتلك الدوائر إلى التوصل إلى وسائل أكثر تقنية في تكاثرها واستثمار الشوارع الحديثة والحدائق العامة لزراعة أعداد منها»، مشددا على أن «ظهور مشكلة ارتفاع نسبة الأملاح مؤخرا أدى إلى موت أعداد كبيرة منها».