ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 11) : الباجه جي: العسكريون أبلغوا البزاز سرا أنهم لا يريدون رئيسا مدنيا

أنا لم أكن أخدم حكومات أو أنظمة بل خدمت العراق وشعبي بجد وكفاءة عالية وإخلاص وتفان.. لهذا أبقوا علي ولم يقصوني

عدنان الباجه جي وزوجته مع عبد الرحمن البزاز في الامم المتحدة عام 1965 («الشرق الاوسط»)
TT

في مذكرة أعدتها وزارة الخارجية البريطانية لوزيرها جورج براون، قبل اجتماعه مع الدكتور عدنان الباجه جي في 28/9/1966، تصف وزير الخارجية العراقي، قائلة: «إن حكومة صاحبة الجلالة مدركة تماما للإسهام البناء الذي قدمه الدكتور الباجه جي بصفته مندوب العراق الدائم لعمل المجلس الاقتصادي والاجتماعي. إن التحسن الجاري في عمل المجلس بصفته المنبر الرئيسي للبحث في موضوع التنمية الاقتصادية على الصعيد الدولي يعود الفضل فيه إلى حد كبير إلى تأثير الباجه جي»، وفي موضع آخر، يذكر ملاحظة عن الباجه جي «إنه ذكي وطموح وكيس، مهذب في سلوكه، ورفيع الثقافة، كما أنه خبير في مسائل الإجراءات لدى الأمم المتحدة».

ولعل من أبرز القضايا الدولية التي تصدى لها الباجه جي لدى الأمم المتحدة هي «قضية قبرص ومشكلة اليونانيين مع الأتراك التي لعبت أنا دورا مهما فيها ووقفت إلى جانب الأتراك، وربما كان لعوامل الجيرة والدين تأثير في موقفي هذا، كما أن اليونانيين كانوا متطرفين في قضية توحيد قبرص وجعلها يونانية كلها، إضافة إلى هذا هو أن الأتراك أنفسهم استنجدوا بنا وطلبوا المساعدة منا وقد اتصل بي رئيس الوزراء عبد الرحمن البزاز وقال ( إذا بالإمكان مساعدتهم) وترك تقدير الأمر لي، وكان علي أن أقدر أن للعراق مصالح مع تركيا، مصالح بلد وشعب وليس له مصالح مع اليونان، وأن أضع حسابات لهذه الأمور، فإذا كسبنا ود الأتراك سوف نستفيد منهم في موضوع المياه والحدود والتجارة، وغيرها».

ومما لا شك فيه أن أهم قضية كان قد اشتغل عليها الباجه جي هي القضية الفلسطينية وتحرير المغرب والجزائر وتونس وعدن، وبعد مضي أكثر من ستة عقود على قرار تقسيم فلسطين، يعتقد «أنه لو أن العرب كانوا قد قبلوا بقرار التقسيم عام 1948، ربما كان هو الحل. لكن الحقيقة هي أن الانتداب البريطاني على فلسطين والذي انتهى في 14 مايو (أيار) 1948، وخلال انسحاب قواتهم الذي استمر 45 يوما، مكن قوات المنظمات الإرهابية اليهودية مثل الهاغانا وشتيرن وأرغونة من الاستيلاء على مناطق واسعة في الجليل الأعلى وضواحي القدس وفي الرملة، وهذه المناطق كان المفروض أن تكون ضمن الدولة العربية بموجب قرار التقسيم، هذا يعني أن اليهود هم من أفرغ قرار التقسيم من محتواه، ثم إن العرب كانوا يشكلون ثلثي السكان، بينما القرار أعطى 55% من أراضي فلسطين لليهود، و45% للأغلبية العربية من أصحاب الأرض الشرعيين، فكان من الطبيعي أن يرفض العرب هذا القرار، وحتى لو كانوا قد قبلوا بقرار التقسيم فإن اليهود ما كانوا قد سمحوا بتطبيقه لأنهم ومثلما قلت قد أفرغوا القرار من محتواه». وقال أن «العقيدة الصهيونية واضحة ولم تتغير حتى اليوم وهي أنه يجب أن تكون لليهود دولة في أرض الميعاد، في الأرض التي وعدهم الله بها حسب معتقداتهم الدينية، وأن تكون هذه الدولة لليهود فقط، وأن يجتمع كل يهود العالم هناك بعد أن يغادروا ويتركوا بلدانهم الأصلية، لهذا لن يتخلوا عن الضفة الغربية، يمكن أن يتخلوا عن غزة، فهم يسمون الضفة دينيا يهودا والسامرة، ويقولون هذه جزء من أرض إسرائيل».

ويستذكر بأن «العراق كان قد دعم القضية الفلسطينية، ولعبت أنا دورا في ذلك لدى الأمم المتحدة، كما لعبت دورا في قضية تحرير عدن من البريطانيين وإلحاقها باليمن، وقبل سنة 1946، حيث كنت أنا عضوا في الوفد العراقي للأمم المتحدة، دعم العراق قضيتي لبنان وسورية والمغرب. الأمر المهم الذي أريد أن أؤكد عليه هو أنه على الرغم من تغيير الحكومات والأنظمة الحاكمة في العراق، سواء في العهد الملكي أو الجمهوري، فإن السياسة العراقية تجاه القضايا العربية لم تتغير بل بقيت ثابتة، فعندما جاء عبد الكريم قاسم كرئيس لأول حكومة جمهورية كان موقفه من فلسطين والجزائر وحتى قضية عدن ثابتا وداعما بقوة، وجاء البعثيون عام 1963 وبقي الموقف العراقي مثلما هو».

وقد يثير موضوع بقاء الباجه جي واستمراره في العمل مع كل هذه الحكومات والأنظمة والوجوه المتعاقبة على الرغم من تناحرها وتقاتلها فيما بينها، يفسر ذلك بهدوء، قائلا: «على المستوى الشخصي هناك من سألني كيف استطعت أن أعمل في العهد الملكي ومن ثم في عهد قاسم وبعدها عبد السلام وعبد الرحمن عارف، قلت أنا لم أكن أخدم حكومات أو أنظمة، أنا كنت أخدم العراق والدولة العراقية، وكنت أخدم بلدي وشعبي بجد وكفاءة عالية وإخلاص وتفان، لهذا أبقوا علي ولم يقصوني أو يقيلوني أو يحيلوني على التقاعد، فإذا كان هناك من يعتقد أن بقائي وتقدمي في وظيفتي خلال العهد الملكي هو كوني ابن عائلة معروفة ووالدي كان رئيسا للوزراء، وأن لنا نفوذا وقت ذاك، فإن هذا النفوذ لم يكن موجودا بعد العهد الملكي، وكنت في منصب مرموق وكان الكثيرون يتمنونه ويطمعون به، بل إني أصبحت وزيرا للخارجية عام 1966، ولا تفسير عندي سوى أنهم قدروا كفاءتي وإخلاصي في العمل من أجل العراق وليس من أجل حكومة أو نظام أو شخص».

ويستشهد الباجه جي بوزير الخارجية صبحي عبد الحميد حيث أخبرني فيما بعد قائلا: «(كان وجودك من أفضل الأمور التي حافظنا عليها)، إذ كان يهمهم أن يكون لدى الأمم المتحدة شخص مثلي له حضور وعلاقات ومعرفة متميزة».

ربما من الصعب، بل من المستحيل أن نتصور أن الباجه جي كان قد عمل مع أكثر من 15 وزيرا للخارجية وأكثر من سبع رؤساء وزارات عبر أنظمة ملكية وشيوعية وقومية وبعثية، يوضح «أنا عملت مع كثير من وزراء الخارجية العراقيين، ففي العهد الملكي بدأت مع أرشد العمري وكان رئيس الوزراء حمدي الباجه جي، ثم توفيق السويدي، بعدها فاضل الجمالي، ورئيس الوزراء نوري السعيد، ثم وزير الخارجية عبد الإله حافظ، ثم صار والدي مزاحم الباجه جي وزيرا للخارجية، ومن ثم علي جودت الأيوبي، وكذلك عملت مع وزيري خارجية بالوكالة هما علي ممتاز وشاكر الوادي، وبعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958، في عهد رئاسة عبد الكريم قاسم للوزارة، عملت مع وزراء الخارجية، كل من، عبد الجبار جومرد وهاشم جواد وطالب شبيب وصبحي عبد الحميد وناجي طالب وعبد الرحمن البزاز، ثم صرت أنا وزيرا للخارجية»، منبها إلى أن الحكومة كانت «مهتمة بوجودي كمندوب دائم لدى الأمم المتحدة حتى أنه عندما صار تغيير وزاري، وكنت أنا وزير الخارجية في الحكومة التي صارت سابقة، حيث احتفظ عبد الرحمن عارف بوزارة الخارجية إضافة إلى كونه رئيس وزراء ورئيس الجمهورية، تم تعييني في اليوم ذاته مندوبا دائما لدى الأمم المتحدة، يعني في اليوم ذاته الذي خرجت فيه من الخارجية كوزير تم إبقائي في نيويورك إذ كنت هناك أحضر اجتماعات الجمعية العامة وكنا مشغولين بموضوع حرب الأيام الستة ونعمل من أجل استصدار قرار لصالح فلسطين والعرب، لهذا بقيت في نيويورك».

ومن الغريب أن الباجه جي، وطوال كل مشاوير حياته لم يعمل يوما في المملكة المتحدة، سواء في السلك الدبلوماسي، أو أي عمل آخر، مع أنه يقيم بها حاليا خلال الصيف، يقول: «مع أني درست في ثانوية إنجليزية، ولهجتي الإنجليزية واضحة ومتميزة عن الأميركية، إلا أن عملي صادف في أميركا، فأنا مثلا درست التاريخ الإنجليزي وأستطيع أن أتحدث عن تاريخ إنجلترا بدءا من عهد الملك وليم الأول 1066 وحتى هذا اليوم، وأحفظ أسماء رؤساء وزراء المملكة المتحدة من آخر 200 سنة وحتى اليوم».

المتناقضات التي ساقتها الأقدار إلى تشابكات الحياة العملية للباجه جي كثيرة وغريبة في آن واحد، ومن حسن طالعه أنها جاءت كلها في صالحه. مثلا، عندما عاد مع عائلته من الولايات المتحدة إلى العراق في نهاية 1957، قرر أن يدخل المعترك السياسي بعيدا عن الوظيفة والحكومة وأن يرشح للانتخابات البرلمانية ليكون برلمانيا لا وزيرا في الحكومة، لكن هذا لم يتحقق بتأثير نصائح المقربين بأن يتريث قليلا في هذا الموضوع. وعندما قرر الاستقالة من عمله في وزارة الخارجية لعدم إدراج اسمه ضمن فريق العمل الدبلوماسي لدولة الاتحاد الهاشمي (العراق والأردن)، حدثت في اليوم التالي ثورة 14 يوليو 1958 التي أطاحت بالعهد الملكي واستمر هو بالصعود في سلم الوظيفة حتى بلغ درجة سفير والممثل الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة، وكان ذلك جل طموحه المهني، لكن ما لم يكن في حسبانه وتخطيطه على الإطلاق هو أن يكون وزيرا في العهد العارفي، الجمهوري، بينما كان من المتوقع أن يكون وزيرا في العهد الملكي أسوة بوالده وابن عم والده وعمه.

قصة توزيره شكلت أكثر من سؤال في ذهنه، يقول: «ذات يوم فاجأني عبد الرحمن البزاز، وكان رئيسا للحكومة العراقية، ببرقية يقول فيها (نهنئكم لتعيينكم وزيرا للدولة للشؤون الخارجية)، كان هذا التعيين غير متوقع على الإطلاق ولم أفكر به، لهذا احترت ودخلت في دوامة من الأسئلة، فأنا لم أكن قريبا منه أو من الرئيس عبد السلام عارف أو من الدائرة المحيطة بالمسؤولين، كما أني لم أكن حزبيا، فأنا كنت في نيويورك وكان عالمي لدى الأمم المتحدة». وفي استرجاع للأحداث، يذكر أن «البزاز كان قد حضر إلى نيويورك قبل ذلك في سبتمبر (أيلول) 1965 مترئسا وفد العراق إلى اجتماعات الجمعية العامة، وكان وزيرا للخارجية إضافة إلى كونه رئيسا للوزراء، أي بعيد الانقلاب الأول الذي قام به عارف عبد الرزاق، ولم يبد عليه أنه ينوي تعييني بهذا المنصب أو لم يفاتحني بالموضوع. وهناك نظمت أنا له اجتماعات بمندوبي ورؤساء بعثات المجموعة العربية والأفريقية والأسيوية ودول عدم الانحياز لدى الأمم المتحدة وقد اطلع عن كثب على نشاطي واعتقدت، ربما، هذا ما جعله يعينني بهذا المنصب».

يقول: «أبلغت الأمين العام للأمم المتحدة بقرار تعييني وبأنني سأترك المنظمة الدولية كممثل دائم للعراق، مع إنني لم أكن مرتاحا لترك الأمم المتحدة، وأقيمت كثير من حفلات التوديع كما وجه كثير من المندوبين رسائلهم لي، وتركت نيويورك بعد تعييني كوزير بثلاثة أسابيع». يستطرد قائلا: «عدت إلى بغداد ثم أديت اليمين الدستوري أمام الرئيس عبد السلام عارف، وباشرت عملي كوزير دولة للشؤون الخارجية. أنا من عادتي أن أعرف الأمور على حقيقتها وبعقلانية ومنطقية، وكنت آنذاك أسأل نفسي عن السبب الذي دفع بالبزاز لأن يضعني في حكومته، لهذا رحت أستفسر من بعض الأصدقاء المقربين من رئيس الوزراء، أو رئيس الجمهورية عارف، وقد حصلت على معلومات من عدة مصادر حيث اتضحت الصورة أمامي، وهي أن الرئيس عارف هو الذي رشحني إلى هذا المنصب بتوصية من المصريين الذين كانوا يقدرون عملي لدى الأمم المتحدة، كما نصحوه بتعيين شخص كفء ومعتدل وله خبرة في السياسة الدولية وعلاقاته جيدة مع دول العالم، ورشحوا له اسمي حيث لم يكونوا مرتاحين للبزاز بسبب تقربه من السعودية وتركيا وإيران، وربما إنشاء تكتل إسلامي مع العراق قد يوجه ضد عبد الناصر، يضاف إلى هذا أن البزاز كان قد قرر إعادة إنعاش القطاع الخاص وإلغاء القرارات الاشتراكية وقرارات التأميم التي كانت قد صدرت في يوليو 1964، مما أثار حفيظة الجماعات المؤيدة لمصر»، يضيف «كما أخبرني آمر موقع بغداد سعيد صليبي، وكان من أكثر المقربين للرئيس عبد السلام عارف، وساهم في إيصاله إلى السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1963، وكان له دور فاعل في إحباط المحاولة الانقلابية التي نفذها الضباط المؤيدون لمصر والتي قادها عارف عبد الرزاق في سبتمبر 1965، وقال لي (صليبي) إن الرئيس قرر تعيينك (الباجه جي) وزيرا للخارجية لكن البزاز رفض ذلك فتوصلوا إلى حل وسط بتعييني وزير دولة للشؤون الخارجية، وهذا الضابط الكبير أوصل لي هذه المعلومات نكاية بالبزاز الذي لم يكن إلى جانبه كونه كان يعمل لإبعاد الجيش عن الحكومة ومناصبها، وإعادة الدولة إلى المدنيين، وعارف من طرفه كان يعمل على التقرب من المصريين لهذا سره أن يرشحني للمنصب الوزاري بناء على توصيتهم، يعني المضاربات ما بين عارف والبزاز، وتدخل المصريين هي التي أسهمت في إيصالي إلى الوزارة».

ويؤكد الباجه جي الذي لم يكن يسعى لمنصب مثل هذا، قائلا: «أنا ما كان يهمني هذا المنصب لأنني كنت سعيدا حقا بالعمل لدى المنظمة الدولية في نيويورك. كما أن مهام المنصب لم تكن واضحة، فهناك رئيس الوزراء وهو في الوقت ذاته وزير للخارجية وأنا وزير دولة للشؤون الخارجية، والبزاز لم يكن بحاجة إلى ذلك فهو كرئيس وزراء بإمكانه رسم السياسة الخارجية للبلد والتحكم بها حتى وإن لم يكن وزيرا للخارجية».

وفي عودة لاستكشاف تقاطعات خيوط الأحداث وتشابكاتها، يكشف الباجه جي قائلا: «لقد أشعرتني تصرفات البزاز بأنني كنت مفروضا عليه حيث كان يشجعني على ترك العراق، فبعد ستة أسابيع من قيامي بمهام وزير الدولة عرض علي، رئيس الوزراء، منصب سفير العراق في باريس فرفضت هذا العرض. وخلال ذلك وفي الأسابيع الأولى من وجودي ببغداد زارني السفير التركي لدى العراق ونقل لي شكر وتقدير حكومته لموقفي لدى الأمم المتحدة من قضية قبرص ووجه لي باسم الحكومة التركية دعوة لزيارة تركيا، وقد حثني البزاز لقبول الدعوة ضمن محاولاته بإبعادي عن بغداد، وقد لبيت الدعوة بعد وصولي إلى العراق بشهر، وهناك حظيت باستقبال حافل يليق برئيس دولة مع أني كنت وزيرا للدولة وليس وزيرا للخارجية، وأقاموا لي الاحتفالات والتقيت رئيس الوزراء سليمان دميريل، ووزير الخارجية إحسان صبري. وقد رد وزير خارجية تركيا الزيارة حيث جاء إلى بغداد ودخلنا في مفاوضات حول حصة العراق من مياه نهر الفرات ووقتها جعلته يقبل بالتفاوض وفق مبدأ الحقوق التاريخية المكتسبة». ويشير إلى تعليق السفير البريطاني ببغداد على هذه المباحثات في تقريره المرسل إلى وزارة خارجيته في 31 مايو 1966، والذي جاء فيه «إن موافقة تركيا على الالتزام بنصوص القانون الدولي الخاصة بمياه الأنهار المشتركة قد اعتبرت هنا على أنها نصر للدبلوماسية المثابرة التي ينتهجها الباجه جي».

ويشير إلى أن «الحادثة الثانية التي شجعني أو دفعني خلالها البزاز إلى مغادرة العراق هي طلبه مني أن أمثل العراق في اجتماعات وزراء خارجية الجامعة العربية في القاهرة»، منوها إلى أنه «بعد ذلك بشهر لقي الرئيس عبد السلام عارف حتفه بحادثة سقوط الهليكوبتر التي كان يستقلها في البصرة، وتشكلت وزارة جديدة أيضا برئاسة البزاز لكنني كنت فيها هذه المرة وزيرا أصيلا للخارجية وبترشيح من البزاز ذاته بعدما وثق بكفاءتي».

كان مستقبل العراق سيتغير بعد رحيل عبد السلام عارف، ويمضي باتجاه بناء دولة مدنية ذات مؤسسات رصينة، لو أن عبد الرحمن البزاز تبوأ منصب رئيس الجمهورية، وهذا ما يكشف عنه الباجه جي الذي كان ضمن طاقم الحكومة، يقول: «بعد وفاة الرئيس عارف شغل عبد الرحمن البزاز رمزيا منصب رئيس الجمهورية في العراق لمدة ثلاثة أيام من 13 أبريل (نيسان) لغاية 16 أبريل من عام 1966 وذلك حتى لا يكون هناك فراغ دستوري، وبذلك يكون البزاز من الناحية العملية والقانونية هو أول مدني يكون رئيسا للجمهورية، حتى ولو كان ذلك رمزيا، وأول مدني يترأس الحكومة العراقية».

ويتحدث عن الإشكالات والصراعات والاحتدامات التي جرت من أجل إبعاد البزاز عن الرئاسة لرفض العسكر له، يقول: «اجتمع المجلس الأعلى للدفاع الوطني الذي كان مؤلفا من رئيس أركان الجيش وقادة الفرق العسكرية ومجلس الوزراء لانتخاب رئيس للجمهورية، فرشح كل من عبد الرحمن البزاز وعبد الرحمن عارف (شقيق عبد السلام)، فصوتنا نحن الوزراء للبزاز، بينما صوت الضباط لعارف وجاءت النتيجة متعادلة تماما، حيث حاز كل منهما على عدد الأصوات نفسها، ولكن، سادت أحاديث بأن الضباط أبلغوا البزاز بصورة سرية بعدم رغبتهم في أن يكون شخص مدني رئيسا للجمهورية، ثم مارسوا ضغوطهم على عبد الرحمن عارف وقالوا له: نحن لا نريد مدنيا لرئاسة العراق، فقد كانوا يخشون تأسيس دولة مدنية، وهذا ما كان يهدف إليه البزاز، لهذا انسحب من الترشيح وتركها لعارف الذي كان ضابطا كبيرا في الجيش العراقي. عند ذاك كلف عارف منافسه البزاز بتشكيل الوزارة وأصبحت أنا في هذه الحكومة وزيرا أصيلا للخارجية وليس وزير دولة».

ويشير إلى أن «البزاز (ولد في بغداد عام 1913، توفي فيها في 28/6/1973)، كان يهدف إلى تحقيق ثلاثة أمور مهمة لو صار رئيسا للجمهورية، الأول إجراء انتخابات حقيقية وديمقراطية، والثاني هو أن يكون حكم الدولة للمدنيين وأن يتفرغ الضباط لشؤون القوات المسلحة وليس للشؤون السياسية، والثالث المضي لحل المشكلات العالقة بين الحكومة والأكراد، فهو مهندس الاتفاق مع الأكراد، بيان 29 يونيو (حزيران) 1966، وأراد المضي فيه».

يستطرد قائلا: «لقد انشغل البزاز بالعمل على حل المشكلات مع دول الجوار، خاصة المملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، وأراد توطيد العلاقات معهم، خاصة السعودية باعتبار أنها بلد عربي وإسلامي، وهذا لم يعجب جمال عبد الناصر. فعندما ذهبت إلى مصر في زيارة رسمية كوزير للخارجية، رحبوا بي كثيرا والتقيت الرئيس عبد الناصر، وزارني رئيس الوزراء زكريا محيي الدين ورئيس أركان الجيش وصديقي وزير الخارجية محمود رياض، فلمست أن هناك برودا نحو البزاز، وأعتقد أنهم كانوا يحيكون مؤامرة ضده آنذاك، وبالفعل حدثت محاولة انقلابية قادها عارف عبد الرزاق، كان صديقي، إذ كان رئيسا للجمهورية بالوكالة ونفذ الانقلاب الذي فشل، وكان هذا انقلابه الثاني، يعني هو نفذ انقلابا على نفسه ولم ينجح.

كانت المسافة واسعة بين التفكير والتصرف العسكري لعبد الرحمن عارف ومن يحيط به من الضباط، وعبد الرحمن البزاز الذي كان أستاذا في القانون (عمل عميدا لكلية الحقوق، وعميدا لكلية التجارة والاقتصاد في جامعة بغداد وكان يلقب بذي العمادتين، وله أكثر من 14 مؤلفا في القانون والقانون الدولي والسياسة) ولهذا «فهو رجل قانون وأراد تأسيس دولة المؤسسات المدنية، وهذا لم يعجب الضباط فضغطوا ثانية على عارف لإقالته وجاءوا بناجي طالب رئيسا للحكومة وكان ضابطا في الجيش العراقي، وهو رجل وطني وطيب ومؤدب». على حد وصف الباجه جي.

يتحدث الباجه جي بحزن عن البزاز، قائلا: «كان البزاز متدينا ونزيها جدا ومعتدا بنفسه وهذه الصفات هي التي أودت بحياته، فعندما حدث انقلاب 17 يوليو 1968 وسيطر البعثيون على الحكم، كان البزاز خارج العراق، وقد نصحه كثير من المقربين والأصدقاء بعدم العودة لأن الجميع كان يعرف بأنه سيواجه مصيرا غير محمود على أيدي البعثيين، ولكن اعتداده بنفسه، ولأنه رجل قانون ويعرف نفسه بأنه لم يقترف أي أخطاء في الحكومة، قرر العودة فتم إلقاء القبض عليه وقد بالغوا في أذيته للأسف واتهموه بأنه كان جاسوسا للمخابرات الأميركية».

بينما يصف الرئيس عبد الرحمن بقوله: «كنت أقابل الرئيس عبد الرحمن عارف دائما، ورافقته في كثير من الزيارات الرسمية، ومنها إلى مصر وتركيا وإيران. كان بسيطا ومتواضعا، كل الرؤساء الذين عملت معهم، سواء كان قاسم أو عبد السلام ومن ثم عبد الرحمن، كانوا متواضعين ونزيهين ووطنيين، أنا صحيح كنت مؤمنا بالقومية العربية لكنني لم أعمل طوال حياتي مع أي حزب ولم أنضم إلى أي تيار سياسي، فأنا عندي تفكيري وفلسفتي وآرائي لا أستطيع وضعها في قالب واحد».