ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 12) : الباجه جي: صدام كان يعرف أن الخميني يكرهه فبادر بالهجوم قبل أن يهاجمه الإيرانيون

التقيت جونسون قبل حرب يونيو 1967.. والسفير الأميركي بالأمم المتحدة حذرني: إسرائيل أقوى مما تعتقدون

الباجه جي في منزله في لندن (تصوير: حاتم عويضة)
TT

بين الأحداث التاريخية التي مرت على عدنان الباجه جي محطتان تاريخيتان عايشهما وشارك في أحداثهما، الأولى كانت وهو وزير خارجية للعراق وقت وقوع حرب يونيو (حزيران) 1967، والثانية الحرب العراقية - الإيرانية وكان وقتها في أبوظبي.

يقول: «في عام 1967 وردتنا معلومات من الاتحاد السوفياتي بوجود تحشدات إسرائيلية على الحدود السورية. فاستنجد السوريون بعبد الناصر، كون إسرائيل ستهاجمهم فاستُدرج الرئيس المصري لسحب القوات الدولية التي كانت موجودة بين الحدود المصرية والإسرائيلية منذ عام 1957 فوق الأراضي المصرية من غير أن تؤثر على سيادة مصر، ذلك لأن إسرائيل، التي لم توافق على وجود هذه القوات فوق أراضيها، وجدت انسحاب هذه القوات فرصة مناسبة لشن هجومها في 5 يونيو 1967، وهذه الحرب كانت بالدرجة الأولى نتيجة تدهور العلاقات الأميركية المصرية».

الباجه جي هنا يتحدث عن حقائق وأحداث عاشها وكان جزءا منها، وليس عن معلومات إعلامية، يقول: «نحن ذهبنا إلى مصر قبيل الحرب في مايو (أيار) 1967 وكان معنا ضمن الوفد وزير الدفاع شاكر محمود شكري، وسألت وزير الدفاع عن الأوضاع والاستعدادات العسكرية المصرية، فقال «أنا أرى الدفاعات المصرية قوية ومن الصعب على إسرائيل اختراقها» وهذا ما جعلنا نطمئن، ثم قابلنا الرئيس عبد الناصر وسألته بنفسي، وقلت: «سيادة الرئيس هل تتوقعون حدوث الحرب؟». فأجاب: «أنا أعتقد أن نسبة حدوث الحرب هي 80%»، ثم سألته عن استعدادات مصر لهذه الحرب، فأجاب «نحن مستعدون لهذه الحرب، ولكن إذا تدخل الأميركيون فإن السوفيات وعدونا بالتدخل لصالحنا، وإذا لم يتدخل الأميركيون فنحن نستطيع محاربة إسرائيل»، كانت إسرائيل وقتذاك تهدد وتتوعد، إذ اعتبرت غلق الملاحة في قناة السويس يشكل عاملا لنشوء حرب.

ويستطرد قائلا: «ثم التقيت وزير الخارجية المصري محمود رياض، وهو صديق لي، فقال إن (مجلس الأمن سيبحث موضوع الحرب وأرجو أن تذهب إلى هناك لدعم القضية) إذ لم يتمكن هو من ترك مصر وقتذاك، فذهبت إلى نيويورك وألقيت كلمة في مجلس الأمن، وكذلك تحدث وزير خارجية لبنان جورج حكيم، وقلت في كلمتي، وبناء على التطمينات التي تلقيتها في مصر، (إننا مستعدون لخوض الحرب ومع ذلك نتمنى تسوية الأمور سلميا)، وفي نفس اليوم دعاني الممثل الدائم للولايات المتحدة في مجلس الأمن، السفير آرثر غولدمان، وهو يهودي أميركي، إلى إفطار صباحي في بيته بنيويورك ووافقت، فذهبت صباح اليوم التالي وصادف الأول من يونيو 1967 وتناولنا طعام الإفطار، وقال لي (عليكم أن تعملوا بشتى الطرق لمنع نشوب الحرب لأن إسرائيل أقوى بكثير مما تتصورون) وكان هذا نص كلامه، وأكمل قائلا: (لهذا إذا دخلتم الحرب ضد إسرائيل الآن فالنتائج ستكون غير مضمونة بالنسبة لكم، وأنا أردت أن أحذركم فقط)، فقلت له إن (كل جهودنا باتجاه إيجاد حل سلمي للأزمة ولهذا نحن أيدنا مقترح الأمين العام بأن تكون هناك فترة هدنة حتى تهدأ الأمور وتتم مناقشتها)، فاستطرد ممثل الولايات المتحدة قائلا (أرجو أن تستمر في جهودك الطيبة هذه وأنا اتفقت مع وزير الخارجية «الأميركي» لتلتقيه في واشنطن وكذلك لتلتقي مع الرئيس جونسون اليوم)، خرجت من بيت غولدمان وتوجهت مباشرة إلى واشنطن وكان معي السفير العراقي في الأمم المتحدة، ناصر الحاني». (الدكتور ناصر الحاني.. أول وزير خارجية بعد تولي البعث السلطة في 17 يوليو «تموز» عام 1968. والمخطط الرئيس لتولي البعث السلطة. تم عزله من منصبه بعد عام ونصف ووضع تحت الإقامة الجبرية قبل أن يتم قتله من قبل المخابرات العراقية «جهاز حنين» الذي كان يترأسه صدام حسين).

يقول: «في واشنطن سمعنا من وزير الخارجية الأميركي ذات الكلام الذي كان قد أبلغني إياه غولدمان. ثم التقيت الرئيس جونسون الذي قال «أؤكد لك أننا حذرنا إسرائيل بأنها إذا قامت بأي عمل عسكري استفزازي فسوف نقف ضدها، وفي نفس الوقت إذا أنتم (العرب) بدأتم بالحرب أو قمتم بأي عمل عسكري فسوف يكون موقفنا معاديا ضدكم».

قبل أيام من لقاء الباجه جي الرئيس الأميركي كان جونسون قد التقى وزير خارجية إسرائيل «عرفنا بعد ذلك أن وزير خارجية إسرائيل ابا ايبان كان قد التقى الرئيس جونسون قبلنا بأيام، وأن الرئيس الأميركي أبلغه (بوجوب البحث عن حل سلمي للأزمة)، فقال له وزير خارجية إسرائيل (رغم كل شيء إذا حدثت الحرب واستولينا على أراض عربية هل ستجبروننا على الانسحاب منها مثلما فعل الرئيس أيزنهاور عام 1957 «الانسحاب من غزة وسيناء»؟)، فأجابه الرئيس جونسون قائلا (كلا لن نجبركم إذا بدأ العرب الحرب)، فأجابه ابا ايبان(هذا ما نريد أن نعرفه)».

عاد الباجه جي إلى نيويورك، وفي صباح اليوم التالي، وقبل أن يشرب قهوته، «رن جرس الهاتف في تمام الساعة الثامنة من صباح يوم 5 يونيو، وكان المتصل السفير الإيراني في الأمم المتحدة، وكان صديقي، وقال لي إن (الحرب بينكم وبين إسرائيل قد بدأت)، ارتديت ملابسي على الفور واتجهت إلى مبنى الأمم المتحدة الذي كنت أسكن قريبا منه. من هناك حاولت الاتصال بمحمود رياض في القاهرة، وبعد عدة محاولات تمكنت من الحديث معه وسألته عن الأوضاع، فقال (هناك بعض الخسائر البسيطة في القوة الجوية لكن موقفنا العسكري جيد)، ثم توالت الأخبار عن حجم الكارثة التي لحقت بالجيش المصري والجيوش العربية، حيث أبيدت القوة الجوية المصرية تماما، والقوات الإسرائيلية تزحف من غير أن يوقفها أحد، والجيوش العربية صارت بلا غطاء جوي يحميها».

يغلف الحزن صوت الباجه جي وهو يكمل حديثه: «عقد اجتماع لمجلس الأمن، ولم نكن نعرف القرار الذي سيتم اتخاذه، حيث دعت أميركا إلى وقف إطلاق النار فقط، بينما طالبت الكتلة المؤيدة للعرب بوقف إطلاق النار وانسحاب الجيوش المتحاربة إلى قواعدها الأصلية، لكن أميركا عارضت ذلك بقوة، بل عرفنا فيما بعد أن الاستخبارات الأميركية جهزت إسرائيل بمعلومات لوجستية ومخابراتية مهمة. وبينما كان النقاش يدور في أروقة مجلس الأمن من غير انعقاد أي اجتماع، وافقت مصر على وقف إطلاق النار، واجتمع المجلس وأصدر قراره بوقف إطلاق النار من غير ذكر أي شيء عن الانسحاب. ولم يبذل الاتحاد السوفياتي أي جهود باتجاه إجبار إسرائيل على الانسحاب، فالسوفيات لم يريدوا الدخول في مواجهة مع أميركا، وأدركوا أن العرب قد خسروا الحرب، لهذا فضلوا أن تبقى الأمور هكذا ويتم بذل جهود دبلوماسية وإجراء مفاوضات لاحقا».

اعتبر قرار وقف إطلاق النار فقط من غير إجبار إسرائيل على الانسحاب كارثيا، ووقع كصدمة قوية على عموم الجماهير العربية، وعلى الباجه جي خاصة، يقول: «في اجتماع مجلس الأمن جاءني ممثل مصر في الأمم المتحدة وقال لي إن محمود رياض يطلب منك عدم الوقوف بوجه قرار وقف إطلاق النار، فقلت له هذا (لا يجوز، بعد أن تمت طمأنتنا بالقاهرة بأنكم مستعدون للحرب يحدث كل الذي حدث، هذا ما يصير)، وطلبت الكلمة وقلت إن (هذا القرار مجحف بحق العرب واعتراف بالعدوان الإسرائيلي)، وعلى الرغم من أن خطابي كان مختصرا، ثلاث دقائق، فإن ردود فعل أميركية شعبية واسعة جاءت إثر هذه الكلمة، إذ وصلتني مئات البرقيات التي تؤيدني، ناهيك عن ردود الفعل الشعبية العربية. وكان موقفي هذا بناء على آرائي من غير أن أستشير الحكومة العراقية ببغداد، أو أي جهة عربية أخرى، وعندما عدت في اليوم التالي إلى العراق قلت للمسؤولين هناك (إذا انتم ضد هذا الموقف أرجو إعلامي لأترك منصبي كوزير للخارجية، فالاعتراف بالأمر الواقع يعني الاعتراف بضياع فلسطين لأن الإسرائيليين احتلوا كل فلسطين بدءا بالقدس ومن ثم غزة والضفة الغربية وسيناء)».

بعد ذلك جرى اجتماع لوزراء الخارجية العرب في الكويت استعدادا لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة للنظر في الموضوع. وفي اجتماع الجمعية العامة ألقيت خطابا، باعتقادي كان من أفضل الخطابات التي كتبتها وألقيتها في الأمم المتحدة، كان خطابا جامعا وشاملا ودقيقا عن تاريخ القضية الفلسطينية ووضعها الراهن. ( يتأمل، يسترجع مع ذاته أحداثا مضت، ثم يقول)، والله كنا نشتغل بجد وإخلاص».

ولأول مرة يشعر الباجه جي أن اليأس من تحقيق أي نجاح في قضية فلسطين بدأ يتسلل إلى داخله لهذا فكر في الاستقالة من عمله، وحسبما يروي: «عندما خرجت من الوزارة فكرت في الاستقالة، لكنني كنت منشغلا بموضوع الاجتماعات لاستصدار قرار من الأمم المتحدة لإجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها، وكان السويدي يارنغ قد تعين في منصب الأمين العام للأمم المتحدة حيث كان يتصل بي باستمرار. وكانت القضية الفلسطينية وإيماني بها هو ما أبقاني في الأمم المتحدة، لكنني بعد مرور عام على حرب حزيران توصلت إلى أن المنظمة الدولية لن تفعل شيئا لفلسطين ويئست من جهودها، والعرب فشلوا في الخيار العسكري واعتمدوا على الخيار الدبلوماسي، بينما من البديهي أنه إذا لم نستطع تحقيق أي شيء عسكريا فمن الصعب تحقيقه دبلوماسيا، وهذا ما وصلنا إليه بعد نكسة حزيران 1967».

الحرب العراقية الإيرانية

* يتحدث الباجه جي عن الحرب العراقية الإيرانية من منطلقين أساسيين، الأول وطني بحت، والثاني قانوني، يقول: «في عام 1980 اشتعلت نيران الحرب العراقية الإيرانية، وعم الحماس جميع العرب، كنت وقتذاك في أبوظبي وكان الناس هناك يقولون لي (والله العراق رفع راسنا)، وكانت انتصارات القوات العراقية تلقى وقعا حسنا في نفوس غالبية العرب مواطنين وقادة، وكان الخليجيون من أكثر الناس دعما للعراق ماديا ومعنويا حيث قدمت دول الخليج الكثير من الأموال من أجل أن يصمد العراق في هذه الحرب. كانت حسابات صدام حسين في هذه الحرب هي أن يبادر إلى الهجوم قبل أن يبادر الإيرانيون، حسب المثل الذي يقول (نتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا)، فهو كان يعرف أن الخميني يكرهه وأنه سيعمل كل جهده لخلق الفوضى في العراق أو الهجوم عليه، وكان الوقت مناسبا بالنسبة لصدام لشن الحرب، حيث كانت الفوضى سائدة في إيران، والثورة الإسلامية في بدايتها، وغاب كبار الضباط الإيرانيين من عهد الشاه، إما تم إعدامهم أو هربوا من البلد، وحسابات صدام كانت صحيحة في هذا الجانب، لكنه أخطأ في جانب مهم وهو أن الإيرانيين، سواء كنا نكرههم أو نحبهم، يتمتعون بشعور قومي قوي جدا، حتى لو كان بعضهم لا يحب أو لا يؤمن بالخميني فإنهم قاتلوا انطلاقا من مشاعرهم القومية، ولن يسمحوا للعراق، الذي هو في نظرهم بلد عربي صغير، أن ينتصر عليهم.. وعلينا أن نقول الحق، ذلك أن صدام حسين عندما أدرك أن نهاية هذه الحرب ستكون بعيدة وسوف تطول سنواتها، أعلن منذ عام 1982، أي بعد عامين من اشتعالها، إيقافها وطالب العراق في الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار والتفاوض وكانت إيران ترفض».

ويحمل الباجه جي إيران مسؤولية استمرار هذه الحرب، يقول: «أنا أعتبر استمرار الحرب لثماني سنوات مسؤولية الخميني الذي كان يضع شروطا تعجيزية لإيقافها مثل أن يعترف العراق بأنه هو البادئ بالحرب قبل القيام بأي مفاوضات، وإحالة صدام حسين إلى المحكمة، وكان يعرف أن هذه شروط تعجيزية لن تنفذ، لهذا فالمسؤولية القانونية وحسب القوانين الدولية لاستمرار الحرب هي مسؤولية إيرانية تماما، وإذا صار في المستقبل الحديث عن تعويضات أو أن تدعي إيران بمسؤولية العراق عن الحرب فيجب مواجهتهم بالحقائق الرسمية، وهي أن العراق أراد إيقاف القتال وإنهاء الحرب منذ عام 1982، وهذا موثق في الأمم المتحدة، وإيران هي التي رفضت، إذن هي من تتحمل هذه المسؤولية ومسؤولية الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها العراق وإيران، ويجب الوقوف بوجه إيران والقول لها إن (استمرار الحرب أنتم المسؤولون عنه)».

ويعرب الباجه جي عن أسفه حول بعض السياسيين العراقيين الذين يقفون ضد بلدهم: «للأسف هناك في العراق اليوم بعض السياسيين أو الأحزاب التي كانت في إيران تطالب العراق بدفع التعويضات لطهران باعتبار أن بغداد كانت مسؤولة عن الحرب، وهؤلاء ولائهم أولا للمذهب، ثم يأتي الولاء للوطن، يعني هم يفكرون في طائفتهم أكثر مما يفكرون في أنهم عراقيون، ويكون بالتالي ولاؤهم لإيران، سواء عن إيمان بالعقيدة أو بولاية الفقيه، أو أن إيران هي مرجعيتهم كشيعة. وبين السنة أيضا هناك من يسمونهم بالسلفيين الذين يعتقدون بأن الولاء يجب أن يكون للمذهب أولا لهذا يقومون بعمليات هم يسمونها جهادية، وأنا هنا أتحدث عن قسم منهم وليس جميعهم إذ لا يجوز التعميم في هذه الأمور».

يقول: «أنا كنت أتابع بدقة مجريات الأمور في داخل العراق وما حوله، فعندما انتهت الحرب العراقية الإيرانية (في 8/8/1988) بدأت حملة إعلامية وسياسية منظمة من قبل الغرب ضد العراق. بدأت اشعر بالقلق على العراق، لهذا استدعيت السفير العراقي في أبوظبي طه العريم، وقلت له (أرجو أن تبلغ الجماعة في بغداد أن الحملة ضد العراق جادة وأن الغربيين يتهيأون لعمل ما، لهذا أتمنى أن لا يقدموا «القيادة العراقية»، على عمل أو تصرف يعطي الآخرين المبرر للنيل من البلد)، وأضفت قائلا (بعد ثماني سنوات من الحرب والقتال الشرس راح ضحيته مئات الآلاف من أبناء العراق، وهذا يعني أن العراقيين متماسكون وأن الجبهة الداخلية قوية، لهذا أتمنى أن تخففوا عن الشعب العراقي وتزيحوا القيود وترفهوا عنه)».

بعد عام من نهاية الحرب تشاء المصادفة أن يلتقي الباجه جي طارق عزيز الذي كان قياديا بارزا في حزب البعث والدولة العراقية «في صيف 1989 كنت في جنيف والتقيت صديقي الدبلوماسي العراقي عصمت كتاني، وكنا نعمل سوية في الخارجية، واستمر بالعمل مع البعثيين لهذا لم يحبه الأكراد كونه كرديا، فقال لي إن طارق عزيز هنا في جنيف ووجه لك دعوة لمقابلته في مقر البعثة العراقية في المقر الأوروبي للأمم المتحدة، فقبلت الدعوة، وذهبت للقاء عزيز الذي رحب بي بود بالغ، فقلت له (لقد قابلت السفير العراقي في أبوظبي وأبلغته رسالة لا أدري إن كانت قد وصلتكم أم لا، ومع هذا سأكرر ما قلته للسفير، أنتم مستهدفون وعليكم أن لا تتصرفوا بعاطفية أو تبدوا ردود أفعال مبالغ بها، فالدول العربية معكم وتؤيدكم، وعلاقاتكم جيدة مع غالبية الدول الغربية، فلا تجعلوهم يستفزوكم ومن ثم تقدمون على عمل غير مدروس)، فأجاب بثقة وبصوت متعال، قائلا (لا، نحن نعرف جيدا كل شيء وكل ما يدور حولنا وهذه الأمور غير خافية عنا)، فقلت: (الحمد لله)، ثم استطردت قائلا (أنتم علاقاتكم جيدة مع كل الدول العربية باستثناء سورية فهل تعتقد أن هناك أي مجال لتحسين العلاقات بين بغداد ودمشق)، فأجاب (لا، هؤلاء «القيادة السورية» لا فائدة منهم، وسورية الآن مثل التفاحة «المريضة» وستقع في أحضاننا متى أردنا ذلك)، كان من الممكن أن تكون علاقات العراق وسورية من أحسن العلاقات لولا العداوة الشخصية بين حافظ الأسد وصدام حسين، وهذه العلاقة السلبية تم سحبها على واقع البلدين وتضرر الشعبان السوري والعراقي اللذان لا توجد أي مشكلات بينهما».

التفكير في الاستقالة

* يبدو أن هناك علاقة خفية بين تفكير الباجه جي بالاستقالة من الحكومة والأحداث العاصفة، ففي المرة الأولى التي أراد فيها الاستقالة من الحكومة في العهد الملكي حدثت ثورة 14 تموز 1958، التي غيرت نظام الحكم الملكي إلى الجمهوري، وفي المرة الثانية عندما أراد بالفعل أن يستقيل من عمله حدث انقلاب 17 تموز 1968 وسيطر خلاله البعثيون على السلطة، يقول: «بعد انقلاب 17 تموز 1968 ومجيء البعثيين مرة ثانية بقيت في الوظيفة ستة أشهر ثم قدمت استقالتي وطلبت إحالتي إلى التقاعد وأنا في نيويورك، وقد حاولوا إقناعي وبقوة للبقاء في العمل لكنني قررت عدم البقاء، وموقفي هذا إثر المعاملة المهينة لعبد الرحمن البزاز الذي كنت وزيرا للخارجية في حكومته، كما بدأت الإعدامات والاغتيالات، فقلت لا يمكنني أن اعمل مع هكذا حكومة أو نظام، لهذا أرسلت إليهم استقالتي من أميركا».

وبتوضيح أكثر تفصيلا، يقول: «كان لاستقالتي أسباب كثيرة، أولا عرفت أن قضية فلسطين لن تحل في الأمم المتحدة، وأنا عملت ما يقرب من عشر سنوات في أروقة المنظمة الدولية ما بين مندوب دائم ووزير خارجية من أجل هذه القضية، ثانيا الأسلوب القمعي للبعثيين في تعاملهم مع الآخرين، وطريقة تعاملهم مع البزاز وطاهر يحيى مما أدى إلى إنهاء حياتهم، ثم قتلهم لناصر الحاني وغيره، والمشانق التي نصبوها في ساحة التحرير لمن سموهم جواسيس إسرائيل، ثالثا أني أردت الابتعاد عن الوظيفة وأن أجرب حظي في الأعمال الخاصة حيث فكرت في الإقامة في سويسرا».

لقد أكد الباجه جي وفي أكثر من محطة من محطات حياته أنه لم يسيس ولم ينتم إلى أي حزب من الأحزاب السياسية العراقية، بما فيها حزب البعث وتخلصا من أي لبس، يقول: «أنا لم يفاتحني أي شخص لدخول حزب البعث، لكنهم كانوا دائما يشيدون بي وبعملي وبتوجهاتي القومية وبأنهم يرحبون بي لأكون معهم، وهذه لم تكن دعوات مباشرة، ثم إنهم حتى لو فاتحوني بالانضمام لحزب البعث لما كنت سأوافق لأنني ضد التحزب فإنا لم أكن يوما في أي حزب مع أني تعاطفت مع الأحزاب القومية».

ويشير الباجه جي إلى أن «البعثيين كانوا يحترمونني لكفاءتي ولمواقفي القومية، فعندما كنت في أبوظبي وتم تحقيق الاتحاد الإماراتي تحت اسم دولة الإمارات العربية المتحدة كان العراق من أوائل من اعترفوا بهذا الاتحاد وهذه الدولة باعتبارها مشروعا وحدويا، وأرسلوا سفيرا اسمه توفيق المؤمن، وهو أول سفير عراقي في دولة الإمارات وكان باستمرار يزورني ويتودد إلي ويقول (الإخوة ببغداد يرسلون إليك تحياتهم واحتراماتهم البالغة ونحن نستنير بآرائك) ومثل هذا الكلام. وأنا بدوري لم أنس العراق للحظة واحدة، فأنا تابعت قيام الحرب العراقية الإيرانية بقلق بالغ وأيدت العراق فيما قام به».