ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 13) : الباجه جي: وافقت على أن أكون عضوا في مجلس الحكم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

الأميركيون كانوا ضائعين.. وممثل بريطانيا كان أكثرهم فهما ويعرف ماذا يفعل

عدنان الباجه جي رئيس مجلس الحكم الى جانب كوفي أنان واعضاء في مجلس الحكم العراقي في الامم المتحدة، نيويورك 2004 (رويترز)
TT

بغداد القريبة.. البعيدة، الحاضرة في خريطة روحه منذ أن كان فيها وتركها، التي طالما تمنى أن يزورها ويتنفس نسيم دجلتها، ويضيع في أزقتها وأسواقها، مستمعا إلى موسيقى الأصوات واللهجات التي تتداخل من مدن العراق كلها، وتصوغ لحن اللهجة البغدادية ومفرداتها.

يشير الباجه جي إلى أنه «في أواخر أبريل (نيسان) 2003، اتصل بي خليل زاد، ودعاني إلى اجتماع عقد في مطار بغداد، ودعا هذا الاجتماع إلى مؤتمر يعقد في أواخر مايو (أيار) من أجل اختيار هيئة قيادية تهيئ للانتخابات، وتسير أمور الدولة، أنا لم أحضر هذا الاجتماع».

«بعد غياب أكثر من 35 سنة دخلت إلى بغداد في 6 مايو 2003.. بواسطة طائرة عسكرية مخصصة للنقل (دي سي 130) تابعة للقوة الجوية لدولة الإمارات، وكان معي ميسون الدملوجي، وفيصل الاستربادي، ومهدي الحافظ. كنا أكثر من 20 شخصا هبطنا في مطار بغداد، واستقبلنا القائم بأعمال الإمارات، من هناك اتصلت بخليل زاد، وقلت له إنني في بغداد، فأخبرني بأنه قادم في غضون 20 يوما».

كان من الصعوبة عليه أن لا يتعرف على وجه المدينة التي عشقها باستمرار، بغداد، حسبما يوضح انطباعه الأول عنها «لم تكن هذه هي بغداد التي تركتها، لم أتعرف عليها، وصدقا بغداد صايرة غير شكل. هي ليست بغداد سنوات شبابي، فقد ازدهر فيها العمران، وشقت الشوارع والطرق السريعة والجسور. شعرت بخليط مزدوج من المشاعر، فرحت جدا أني عدت أخيرا إلى بغداد، وحزنت جدا، بل آلمني جدا مشاهدتي للدبابات ونقاط التفتيش الأميركية. كانت هذه مشاهد محزنة، أن ترى بغداد هكذا. فأنا طوال عمري مرتبط روحيا ببغداد وبالعراق والعراقيين، وأشعر بأن العراقيين والعراق قريبون مني، حتى وأنا في الخارج»، مردفا: «أنا في الحقيقة لم أكن أفكر في أنني سأعود ثانية إلى العراق، فقد كنت قد بلغت وقتذاك الثمانين من عمري، لكن الظروف تسارعت، والتغييرات التي حصلت هي التي دعتني إلى العودة للوطن».

ويعترف الباجه جي بأن «الوضع كان آمنا جدا عندما وصلت بغداد، حيث عقدت مؤتمرا صحافيا، وكنت أمشي في الشوارع، وأدخل المقاهي والمحلات التجارية، وأتحدث إلى الناس، وهناك من تعرف علي وسمع عني، وصارت لي شعبية كبيرة، لأنني لم أغتصب أموال الآخرين ولا بيوتهم، فنحن صرفنا من أموالنا الخاصة، على عكس الكثيرين الذين استخدموا المال العام للإثراء، ومع ذلك نقول الحمد لله والشكر».

السعادة، والحزن.. هذا بالضبط ما شعر به، ومثلما يؤكد الباجه جي في كل مرة يتحدث فيها عن عودته إلى بغداد، سعادة العودة إلى أحضان الأم، أو الحبيبة، والحزن لما أصاب هذه الحبيبة من جروح وآلام، يقول: «عندما ذهبت إلى شارع الرشيد، هذا الشارع الذي كان واحدا من أجمل شوارع بغداد، حيث كنا نقضي أيامنا نتمشى فيه ونتبضع من محلاته الفخمة والراقية، وجدته للأسف قد تحول إلى خراب حقيقي، بل إن المدينة كلها تحولت إلى خراب على الرغم من الإعمار الذي فيها، وهو إعمار لا يقارن بالوضع الاقتصادي للعراق، ولا بعدد السنوات التي استغرقها هذا البناء، وبالنسبة إليّ فقد شاهدت وعشت في الخليج ورصدت كيف بنيت المدن وازدهرت، وبخاصة أبوظبي ودبي، ثم أعود إلى بغداد لأجدها خرابا في خراب، ووجوه الناس تعبانة. القمامة في كل مكان، والحياة نكد في نكد، والمؤلم أن الأوضاع زادت سوءا إلى يومنا هذا. ذهبت أيضا إلى المنطقة التي كانت تضم بيت جدي، حيث كانت القصور التي تقع بالقرب من جسر الأحرار، وقد وجدتها قد تهدمت، ثم زرت الإمام الأعظم، وصليت هناك، كما صليت في الكاظم، وفي مسجد الشيخ عبد القادر الكيلاني، وعندما شاهدني الناس هناك عملوا مظاهرة لتحيتي، كما زرت مرقدي الإمامين الحسين والعباس في كربلاء، وصليت في مرقد الإمام علي في النجف».

من أوائل العراقيين الذين التقاهم الباجه جي في بغداد الزعيمان الكرديان جلال طالباني ومسعود بارزاني. يقول: «وعندما ذهبت إلى بغداد، تشرفت بزيارة من قبل طالباني وبارزاني إلى بيتي». ويستطرد قائلا: «كنت قد التقيت مسعود بارزاني، قبل الغزو الأميركي، في لندن، حيث جاء في زيارة، وأقام له الأكراد العراقيون حفلة استقبال في أحد الفنادق الراقية في العاصمة البريطانية، ودعيت إليها. وذات يوم اتصل بي من العراق وكنت في لندن، وبأدبه وتهذيبه العاليين دعاني إلى التعاون والعمل معا من أجل العراق. أنا كنت أستقي معلوماتي عن بارزاني من صديقي الدبلوماسي العراقي، عصمت كتاني، فهو يرتبط بهم بعلاقة مصاهرة عائلية، وعم عصمت أعدمته الحكومة العراقية مع 3 ضباط أكراد آخرين، تم الحكم عليهم بالإعدام، بينهم مصطفى خوشناو، عام 1947، حيث كانوا مقاتلين في صفوف الثورة الكردية، وتم أسرهم من قبل القوات الحكومية، وأعدموا بتهمة حمل السلاح ومقاتلة الجيش العراقي».

هنا، واستهلالا بعودته إلى الوطن، سوف تتوالى المفاجآت والأحداث على الباجه جي، وكانت أولى المفاجآت سياسية «بدلا من أن يأتي خليل زاد كما وعدني، جاء بول بريمر، وبدأت مرحلة جديدة أو فصل جديد مع وصوله إلى بغداد، وانتهاء فصل غاردنرز، الذي التقيته مرة واحدة، والواضح أن السياسة الأميركية قد غيرت خططها. الأميركيون كانوا ضائعين، ولا يعرفون ماذا يفعلون. أنا كنت التقي ممثل بريطانيا في العراق، ساورس، الذي أصبح فيما بعد رئيسا لجهاز المخابرات البريطاني، فهو كان أكثرهم فهما وإلماما بمواضيع العراق، ويعرف ماذا يفعل».

يقول: «أميركا عملت على إعطاء وجود القوات المتحالفة، وبخاصة الأميركية والبريطانية، في العراق الشرعية الدولية، معتمدين على القرار 678، وهو قرار سبق حرب تحرير الكويت لتبرير الحرب، وهذا لم يكن ممكنا، لأنهم حاولوا استصدار قرار من مجلس الأمن يسمح لهم باستخدام القوة ضد العراق، لكنهم أخفقوا في ذلك، بل إن مجلس الأمن اعتبر هذه القوات هي قوات احتلال، والعراق منطقة مُحتلة بموجب اتفاقيات جنيف، التي تفرض بعض المسؤوليات على القوات المحتلة، وتمنحها بعض الحقوق، ومنها مسؤولية إدارة البلد والتصرف في أمواله وحفظ الأمن، وغيرها. لهذا تتحمل الولايات المتحدة قانونيا وأخلاقيا مسؤولية القتل والخراب والدمار كله الذي لحق بالعراقيين والعراق، فقواتهم كانت القوة الوحيدة التي تقتل الناس».

ويرى أن هذه الحرب كانت سهلة على أميركا.. «لقد كانت أوضاع العراق سيئة، فهو بلد منهك وضعيف ومغضوب عليه دوليا، وتحت طائلة العقوبات، وأميركا صورت للعالم حقائق مزيفة ومبالغا فيها، مثل أن العراق يمتلك خامس جيش في العالم كله، وأسلحة دمار شامل في إمكانها أن تقضي على العالم خلال 45 دقيقة، وأن احتلاله سيستغرق فترة طويلة، ودخول بغداد يتطلب القتال لستة أشهر، وهذا عكس الواقع تماما. فقد كانت أميركا تعرف الحقيقة، وهي أن احتلال العراق سهل جدا، فليس هناك أي جيش سيقاتلهم، ولا أسلحة تتفوق على تسليحهم، ولا مقاومة حقيقية من العراقيين الذين أنهكهم صدام حسين بإجراءاته الاستبدادية، وهذا ما يؤكده كثير من أفراد القوات التي أرسلتها واشنطن لاحتلال العراق في 2003، والذي بلغت ما يقرب من 150 ألف، بينما كان هناك نصف مليون مقاتل في حرب تحرير الكويت عام 1991».

ويعتبر الباجه جي أن «من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها الإدارة الأميركية بعد غزو قواتها للعراق، إعطاء مسؤولية حكم العراق لوزارة الدفاع الأميركية، التي كان وزيرها دونالد رامسفيلد، بينما قبل الحرب كانت الخارجية الأميركية، وبجهود كولن باول، قد دعت عراقيين اختصاصين وأكاديميين في مجالات مهنية مختلفة، من حقوقيين وأطباء وصيادلة ومهندسين وإعلاميين وأساتذة جامعات وضباط سابقين في الجيش العراقي وإداريين، إلى واشنطن، وقامت بتدريبهم وتأهيلهم لكي يسهموا في إدارة الدوائر الحكومية في بغداد لفترة معينة بعد سقوط النظام، والإعداد لما بعد مرحلة صدام حسين، لكن هذه الجهود ذهبت أدراج رياح قرارات رامسفيلد وبريمر».

الباجه جي علماني التفكير، وضد تدخل الدين في العمل السياسي، أو الخلط بين ما هو ديني وسياسي، ويرى أنه من الخطورة استخدام الدين أو استغلاله لأغراض سياسية، ومع ذلك زار المرجع الشيعي آية الله السيستاني في بيته في النجف للتعرف عليه عن قرب، يقول: «في بداية شهر يناير (كانون الثاني) 2004، زرت المرجع الشيعي آية الله السيستاني، وكنت وقتذاك رئيسا لمجلس الحكم، وعلى وشك ترؤس وفد من أعضاء مجلس الحكم إلى نيويورك، لمناقشة موضوع دور الأمم المتحدة في الانتخابات العراقية. كنت كلما ذهبت إلى نيويورك أزور الأمم المتحدة، والتقي الأمين العام، ووزراء الخارجية العرب وغير العرب وكبار المسؤولين، وألقي خطابات في بعض الأحيان. عندما ذهبت إلى السيستاني، كنت أتصور أني سألتقي رجل دين، ذا لحية بيضاء طويلة، يجلس على الأرض ليستمع فقط، لكنني فوجئت بأن سماحته مستمع جيد، وبين وقت وآخر ينطلق بالحديث بلغة عربية مشوبة بلهجة فارسية، ووجدته مطلع ومتابع جيد. تحدثنا عن الأوضاع السياسية، وحدثني عن الأمم المتحدة، وكيف يجب أن يكون دورها، وماذا عليها أن تفعل الآن إزاء العراق، وله اهتمام كبير بالسياسة، ولآرائه وزن كبير في الشارع العراقي، وبريمر كان يتبادل معه الرسائل من خلال موفق الربيعي».

ويرفض الباجه جي، وبقوة، التقسيمات العرقية والطائفية للمجتمع العراقي، التي لم يكن يعرفها العراق عندما تأسست دولته الحديثة عام 1921، إذ كانت الأحزاب والحكومات والبرلمان والمجتمع لا يفرق بين شيعي وسني أو بين كردي وعربي وتركماني، بل لم يميز بين مسلم ومسيحي ويهودي وصابئي ويزيدي. يقول: «كان من المفترض، وحسب خطط خليل زاد، تشكيل لجنة قيادية سداسية، تضم كلا من إياد علاوي وجلال طالباني ومسعود بارزاني وأنا وأحمد الجلبي وعبد العزيز الحكيم، ولم يكن هناك وجود لحزب الدعوة. والتقسيم كان بواقع 2 من القادة الأكراد، وعلمانيين اثنين، وواحد شيعي، وأنا أمثل السنة، وهذا ما جعلني أرفض هذا المقترح. وقد أخبرت خليل زاد، وقتذاك، وقلت له: أنتم تريدونني هناك باعتباري سنيا. حيث تم ترديد أن عدنان الباجه جي سني عربي، وأنا ضد هذه الفكرة تماما، وضد هذه التقسيمات القومية والمذهبية. وبعد مجيء بريمر، ووضع العراق تحت الوصاية الدولية، اقترحوا تشكيل هيئة قيادية من 7 أشخاص بدلا من 6، وطلبوا مني الانضمام إليها، لكنني رفضت من منطلق عدم الترويج للتقسيم الطائفي، واقترح الأكراد وضع نصير الجادرجي بدلا مني باعتباره عربيا سنيا، ثم أضافوا اسم إبراهيم الجعفري الذي كان يعاني إهمال الإدارة الأميركية له. وجاءني الجادرجي مع أعضاء حزبه (الوطني الديمقراطي) وسألني إذا كنت أعترض على ترشيحه للهيئة القيادية بدلا مني، فقلت له: لا، بل العكس، أنت مناسب لهذا الترشيح».

حتى ذلك الوقت، لم يكن الباجه جي قد التقى بريمر، الحاكم الأميركي المدني للعراق، ويوضح: «دعاني بريمر إلى اجتماع موسع، عقد في قصر المؤتمرات، وحضره الأعضاء السبعة، وأنا، والشريف علي، وكانت هذه المرة الأولى التي ألتقيه فيها (بريمر). ثم وصل إلى بغداد دي ميلو، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، برازيلي قتل في تفجير مقر الأمم المتحدة في بغداد، وكنت أول شخص يزوره، وأظهر تعاطفه، وقال: نحن على استعداد لمساعدة العراقيين. فأجبته: نحن غير راضين عن هذه الأوضاع كلها، فالعراق من أوائل الدول المؤسسة للأمم المتحدة وتضعونه تحت الوصاية، ثم إني شخصيا، ومنذ الخمسينات، كنت أقود الحملات في المنظمة الدولية لمنح الدول الاستقلال وضد الوصايات، وبعد هذا كله يكون العراق تحت الوصاية! وأضفت قائلا: العراق كان في لجنة الوصاية لتسع سنوات، وقبلها في لجنة تصفية الاستعمار، وفي لجنة الدول غير المتمتعة بالحكم الذاتي. وبينت له موقفي، وقلت: هذا غير مقبول، وخطأ كبير أن نكون تحت الاحتلال بقرار من الأمم المتحدة. لهذا، جهودي كلها سأجندها لتخليص العراق من هذه الوصاية، وسوف أعمل وفي أول فرصة لإنهاء هذا الوضع الشاذ، حتى يحصل العراق على سيادته، وتسلم الأمور إلى هيئة قيادية مؤقتة، ريثما تجري انتخابات ويقرر الشعب العراقي من يحكمه».

لكن بريمر «الذي عرف بتفرده، وتسلطه في اتخاذ القرارات» اقترح «تشكيل لجنة استشارية تساعده على إدارة البلد، وتكون أموال العراق تحت تصرفه، وهو من يتخذ القرارات كلها، فهو الحاكم العام، وكان متسلطا على الرغم من أنه يحاول أحيانا أن يكون لطيفا، لكنه في الوقت ذاته يذكرنا بأنه الحاكم العام، وأنه مسؤول مسؤولية دولية، وأن مجلس الأمن هو من أعطاه هذه المسؤولية، وأنهم قوة احتلال، وعندهم قوات على أرض العراق. رفضنا مقترح بريمر، وشددنا على أن تكون هناك هيئة عراقية، تكون مسؤولة عن الجانب التنفيذي، وقلت له: في الأقل في موضوع العلاقات الخارجية، فإذا صار اجتماع للجامعة العربية، فهل ستبعث بضابط أميركي يمثل العراق؟ أو أنت تمثله، هذا أمر غير معقول. رفض بريمر إعطاء العراقيين أي صفة تنفيذية، وأصر على الصفة الاستشارية، فصارت سجالات مطولة، رفض الجانب الأميركي خلالها تسمية المجلس حكومة عراقية، وتم إيجاد تسمية أقرب إلى الحكومة، فصار اتفاق على تشكيل هيئة تحمل اسم مجلس الحكم، باعتبار أن هذه التسمية هي الأقرب إلى الحكم بدلا من حكومة، على أن يتقيد هذا المجلس بقرارات مجلس الأمن، وأن يكون موضوع العلاقات الخارجية من حقنا، يعني نحن نمثل العراق في اجتماعات الجامعة العربية أو الأمم المتحدة أو أي اجتماع أو مؤتمر خارجي، وأيضا من حقنا تعيين الوزراء، وعلى أن لا يُتخذ أي قرار يمس بسيادة العراق أو يؤثر عليها إلا بموافقتنا».

ويبرر الباجه جي موافقته في الدخول إلى مجلس الحكم،قائلا: «أنا وافقت على أن أكون عضوا في مجلس الحكم، لأنني أردت العمل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ضمن قرار مجلس الأمن، وتقليل الضرر الناجم عن الاحتلال، والاستفادة من الظروف الجديدة لصالح العراق والعراقيين، والبديل كان المقاطعة، وهذا يعني أن الأميركيين سوف يحكمون العراق بشكل مطلق ومباشر، وهذا لم يكن في مصلحة البلد والناس، وهي بالتالي مسألة اجتهاد، هناك من قال: لو قاطعتم هذا المجلس لأحرجتم الأميركيين. لكننا عملنا على انسحاب الإدارة الأميركية من حكم العراق بوقت مبكر، ونتيجة جهود مستمرة».

بعد سنوات طويلة يعود الباجه جي إلى الأمم المتحدة ممثلا العراق، «إذ تشكل مجلس الحكم، وتلقينا دعوة من الأمين العام للأمم المتحدة بحضور اجتماع لمجلس الأمن في نيويورك، فرشُحت لرئاسة الوفد وبعضوية عقيلة الهاشمي - عضوة مجلس حكم اغتيلت بعملية تفجير سيارتها - وأحمد الجلبي. وذهبنا إلى الأمم المتحدة، حيث التقيت هناك وزراء الخارجية العرب، وبقية وزراء الخارجية الذين حضروا الاجتماع، وممثلي الدول الدائمة العضوية في المجلس، وممثل سورية، التي كانت وقتذاك عضوة في مجلس الأمن، وقد كان ممثلها متحفظا على طروحاتنا. ألقيت كلمة العراق، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يُسمع فيها صوت العراق في مجلس الأمن منذ الاحتلال، حيث قلت: إن حضور العراق إلى هذا الاجتماع يعني أن سيادة العراق قد أعيدت إلى العراقيين، لهذا يجب أن نتخذ الخطوات العملية لتفعيل هذا الموضوع».

ومن وجهة نظر الباجه جي فإن «العراق كان محتفظا بسيادته، وكل ما في الأمر أن الحكم كان في يد الإدارة الأميركية، وأعني هنا أن تمثيل العراق في المحافل العربية والدولية بقي مثلما هو ولم يتأثر، وكان اقتراحي الذي قدمته إلى مجلس الأمن والدول الكبرى هو أن يكون الحكم في يد العراقيين وبشكل كامل لممارسة هذه السيادة. وقد اتصلت بهذا الشأن بالأمين العام للأمم المتحدة، آنذاك، كوفي أنان. على أثر ذلك، دعا أنان وزراء خارجية الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن للقاء في جنيف، وطلبت مقابلة الأمين العام ووزراء الدول الخمس الكبرى في جنيف، إذ كانوا يبحثون مشروع قرار جديد يصدر عن مجلس الأمن، وكان رأيي أن يكون مشروع القرار عبارة عن إعادة السلطة إلى العراقيين عن طريق مجلس حكم موسع، يتكون من 120 بدلا من 25 عضوا، ينتخبون من بينهم هيئة قيادية أو تنفيذية تتولى حكم العراق، وتهيئ لانتخابات لمجلس تأسيسي يضع الدستور، ووفق هذا الدستور تجري انتخابات للبرلمان وحكومة دستورية».

ويرى أن «بريمر ارتكب أخطاء، وأسلوبه كان يخلو من الرقة أو الدبلوماسية، لكن الكثيرين من السياسيين العراقيين يلومونه ولا يلومون أنفسهم، وهو أيضا كتب عن أعضاء مجلس الحكم واستثنى البعض، ووصفهم بأنهم غير لائقين لإدارة الدولة، وذلك في معرض تبريره اتخاذه قرارات فردية. فأعضاء مجلس الحكم فيهم (الزين وبينهم الشين)، الجيد وغير الجيد، والشخصيات السياسية الجيدة معروفة، لكن المشكلة هو أن الاختيار تم على أساس طائفي، هذا شيعي وذاك سني».

ويؤكد أنه «لم يكن دور مؤثر للبريطانيين في الوضع العراقي، ذلك لأن بريطانيا وبعد الحرب العالمية الثانية فشلت، ولم تعد مؤثرة، وأرادت أن تتخذ موقفا ضد الولايات المتحدة في قضية السويس، وفشلوا فشلا ذريعا في هذا الجانب، لهذا انتهى دورها ويبقى ثانويا، وسمعتها استعمارية».

ويعبر الباجه جي عن اعتقاده بأن «الأوضاع اليوم في العراق هي الأسوأ، فالتقسيم الطائفي لا يزال مستفحلا، والوضع الأمني سيئ للغاية، والسلاح سائب في أيدي الناس، والدولة لا تدار بشكل صحيح، بل إنه من أسوأ العناصر اليوم هي التي تديرها، ودبلوماسيا العراق اليوم يعد من أضعف دول العالم، ولا يأبه به أحد، والجهد الدبلوماسي كله هو أن ينال العراق رضا بعض الدول».

ويحذر الباجه جي من «مخاطر فكرة إقليم الجنوب، التي تريد تحويل جنوب العراق إلى إمارة أو دولة، تكون بخيراتها وناسها تحت الحماية الإيرانية، ومن يدعو إلى هذا الإقليم يؤمن بولاية الفقيه، بل إن أحمدي نجاد أعلن في مناسبة سابقة لدى استقباله عمار الحكيم، بأن الحكيم يؤمن بولاية الفقيه، وهذا يعني أنه يؤمن بالانضمام إلى إيران، التي تتدخل بشكل مباشر في الشأن العراقي، مقابل هذا هناك تجاهل من دول الجوار العربي للقضية العراقية، وعدم اهتمام بالانتخابات، وهذا خطأ، فهذه الانتخابات ستقرر مصير العراق، وهو دولة مهمة، واستقراره مهم لكثير من الدول العربية المجاورة التي تربطنا بهم علاقات العروبة القومية».

وبخبرته الدبلوماسية والسياسية العميقة،يوضح أن «إيران تريد السيطرة على منطقة الخليج، بدليل أنهم يثيرون ضجة دولية إذا قال أحد (الخليج العربي)، ويصرون على أنه الخليج الفارسي، وهذا الموضوع لا يتعلق بالتسمية فحسب، بل بالجوهر، لأنهم يعتبرون منطقة الخليج كلها فارسية، وفكرتهم هي أن يعود العرب في منطقة الخليج إلى الصحراء، ويبقى الخليج بضفتيه لهم. والموضوع الأكثر خطورة الذي يجب أن تنتبه له الدول الخليجية هو أن العراق إذا سقط، إو إذا صار هناك إقليم الجنوب كمحمية إيرانية، فهذا يعني أن الخليج العربي سوف يسقط في أيدي الإيرانيين، وهم لن يضموا دول الخليج العربية إلى إيران مثلما فعلوا مع الجزر الإماراتية الثلاث، بل يضعون حكومات ضعيفة خاضعة لهم، ومع مرور الوقت يفتحون أبواب الهجرة واسعة أمام الإيرانيين، ثم بعد وقت قصير تكون الأغلبية الإيرانية أو الفارسية هي المسيطرة، فيدعون لاستفتاء عام بضم هذه الدول إلى إيران، تحت حجة أن هذه الدول عادت إلى أصولها التاريخية، وإذا سيطرت إيران على نفط الخليج فسوف تتحول إلى دولة عظمى. وعلينا أن نعرف أن إيران لا مانع لديها من أن تتفق مع إسرائيل لاقتسام المنطقة، بحيث تأخذ الدولة اليهودية ما تريد، وإيران تسيطر على العراق وسورية، وتركيا لن تتحرك باعتبارها ذاهبة إلى أوروبا».