حديث نصر الله «الهادئ» عن التعاون مع المحكمة الدولية.. يمهد لأزمة

حزب الله يستبق لوائح الاتهام ويبعث برسالة للمحققين بعدم الاقتراب منه أكثر

مناصرون لحزب الله يستمعون لنصرالله يلقي كلمة متلفزة (رويترز)
TT

عندما ظهر قبل أيام حسن نصر الله على شاشة المنار، يتحدث بهدوء واسترخاء غير معتادين عن المحكمة الدولية والاتهامات الموجهة لحزب الله باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، رحب في اليوم التالي معظم السياسيين اللبنانيين بمواقفه. قالوا إن حديثه «عن التعاون» مع المحكمة الدولية «إيجابي ويؤسس لمرحلة من الاستقرار السياسي في البلاد».

ولكن النبرة الهادئة لنصر الله، الذي يتحدث عادة بصوت مرتفع ولهجة تصعيدية عندما يريد أن يبعث برسائل واضحة، غشت السياسيين وجعلتهم يتجاهلون الإنذارات التي وجهها في حديثه للمحكمة وفريق التحقيق. فلم يعر السياسيون أهمية كبيرة لما قاله عن أن تعاون حزب الله مع المحكمة «لن يكون مفتوحا إلى ما شاء الله»، وأن قرار التعاون اتخذ «لعله يصوب التحقيق من التضليل».. كما لم يعلقوا كثيرا على تفنيده المطول للانتهاكات التي مارستها المحكمة، من الاستناد إلى شهود زور لطلب سجن الضباط، ثم تغطيتها لشهود الزور، وتوظفيها أشخاصا محسوبين على فريق سياسي معين..

وبناء على حديث نصر الله، أجرت «الشرق الأوسط» عدة أحاديث صحافية مع مسؤولين ومقربين من حزب الله، رفضوا جميعا ذكر أسمائهم لحساسية الموضوع. وعلى عكس كل التصريحات الإيجابية المرحبة بمواقف نصر الله التي صدرت في لبنان، فهناك من المتابعين من يرى أن موقفه يؤسس لمشكلة كبيرة حول المحكمة، «لها أول وليس لها آخر». ففي طيات الحديث الهادئ وجه الأمين العام لحزب الله إنذارا للمحكمة وكل من يعمل في فريق التحقيق من أن تعاون الحزب ليس مستمرا للأبد، وأشار، بعد أن ذكر عشرات الـ«... ولكن»، إلى أن حزب الله متعاون في الوقت الحالي، إنما قد يتوقف عن التعاون في المستقبل.

لم يعلق حزب الله أكثر على ما قاله نصر الله في مقابلته. ولم يشأ أن يفسر النبرة الهادئة، وما جاء في طياتها. واكتفى مسؤول العلاقات العامة في الحزب الدكتور إبراهيم الموسوي بالقول لـ«الشرق الأوسط» إن كلام «السيد نصر الله واضح، ويفسر نفسه، ويعبر عن مواقف الحزب».

ولكن بعض المتابعين يرون أن نصر الله أعطى نفسه الحق، بناء على الملاحظات التي سردها حول عمل المحكمة، أن يقول في أي مرحلة لاحقة من مراحل عمل المحكمة إنه يرفض قراراتها ويعتبرها مسيسة. والفرصة التي منحها نصر الله للمحكمة «لتصويب أدائها» عبر محاكمة شهود الزور، وغيرها من الشروط التي وضعها كان هدفها عدم الظهور بموقف سلبي بالمطلق من المحكمة. ويقول المتابعون إن هكذا موقف يعرف نصر الله أنه ستكون له تداعيات داخلية، وقد يتسبب في إعادة فتح السجال السني - الشيعي في لبنان، وهو ما لا يرى مصلحة له فيه في هذه المرحلة.

ويبدو أن الأجواء التي سبقت المقابلة، والتي هيأت لخطاب ناري سيعتمده نصر الله، مضمونه التهديد بـ7 أيار جديد، هي التي جعلت ما نطق به نصر الله يبدو هادئا. وبما أن التهديد بـ7 أيار جديد (عندما اشتبكت عناصر حزب الله مع مناصري سعد الحريري ووليد جنبلاط في بيروت والجبل) لم يرد في المقابلة، بدأ نصر الله للكل هادئا ومرنا ومعتدلا.. وذلك مقارنة بالشائعات التي سبقت، ومقارنة بموقفه الناري بعد صدور تقرير «دير شبيغل» الذي كان أول من تحدث أن هناك توجها جديدا في التحقيق في اغتيال الحريري، وهو توجيه الاتهام لحزب الله وليس سورية. حينها خرج نصر الله يتهم المجلة بالتآمر مع إسرائيل والغرب للتأثير على الانتخابات النيابية التي كانت ستجرى بعد فترة قصيرة.

وعلى الرغم من أن القصص حول تورط حزب الله في اغتيال الحريري ليست جديدة، بل تعود لنحو عام عندما صدرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية بقصتها الشهيرة، فإن الجديد اليوم، والذي أعاد تأجيج الأمور، هو استدعاء فريق التحقيق الدولي لمسؤولين في الحزب للاستماع إليهم. ولم يكن هذا الخبر أيضا ليتسرب إلى الإعلام لولا إعلان الوزير السابق وئام وهاب، حليف حزب الله ومقرب جدا من سورية، لذلك. وفي حين قال البعض إن حديث وهاب عن ذلك، وإعادة توجيه الأنظار إلى تورط حزب الله في اغتيال الحريري «أحرج حزب الله»، فإن آخرين رأوا فيه خطة مدروسة من الحزب نفسه.

وبحسب التحليل الأول، فإن سورية تحاول أن تبعد عن نفسها الشبهات التي حامت حولها طوال السنوات السابقة بتورطها في اغتيال الحريري، عبر إلصاق التهمة بحزب الله، بعد التقارب الأخير الذي حصل مع واشنطن. وإنها بالتالي تزرع عبر حليفها وئام وهاب تسريبات حول تورط حزب الله في اغتيال الحريري، وكانت قد سربت المعلومات نفسها إلى مجلة «دير شبيغل». ويؤكد مسؤولون أن الصحافي الألماني إريك فولاث الذي كتب القصة كان قد زار دمشق قبل شهر واحد على نشره تقريره الذي يقول فيه إنه اطلع على وثائق في المحكمة تظهر أن التحقيق يسير باتجاه توجيه الاتهام لعناصر في حزب الله وليس سورية.

أما التحليل الثاني، فيقول إن الضجة التي سبقت حديث نصر الله لم تكن بريئة، بل كانت «ضجة مدروسة»، وإن حزب الله نفسه هو الذي دفع وهاب إلى إعلان استدعاء لجنة التحقيق لأفراد في حزب الله للتحقيق معهم، لتوجيه ما يشبه الإنذار فحواه «لقد اقتربتم منا، انتبهوا، ليس من المسموح أن تقتربوا منا». ثم ظهر نصر الله ليوضح هذه التسريبات، ويؤكد استدعاء التحقيق لأفراد في حزب الله، وكأنه يقول «كفى»، أو «إننا وصلنا إلى مرحلة ما قبل الكفى».

ومن بين السيناريوهات التي يتم تداولها حول اتهام حزب الله باغتيال الحريري، هو توجيه الاتهام لأفراد في الحزب وليس للحزب ككل، وقد جرى الحديث أيضا عن اتهام عماد مغنية القيادي في حزب الله الذي اغتيل في سورية بأنه خطط للعملية. ويقول هذا السيناريو إنه سيتم اتهام عناصر في حزب الله لم يأخذوا أوامرهم من قيادتهم في لبنان، بل مباشرة من إيران، باغتيال الحريري، بهدف الفصل بين جناح سياسي وجناح عسكري لحزب الله.

ولكن هذا «الفصل» غير مقبول بالنسبة لحزب الله الذي لن يفرق بين اتهام أفراد في الحزب، أو الحزب ككل. وقد قال نصر الله ذلك بوضوح في حديثه. وينطلق كلام نصر الله هنا من أن «أسهل الأمور تحويل الاتهام إلى أشخاص أو حلقة في الحزب»، ولكن هذا غير مقبول، لأن «كرامة الشهداء بالنسبة لحزب الله أهم من أي شيء».

من المؤكد أن لا أحد يعرف ماذا في جعبة المدعي العام دانيال بلمار على وجه التحديد حتى الآن، كما أكدت سابقا الناطقة باسم مكتب المدعي العام، راضية عاشوري لـ«الشرق الأوسط». وقد لا يعرف أحد ماذا في جعبة بلمار إلا لحين إصدار المدعي العام لوائح الاتهام التي قد تصدر، بحسب ما علمت «الشرق الأوسط»، في نهاية العام الحالي.

ولكن مما لا شك فيه أيضا أن حزب الله يشعر بأن هناك شيئا ما يحضر ضده في قضية اغتيال الحريري، خصوصا بعد ما نشرته مجلة «دير شبيغل». حتى الآن، يبدو أن نصر الله قرر أن يمنح التحقيق الدولي فرصة «لأنه تدليل على النوايا». ولكن حديثه لتلفزيون المنار كان مؤشرا واضحا أن نصر الله سينقلب على المحكمة ساعة يشعر بأن حزب الله فعلا مهدد، من دون أن يتمكن أحد أن يقول له «لقد وعدت بالتعاون..» بعد أن فند ما فند من ملاحظات حول عمل المحكمة.