شافيز يواجه معارضيه.. بالاعتقال

انتقادات لحملة توقيفات تطال عاملين في القضاء والسياسة والإعلام

TT

عندما أصدرت القاضية ماريا لورديس أفيوني في ديسمبر (كانون الأول) الماضي حكما أثار غضب الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، لم يحاول الأخير احتواء غضبه، وإنما أعلن عبر شاشات التلفزيون أن هذه القاضية لو كانت في عصور سابقة، لوضعت أمام فرقة من الجنود لإطلاق النار عليها. وأرسل شافيز فرقة من شرطة الاستخبارات السرية التابعة له لإلقاء القبض على القاضية.

بعد ذلك، نقلها عملاء الاستخبارات إلى سجن مكدس بالنساء داخل أزقة هذه المدينة الواقعة قرب العاصمة كاراكاس، ووضعوها في زنزانة مع نحو 20 سجينة سبق وأن أصدرت بحقهن أحكام بناء على إدانتهن بجرائم مثل القتل وتهريب المخدرات. وقالت أفيوني (46 عاما) من داخل السجن: «تلقيت تهديدات من سجينات بأنهن سيحرقنني حية لأنهن يعتبرنني رمزا للنظام الذي زج بهن في السجون. إنني أعاني من هذا الجحيم لأنني تهورت وأقدمت على الاضطلاع بمهام عملي على نحو لم يرض عنه شافيز!».

منذ حبس أفيوني، شهدت البلاد سلسلة من إجراءات الاعتقال الأخرى ضد شخصيات بارزة جاءت بمثابة صدمة للكثيرين، مما يعكس تحول شافيز مؤخرا إلى الاعتماد على جهازه الأمني والاستخباراتي في سحق التحديات التي يواجهها في إطار مساعيه لإحكام قبضته على المؤسسات السياسية في البلاد. وتأتي عمليات إلقاء القبض في وقت يسود فيه غضب عام حيال الأوضاع الاقتصادية المتردية جراء نقص الكهرباء وتفاقم معدلات التضخم.

وأعلن مسؤولون رفيعو المستوى في حكومة شافيز، بينهم لويزا أورتيغا، التي تشغل منصب النائب العام، أن عمليات الاعتقال الأخيرة كانت ضرورية لقمع المؤامرات أو محاكمة أفراد أصدروا تعليقات اعتبرت مسيئة بحق شافيز. وبخصوص حالة القاضية أفيوني، قالت أورتيغا إن القاضية أقدمت على عمل غير قانوني وذلك بإطلاق سراح سجين بارز، وهو رجل أعمال يدعى إليغيو سيدينو.

في مارس (آذار) الماضي، ألقى عملاء الاستخبارات القبض على أوزوالدو ألفاريز باز، وهو مرشح رئاسي سابق، بناء على اتهامات بالتآمر بعد إدلائه بتصريحات تلفزيونية قال فيها إن فنزويلا تحولت إلى ملاذ آمن لنشاطات الإتجار في المخدرات، علاوة على تأييده لاتهام إسباني بأن مسؤولين هنا ساعدوا انفصاليي إقليم الباسك بتوفير التدريب لهم على الأراضي الفنزويلية.

وفي غضون بضعة أيام، ألقي القبض على غيليرمو زولواغا، الذي يملك محطة تلفزيونية معارضة تدعى «غلوبوفيزيون»، بعد انتقاده جهود الحكومة لإغلاق وسائل الإعلام التي تتحدى الرئيس. وفي أعقاب تصاعد التنديد من جانب الجماعات الحقوقية، أطلق سراح زولواغا شريطة عدم سفره إلى خارج البلاد.

بعد ذلك، ألقي القبض على ويلمر أزواجي، أحد المشرعين المعارضين، بناء على اتهامات بالتعدي بالإهانة والضرب على مسؤول شرطي في خضم مناقشة محتدمة. كان أزواجي قد كشف النقاب من قبل عن ادعاءات بالفساد ضد أقارب لشافيز. ومثلما هو الحال مع زولواغا، أطلق سراح أزواجي، لكن المحكمة العليا حظرت عليه مناقشة حادث إلقاء القبض عليه مع وسائل الإعلام.

وواضح أن عمليات الاعتقال استهدفت بعض أبرز الأصوات المعارضة لشافيز قبل الانتخابات التشريعية المقرر عقدها في سبتمبر (أيلول) المقبل التي ستحدد الجهة المسيطرة على المجلس الوطني، وتكشف هذه الإجراءات محاولات شافيز إحكام قبضته على مؤسسات بالدولة، مثل السلطة القضائية.

سرعان ما ذاع صيت القاضية أفيوني، التي كانت من قبل قاضية مغمورة، عندما أطلقت سراح سيدينو، وهو رجل أعمال تعرض للسجن بناء على اتهامات بانتهاك القوانين المرتبطة بالعملة. وجدير بالذكر أن سجن سيدينو، الذي تولى فيما مضى تمويل سياسيين معارضين، كان محل انتقادات علنية العام الماضي من جانب لجنة من خبراء قانونيين تابعة للأمم المتحدة بعدما تجاوزت فترة سجنه في انتظار المحاكمة الفترة المنصوص عليها في القانون الفنزويلي.

وتصر القاضية أفيوني على أنها كانت تتبع توجيهات الأمم المتحدة عندما أمرت بإطلاق سراح سيدينو، الذي فر لاحقا إلى الولايات المتحدة. لكن شافيز سارع باتهامها بتلقي رشوة من سيدينو، مطالبا بعقابها بالسجن لمدة 30 عاما، حتى وإن دعت الحاجة على إقرار قوانين جديدة لإبقائها في السجن طوال هذه المدة.

وأكدت أفيوني أن «اتهامات الفساد باطلة ويعلم المحققون ذلك بمجرد اطلاعهم على جميع سجلاتي المصرفية. لكن فات الأوان لتعويض الضرر الذي لحق بي». من جهتهم، لم يرد المحققون المعنيون بالنظر في قضية القاضية أفيوني على طلبات متكررة للحصول على تعليق منهم. كما جاءت الانتقادات من جانب أقرانها القضاة لقرار سجنها ضئيلة نسبيا، وهو رد فعل غير مثير للدهشة بالنظر إلى تجريد شافيز وأعوانه داخل المجلس الوطني المحكمة العليا من استقلاليتها عام 2004.

في المقابل، جاءت الانتقادات الصادرة من خارج فنزويلا أقوى، حيث دعا خبراء قانونيون يعملون لدى الأمم المتحدة إلى إطلاق سراحها فورا. وأعلنت «لجنة حقوق الإنسان بين الأميركتين»، أن إلقاء القبض على القاضية أفيوني جاء من جانب نظام سياسي يشعر بالفعل بضغوط بسبب غياب استقلال القضاء. وشنت جماعات مستقلة معنية بحقوق الإنسان هجوما ضد حكومة شافيز بسبب القبض على القاضية. وقال جوزيه ميغويل فيفانكو، مدير منظمة «هيومان رايتس ووتش» في الأميركتين: «هذا ليس نمط الإجراءات التي يمكن اتخاذها في ظل ديمقراطية فاعلة تعرض في إطارها ضمانات لفرض حكم القانون».

ورغم ذلك، يعتقد خبراء قانونيون هنا أن عدد السجناء السياسيين داخل السجون الفنزويلية ضئيل نسبيا، حيث تضم السجون حاليا ما بين 20 و30 سجينا سياسيا، بينهم القاضية أفيوني، بسبب نشاطاتهم السياسية أو لأسباب تتعلق بمعارضتهم علانية لسياسات شافيز، حسبما قال روسيو سان ميغويل، وهو خبير قانوني هنا يرأس مجموعة غير حكومية تتولى مراقبة جهاز الأمن الفنزويلي.

ومن بين السجناء البارزين راؤول إسياس بادويل وزير دفاع سابق، وفرانكلين بريتو عالم بيولوجي ألقي القبض عليه تقريبا في فترة إلقاء القبض على القاضية أفيوني نفسها ووضع قيد الحراسة داخل مستشفى عسكري في أعقاب رفضه إنهاء اعتصامه وإضرابه عن الطعام بسبب استيلاء الحكومة على أرض زراعية يملكها.

في الوقت الذي أثارت فيه قضية القاضية أفيوني القلق حيال انحسار استقلالية القضاء، أشعلت عمليات إلقاء القبض الأخيرة المخاوف إزاء حرية التعبير. وقال ألفاريز باز، المرشح الرئاسي السابق الذي واجه اتهامات بالتآمر في أعقاب تعليقات أدلى بها خلال مقابلة تلفزيونية: «تعمد الحكومة إلى اختلاق مؤامرات ومخططات اغتيال وحالات طوارئ وطنية». ويجري احتجاز ألفاريز باز حاليا داخل مقر رئاسة الشرطة الاستخباراتية. وقد استجاب لطلبات كتابية بعثنا بها إليه عبر محاميه. وأضاف أن الحكومة تفعل ذلك «انطلاقا من خوفها بسبب الانحسار الخطير في مصداقية الرئيس على الصعيدين الداخلي والخارجي».

وأشارت القاضية أفيوني إلى أنها تابعت أنباء عمليات إلقاء القبض الأخرى من خلال تلفزيون صغير في داخل زنزانتها يعرض بث شبكة تلفزيونية حكومية. كما تحصل على أحدث الأنباء من ابنتها البالغة من العمر 17 عاما التي تزورها مرتين أسبوعيا. فيما عدا ذلك، تبقى داخل زنزانتها وتعكف على القراءة، خاصة السيرة الذاتية للدالاي لاما، خوفا من الدخول إلى أي أماكن أخرى داخل السجن.

أما فترة الراحة في سجنها المرير فجاءت عندما نمت إلى مسامعها أصوات موسيقى فرقة أوركسترا السجن أثناء تدريبها، ودفعتها الموسيقى إلى حافة البكاء. وقالت: «في اللحظة التي سيطر علي الشعور بالعجز عن تحمل هذا الوضع، مكنتني الموسيقى من الفرار بعيدا عن الواقع قليلا وذكرتني أن هذا الكابوس يتلاشى يوما ما».

* أسهمت ماريا إيوجينيا دياز في إعداد هذا التقرير

* خدمة «نيويورك تايمز»